اسمك وصورتك وسجلّك الجنائي معروض في الطريق العام على شاشة ضخمة، تقول الشاشة للجميع إنك ارتكتب الخطأ الفلاني وتحذرهم من أن يصبحوا مثلك. تحديد الخطأ وكتابة اسمك وبياناتك لا يستغرق بضع ثوان، ولا يحتاج موظفًا ليكتبه، الآلة ستقوم بكل شيء.

يكفي المواطن الصيني أن يكسر إشارة المرور الحمراء مرتين ليصبح جانيًا، ومخالفًا لقوانين الدولة الصينية، ومستحقًا للتشهير على الشاشات، والأغرب أن كل ذلك يتم تحديده آليًا بتقنيّات التعرف على الوجه. والكاميرات الصينية المتطورة قادرة على تمييزك من وسط مليون مواطن آخر، ورصد أبسط مخالفة كأن تنتقد الحزب الحاكم همسًا وأنت تسير في الشارع، أو حتى تتصفح موقع إنترنت لا تحبه الحكومة.

ويمكن أن يُسحب منك لقب المواطن الصالح، حرفيًا لا مجازًا، وتصبح في مرتبة متدنية لا تمتلك امتيازات المواطنة، بسبب أنك اشتريت سجائر أكثر من الحد المسموح، أو اشتريت أطعمة غير صحية بصورة أكبر مما تسمح به الدولة، أو لأن مديرك في العمل لا يرضى عن أدائك، أو تأخرت في سداد أقساط سيارتك أو قرضك البنكي.

الشاشات ليست وحدها من يراقبك، فالشرطة السرية تحيط بك في كل مكان تراقب أفكارك ورد فعلك على خطط الدولة وخطابات المسئولين. والتقنيات الصينية تحاول الآن التعرف على الأشخاص من طريقة سيرهم كي تتعرف عليهم من مسافات بعيدة.

العدو الأول هو الشعب

فن الحرب، عمل كلاسيكي كتبه سون تسو فيلسوف صيني مرموق، يؤكد على أن المعلومات هي أساس كسب أي حرب. لتكسب الشعوب المعلومات تقوم بعمليات تجسس تقليدية، لكن الصين لها منطقها الخاص في جمع المعلومات، الذي يكون في غالب الأحيان لا منطقيًا.

فالصين تعتمد على مبدأ الأمواج البشرية، فتقوم بتجنيد آلاف الصينيين للحصول على قطع شديدة الصغر من المعلومات بحيث لا يثير كل واحد منهم الشك منفردًا، لكن في النهاية تجتمع صورة شديدة الوضوح لدى القيادة. والطريقة التقليدية الأخرى هي زرع وتجنيد الوكلاء، لكن الصين تقوم بتلك العملية بصبر شديد وتأنٍ ملفت للنظر قد يستغرق الأمر منها سنوات، لكن حال نجاح عملية واحدة من عمليات الزرع يصبح للصين عين نافذة في مناصب شديدة الحساسية في الدول المستهدفة.

ليكن لديك جواسيس في كل مكان، اعرف كل شيء ولا تهمل أي شيء مما يمكن أن تعلمه.
سون تسو

لكن الملفت في حالة الصين أنها جعلت عدوها الأول هو شعبها، لذا فأول من تهتم الدولة بمراقبة كل خطواته ومعرفة نواياه، هو المواطن الصيني نفسه. وفي سبيل ذلك تجمع الصين تقنيات التجسس القديمة والحديثة لأجل بناء نظام واحد خارق، في ذلك النظام تُستخدم الهواتف المحمولة وكاميرات التعرف على الوجه وقاعدة بيانات البصمات.

 وبمجرد دمج كل ذلك تصبح الدولة قادرة على معرفة هويّة كل فرد يسير في الشارع، ومعرفة من يجتمع مع من، ولكم دقيقة تحديدًا، وماذا يقولون.

منصة العمليات المشتركة المتكاملة، هو اسم النظام الذي تطوره شركة تِشاينا إلكترونيكس المتعاقدة مع الجيش الصيني. في تلك المنصة سوف يكون متاحًا لدى الحكومة معرفة اسم وعنوان كل مواطن، ونوع التطبيقات التي يحملها على هاتفه، والرسائل النصية التي يتبادلها، وسجلات سفره وتحركه، وتاريخ بحثه على الإنترنت.

أنت معاقب: لا تركب القطار

ولن تقوم السلطات الصينية باعتقال الشخص إذا لاحظت أنه صار مصدر خطر أو معارضًا لسياسات الحزب الشيوعي الصيني، بل ستقوم بزيارته فور أن تلحظ المنصة تغيّرًا في النمط المعتاد لحياته، حتى لو كان تغيّرًا نحو مزيد من البُعد عن السياسة، أو حتى نحو المزيد من الولاء للحزب الحاكم، فالمنصة، ومن خلفها الحكومة الصينية، لا تريد أن يطرأ على المواطن أي تغيير سلبًا أو إيجابًا.

ووفقًا للمنصة فسوف يحصل على فرض على تقييم رقمي، هذا التقييم يعتمد على درجة تماهيه مع سياسات الحزب الحاكم ودرجة رضاء القائمين على المنصة عنه، ووفقًا لهذا التقييم سوف تتخذ المنصة قرارًا بمكافأة المواطن أو عقابه، المكافأة قد تكون بالسماح له بالسفر إلى الجهة التي يريدها، أما العقاب فقد يكون رفض منحه قرضًا ماليًا بسبب تقييمه السيئ.

وحاليًا هناك أكثر من 11 مليون مواطن ممنوعين من ركوب الطائرات بسبب تقييمهم المتدني، و4 ملايين آخرين لا يستطيعون شراء تذاكر القطارات، وبضعة ملايين أخرى ممنوعة من تصفح شبكة الإنترنت الصينية.

لأنه في الصين لا يمكن فصل العمل عن السياسة، ولا يمكن فصل السياسة عن الحزب الحاكم، فأعضاء الحزب الشيوعي قرابة 95 مليون عضو، معظمهم مجهول الاسم حتى يتمكن من العمل في أي جهة والتجسس على أي أحد والعودة لقيادات الحزب بتقريره.

ازدهار تجارة التعذيب

الصين أصبحت رائدة في مجال التجسس الداخلي إلى درجة أنها باتت تُصدّر تقنياتها للخارج، فمن أصل 65 دولة خضعت لفحص معلوماتي من مؤسسة فريدم هاوس لقياس مدى الحرية في تلك البلاد، وجدت المؤسسة أن 18 دولة اشترت أجهرة تجسس وتتبع وتقنيات التعرف على الوجه من الحكومة الصينية من أجل استخدامها في مراقبة شعبها.

فكأنما تعيد الصين تشكيل العالم ومستقبله، ليصبح المستقبل كئيبًا ومظلمًا كحال الصين. فكما تقول منظمة هيومن رايتس ووتش فإن الصين تعمل على نحو ممنهج بمنع قطاع عريض من حقوق الإنسان سواء في التجمعات السلمية أو حتى في حرية المعتقد.

لذا تزدهر في الصين تجارة من نوع خاص، تجارة التعذيب. فدول العالم تستورد أدوات التعذيب من 130 شركة حول العالم، تلك الشركات صينية جميعها. من تلك الأدوات ما هو علني كهراوات الصعق الكهربائي وأصفاد القدمين، وقنابل الغاز المسيل للدموع أو المقذوفات البلاستيكية.

ازدهار التجارة يأتي بعد ازدهار الصناعة، وازدهار الصناعة نابع من استخدام المنتجات محليًا، فالصين تعتمد مبدأ المراقبة الجماعية. المراقبة التي وُلدت مع ولادة جمهورية الصين نفسها عام 1949، حيث أدخل ماو تسي تلك التقنية من أجل السيطرة على الشعب الصيني بأكمله كي يضمن لنفسه سلطة أبدية ونفوذًا لا نهائيًا في الحكومة.

القادم أسوأ

ظل الأمر حاضرًا في الوعي الصيني حتى خصصت الصين لمراقبة شعبها 13% من الموازنة العامة، وهو رقم يفوق إنفاق الصين على الدفاع الخارجي والجيش. وبعد بضع سنوات زاد الإنفاق الصيني على المراقبة الداخلية ليصل إلى 197 مليار دولار أمريكي، ما يعادل 5 أضعاف الإنفاق عام 2010.

وفي عام 2018 اشترت الصين وحدها بما قيمته 20 مليار دولار أمريكي كاميرات مراقبة ودوائر تلفزيونية مغلقة، ما يعني أن الصين مثّلت في ذلك العام 50% وحدها من تجارة  الكاميرات والدوائر المغلقة.

لكن الصين لا تريد أن تظل معتمدةً على تلك التقنيات، بل تخطط لمرحلة أكبر، صناعة السلوك. فالصين تعمل عبر جهازها الإعلامي وشرطتها السرية للوصول إلى غرس ولاء أعمى غير مشروط في الأفراد، ما يؤدي للتلاعب بنفسيّاتهم وصناعة سلوكهم.

ما يخفف من قلق الحزب الحاكم من انشقاقات في صفوفه أو في صفوف المواطنين المواليين له، ويوفر كذلك على الصين المليارات التي تنفقها من أجل إخضاع مواطنيها.