أعلن أكثر من مرة أنّه يقتدي بـ«شارل ديجول» و«فرانسوا ميتران». وأنّه يريد أن يعيد الدبلوماسية الفرنسية إلى عصرها الذهبي كما كانت في عهديهما. لكنّه يدرك تواضع قوة بلاده أمام الولايات المُتحدة وروسيا. لهذا يحاول الانطلاق مستغلًا أن بلاده عضو دائم في مجلس الأمن، وقوتها العسكرية والنووية ذات وزن نوعي. هذه الانطلاقة اختار لها ماكرون أن تكون في الشرق الأوسط. وأرادها أن تبقى تحت مظلة الاتحاد الأوروبي ككل.

ولإداركه حقيقة الوضع العسكري لدولته صار يبحث عن سبلٍ خلاف القوة العسكرية يستطيع من خلالها أن يُثبت زعامته للجميع. وأنّه القادر على التحدث مع الجميع في أي شأن بواقعية وحكمة واضحة. لكن التاريخ الاستعماري الفرنسي يقف حائلًا أمام وصول حديثه إلى من يُخاطبهم. ولأنّه جاد في تأسيس علاقة قوية بالشرق الأوسط. فعل ما رفض سابقوه القيام به. اعتذر ماكرون عن هذا التاريخ. ولهذا الاعتذار تأثير قوي على دخول ماكرون في أحضان دول الشرق الأوسط.

هذا الاعتذار جاء ليخدم مصلحة فرنسا بعيدًا عن تحسين صورتها من عدمه. ربما أراد ماكرون باعتذاره أن يرسم صورة فرنسا صاحبة المبدأ. فرنسا التي تتوافق قيمها «الحرية، الإخاء، المساواة»، مع مصالحها السياسية والاقتصادية. هذا هو الوضع الأكثر مثالية الذي تحلم به أي دولة. ولكن إذا اضطرت الدولة إلى الاختيار بين مصالحها وقيمها؛ فلا شك أنّها تختار المصلحة.

تلك الحقيقة التي أكدّها ماكرون ذاته بتعامله مع الدول الأفريقية ممثلةً في تحالف «خمسة الساحل». التحالف يضم بوركينا فاسو، النيجر، مالي، تشاد، وموريتانيا. في هذه الدول الخمس يحاول ماكرون تثبيت وجوده بالسلاح لا السياسة. ويهدف إلى نشر قوة قوامها 5 آلاف جندي. تلك القوة هى الحل لجميع المشاكل الأفريقية كما وصفها ماكرون.


ماكرون يستكشف العالم الجديد

جاء ماكرون والخريطة السياسية والجغرافية في الشرق الأوسط غير مستقرة. ومن المنطقي أن يعمل كباقي الدول على إعادة التموضع بما يتوافق مع هذه المُتغيرات. وبما يضمن لدولته مكانًا أكبر من ذي قبل. كان من المتوقع أن يستغرق «ماكرون» وقتًا طويلًا في التأقلم مع مهام الرئاسة. وأن يقضي الشهور الأولى من حكمه في تثبيت أركان دولته داخليًا، وفي دراسة الواقع المتخبط خارجيًا. لكن جاءت أولى حركات «ماكرون» الجريئة أقرب مما تصور الجميع.

بعد شهرين من توليه الرئاسة طرح مبادرةً لتسوية الوضع الليبي. استضاف رئيس حكومة الوفاق الليبي «فائز السراج» والمشير «خليفة حفتر» للاتفاق على أن السياسة هى الحل لا الصراع. وبالفعل صدر بيان مشترك من الغريمين. جاء في البيان الاتفاق على وقف إطلاق النار، والعمل لتنظيم انتخابات. أغضب هذا الأمر إيطاليا، ودعت ماكرون إلى العودة لحظيرة الاتحاد الأوروبي، وأن يكف عن العمل منفردًا.

لم يبال ماكرون بغضب إيطاليا، وكذلك غاب التنفيذ الفعلي للاتفاق. ما يطرح تساؤلًا مشروعًا حول وزن النفوذ الفرنسي الفعلي على الأرض. قد يصدق هنا الوصف القائل بأن مبادرات فرنسا للظهور ليست سوى مبادرات «الوقت الضائع». إذ جاءت بعد تراجع شمس الهيمنة الأمريكية. ويمكننا المجازفة بوصفها بالمبادرات غير الجِدّية. ما يعني أن سياسة ماكرون الطموحة قد ينتهي بها الأمر مكملةً للسياسة الأمريكية، ودائرةً في فلكها، لا مستقلةً عنها كما يطمح ماكرون.

تتعدد أبعاد سياسة ماكرون. فهو لا يكتفي بالبعد المُعتاد عبر تعميق النفوذ الفرنسي في معاقله المعتادة كلبنان مثلًا. حيث برز الدور الفرنسي في نزع فتيل أزمة استقالة الحريري، التي كانت مفاجئة توقيتًا ومكانًا. وتواترت الأنباء أنّه أُجبر على الاستقالة. حينها طار ماكرون إلى ولي العهد «مُحمد بن سلمان». تباحثا في شأن الحريري . توسط ماكرون لإعادة سعد الحريري إلى بيروت. ونجحت مساعي ماكرون، وكانت فرنسا هى وجهة الحريري الأولى في جولته السريعة. حيث استقبله ماكرون بـ«أهلًا وسهلًا». حرص ماكرون أن تكون باللغة العربية، وإن كتبها بحروف لاتينيّة.

ربما كان اهتمام ماكرون بالأزمة نظرًا لأن الحريري يحمل الجنسية الفرنسية. أو أن ماكرون قد خشي أن يضطر إلى التعامل مع أزمة أكبر في لبنان، إذا بقيت الأخبار تتواتر عن احتجاز الحريري. كما يمكن أن تندرج تلك المحاولة تحت بند الاعتذار «الماكروني» عن جرائم فرنسا الاستعمارية الماضية. وربما كان الهدف ثنائيًا. إنقاذ سعد الحريري، دون المساس بالسعودية. وخلق مخرج طوارئ تستطيع السعودية من خلاله حل الأزمة التي خلقتها، وفي نفس الوقت تحفظ ماء وجهها.

وفي كل الأحوال فقد مثلت أزمة الحريري الحجة المُنتظرة. انتظرتها فرنسا لتعود إلى لبنان مرة أخرى منذ خروجها من لبنان عام 1981، بعد اغتيال سفيرها «لوي دولارما». لتبدأ فرنسا شوطًا جديدًا تحاول فيه زحزحة الدول التي حلت محلها كبريطانيا والولايات المُتحدة.


المهمة المستحيلة: الفوز بالسعودية وإيران

هذا يقودنا إلى الأبعاد الأخرى لسياسة ماكرون. محاولة خلق مناطق نفوذ جديدة، مثل دخوله على خط الأزمة القطرية بصورة مباشرة. فبالإضافة لرفضه موقف الدول الأربعة، أعلن في أوائل ديسمبر/كانون الثاني 2017 عن صفقة مقاتلات فرنسية لقطر بقيمة 1.3 مليار دولار.

والبعد الثالث، هو الرابط المشترك في كل حركات «ماكرون» هو محاولته الدائمة للموازنة بين مصالح فرنسا المختلفة. حتى وإن كان مع دول متناقضة. كما فعل في محاولة إنقاذ الحريري. كذلك في إيران، حيث لعب ماكرون لعبةً جريئة. دافع بقوة عن الاتفاق النووي الإيراني أمام تهديدات الولايات المُتحدة. وفي ذات الوقت انضم للولايات المُتحدة في إثارة الحديث حول البرنامج الصاروخي الإيراني ودعا للتفاوض بخصوصه.

ويحاول وزير الخارجية الفرنسي «جان إيف لورديان» في زيارته المرتقبة في يناير/كانون الأول الجاري أن يدفع طهران لإعادة النظر في البرنامج الصاروخي من أجل تفادي دعوات الولايات المُتحدة بإسقاطه. وتقول «لانييس لوفالوا»، نائبة رئيس معهد بحوث ودراسات المتوسط والشرق الأوسط، إن الإيرانيين يطمعون في أن تقود فرنسا الدعم الأوروبي لموقفهم في وجه الولايات المُتحدة. كما تصف أن الإيرانيين لا يثقون بالإنجليز، كما لا يرون ألمانيا دولة ذات نفوذ.

رغم الحذر الشديد إلا أن لعبة التوازن الفرنسية تلقت صدمة قوية. فبينما يحاول ماكرون الحفاظ على الود بينه وبين السعودية، أعلن «لورديان» من الرياض أن فرنسا قلقة من نزعة الهيمنة الإيرانية في الشرق الأوسط. أثارت تلك التصريحات غضبًا إيرانيًا، وقلقًا من التقارب الفرنسي السعودي. فصرّح المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، بهرام قاسمي، بأن لفرنسا رؤية أحادية الجانب منحازة تجاه الأزمات التي يشهدها الشرق الأوسط مما يُسهم في إشعال الأزمات الكامنة.

المعضلة التي يواجهها ماكرون أن السعودية ترى النقيض تمامًا. فهى الأخرى قلقة من التقارب الفرنسي الإيراني. وزاد غضبها من مطالبة ماكرون لـ «ابن سلمان» بفك الحصار عن اليمن. ودعّم من شكوك الرياض تعقيبُ ماكرون على التصريحات السابقة حيث أكد أن إيران أساءت تقدير الموقف الفرنسي.

وللسعودية الحق في التشكيك في نوايا ماكرون. فبعد أيام من اندلاع المظاهرات في إيران،اتصل ماكرون بالرئيس الإيراني الشيخ حسن روحاني. ثمّن ماكرون في اتصاله دور الحرس الثوري الإيراني في قمع تنظيم «داعش». واستنكر ماكرون الذين يضعون إيران ضمن دول محور الشر. لم يفوّت «روحاني» الفرصة. وضع ماكرون أمام اختبار آخر ليثبت به صدق نواياه. طالبه «روحاني» باتخاذ موقف من «مجاهدي خلق» الذين وصفهم روحاني بالإرهابيين. وكذلك أعاد ماكرون إلى النقطة الأولى، برنامج الصواريخ الإيرانية. أكد روحاني أن البرنامج من أجل الدفاع عن البلاد، وأن إيران لن تترد في امتلاك ما يجب امتلاكه للدفاع عن نفسها.

لهذا تُعتبر زيارة وزير الخارجية المرتقبة لإيران مهمة، إذ تعتبر تمهيدًا لزيارة رسمية من ماكرون. زيارة ماكرون ستكون أول زيارة لرئيس فرنسي منذ ثورة 1979. ينتظر الجميع ليشاهد كيف ستحقق فرنسا معادلة التوازن بين قضيبيّ قطار المنطقة، السعودية وإيران.


اليمن وسوريا: قطع النار التي يشتهيها الجميع

لم تتوقع فرنسا أن يطول الأمر في سوريا، ولهذا نأت بنفسها بعيدًا في بداية الأزمة. لكن الآن بعد هذه السنوات، يحاول ماكرون أن يجد لنفسه مكانًا وسط الأطراف الفاعلة. لأجل هذا تخلى عن شرطه السابق بضرورة تنحي الأسد. لكنّه التزم بضرورة تقديمه للمحاكمة على جرائمه. يشتمل هذا الموقف على نوعٍ من التناقض. كيف يمكن أن أُجرى معك مفاوضات، يكون هدفها تقديمك للمحاكمة. غير أن اعتراف ماكرون بالأسد كـ «مُحاور» يعطي الأسد اعترافًا ضمنيًا بشرعية بقائه رغم ما شهدته وتشهده سوريا الثورة.

حتى بعد هذا التنازل الفرنسي، لم يلق ماكرون ترحيبًا من سوريا أو روسيا. الأسد انتقد فرنسا قائلًا أنّه لا يحق لها التحدث عن السلام بعد أن كانت «حاملة لواء الإرهاب» بدعمها الفصائل المُعارضة لنظامه في 2011. وروسيا تفضل التحدث مع الولايات المُتحدة مباشرة في تفاصيل الشأن السوري دون الحاجة إلى وساطة أحد. خاصةً إن كان ماكرون، الذي لم يدعمه بوتين ولم يرحب به منذ اليوم الأول.

لكن رغبة ماكرون في لعب دور «الوسيط الشريف» جعلته يتناسى عدم الترحيب الروسي إبان الانتخابات. واستقبل بوتين في قصر فرساي. استقبل بوتين بعدما استقبل ترامب بمناسبة احتفالات 14 يوليو/تموز. فمن الواضح أن ماكرون يريد أن يكون أمين سر جميع أطراف الأزمة في آن واحد، الولايات المُتحدة، روسيا، الأمم المُتحدة، الاتحاد الأوروبي، تركيا، والسعودية.

أما عن اليمن، فمنطقة جديدة يحاول ماكرون أن يجد موطأ قدم فيها. أحدث محاولات ماكرون كانت في 24 ديسمبر/كانون الثاني 2017. اتصالٌ هاتفي مع الملك سلمان بن عبدالعزيز يطالبه فيه ماكرون برفع حصار التحالف العربي عن اليمن. وطالب بأن تسمح السعودية بإيصال المساعدات إلى اليمن.

ثم بعد أيام أصدر قصر الإليزيه بيانًا يُؤكد أن الحل لن يكون عبر السلاح. فالصراع يتخطى كونه بين الحكومة المُعترف بها دوليًا، وبين الحوثيين المُتمردين. بل بين التحالف العربي الذي يدعم الحكومة وبين إيران الداعمة للحوثيين. لهذا فإن المفاوضات هى الحل الوحيد. وفي الاتصال ذاته، أعاد ماكرون حديث وزير خارجيته السابق. إذ انتقد إيران مؤكدًا على ضرورة مواجهة أنشطتها الهادفة إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة.


الجزائر: الرِدة الكبرى للرئيس عن مبادئ المُرشح

في فبراير/شباط 2017 وثّق المُرشح الرئاسي سياسته الاعتذارية بخصوص تاريخ فرنسا الاستعماري. اعترف بأن ذلك الاستعمار جريمة ضد الإنسانية. لكن قبل عام كان ماكرون قد صرّح بأن الاستعمار كان به جرائم بشعة، لكن كان به جوانب حضارية، ومواقف سعيدة. وبعد الوصول إلى سدة الحكم عاد إلى تصريحه الماضي فذكره مرةً أخرى في مؤتمره الأخير في بوركينا فاسو.

لم يشأ ماكرون أن يقف الماضي أو موقفه المتردد من الاستعمار عائقًا أمام اجتذاب الجزائر. فزارها في ديسمبر/كانون الثاني الماضي. زيارةٌ وصفها العديد من المحللين بأنها محاولة فرنسية لإيجاد حليف مناسب حال انتقال السلطة من يد الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة نظرًا لتدهور حالته الصحية.

في زيارته صرّح ماكرون بأنّه يعرف الماضي جيدًا، لكنّه ليس رهينة له. وأنّه في الجزائر من أجل بناء علاقة صداقة وشراكة تقوم على الندية، الصراحة، والمعاملة بالمثل. ويُعد الموقف الفرنسي من الجزائر شاهدًا قويًا على السياسة العامة التي يريد ماكرون أن ينتهجها في الشرق الأوسط. فلكل مرحلة حديثها اللائق بها. وبدلًا من بناء موقف واضح من القضايا، يمكنك أن تضفي مزيدًا من الضبابية حول مواقفك. فيمكن حينها أن تستخدم موقفك الواحد دليلًا على الأمر ونقيضه.


كيف برزت فرنسا في الصورة

نمو الموقف الفرنسي يأتي استغلالًا للأوضاع الراهنة. فالولايات المُتحدة تنسحب شيئًا فشيئًا من قضايا المنطقة. وتزداد حدة التراجع مع قرارات ترامب بتقليص عدد موظفي الخارجية. ومع إعلان ترامب الأخير فقدت الولايات المُتحدة صفتها كوسيط في أعمق صراعات الشرق الأوسط، الصراع العربي – الإسرائيلي. ليظهر متسعٌ يمكن للرئيس الشاب، والوجه الجديد، أن يستغله لتعريف نفسه على أنه الوسيط الجديد لهذه القضية.

وبالفعل رفض ماكرون هذا الإعلان الأحادي. وأكدّ أن مصير القدس تحدده المفاوضات بين طرفي النزاع. قلل ذلك التصريح من حدة الغضب السابق إزاء دعوة «نتنياهو» لحضور إحياء ذكرى تسليم اليهود الفرنسيين إلى النازيين. في تلك الذكرى أوضح ماكرون أن معاداة الصهيوينة هى الشكل الجديد لمعاداة السامية. لكن بعد يومين فقط من رفض قرار ترامب، استقبل نتنياهو مرةً أخرى.

وكذلك بريطانيا صارت مشغولةً بمستقبلها بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي. ومثلهما صارت ألمانيا ملتفتةً إلى شئونها الداخلية، لاسيما في ظل ما تشهده من تعثر سياسي.

لكن لا نستطيع أن نُؤمل الكثير على سياسة ماكرون. فكل من سبقوه أعلن أنّه سيتعامل مع القضايا العربية بصورة مختلفة. وكذلك فإن احتمالات فشل سياسة ماكرون بالتآلف مع الجميع أكثر من احتمالات نجاحها في ظل الاستقطاب الحاد في المنطقة.

فليس من المتوقع أن يتنازل نتنياهو عن أحلامه لمجرد أن ماكرون خاطبه باسم «بيبي»، الاسم المُصغر له. أو يُقنع بشار بالتنازل عن السلطة عبر التفاوض معه. أو تكف إيران عن حلمها الصاروخي تأثرًا بكلمات ماكرون. وعلى ماكرون أن يستمع إلى «ديغول» حين قال إنّه استطاع مقاربة الشرق الأوسط المعقّد بأفكار مبسّطة للغاية. تلك الأفكار المبسطة التي يفهمها الشرق الأوسط هى أن تكون مع أو ضد. لا يقبل الشرق الأوسط، ولا يسمح الواقع، أن تكون مع الجميع، وضد الجميع.