(1)

طرقت الراهبة متيلدا باب غرفة المدير، ثم فتحته برفق.

– عادت مَلَكِة من جديد دكتور فارتان!

مرّ شهر كامل على آخر نوبة ألم أصابت مَلَكِة. بينما هم مشغولون بالتّحضير لاحتفال عيد الميلاد، ويحاولون إنهاء العمل مبكرًا كي يتوجهوا إلى الكنيسة للصلاة، لكنّ مَلَكِة دخلت من الباب بصحبة أبيها.

– سامحونا، نعرف أنه يوم عيد، لكنها تتعذب. هذه المرة، أشدّ من كلّ مرّة.

كلّ مرة يكون الألم أشدّ فيها من سابقاتها، وكلّ نوبة يقدّم الأب حديثًا معتذرًا. ربما يعتذر به عن عجزه أن يساعد ابنته، ولكن دكتور فارتان كان مقتنعًا أنه يعتذر سلفًا عن إحراجهم هم، لعجزهم أن يساعدوا مَلَكِة.

يوم العيد، لم يطل الحديث مع الأب، فجميعهم يريدون اللحاق بالكنيسة لإتمام التجهيزات وحضور القدّاس. فعندما رآها وأباها عند الباب، أدار ظهره وفتح باب غرفته، ثم أخرج من خزانته بطحة عرق محلي (مشروب كحولي) مليئة بالنصف. تناولها من بين باقي القوارير الأنيقة بسرعة، وخرج إلى الأب مادًا يده نحوه محذّرا:

– أعطها حاجتها منها حتى تسترخي وتنام، وإذا بقي شيء بعدها فهو لكم. وعندما تنام غطّها بما عندكم من ألحِفه، لتدفأ جيدًا.

أمّا اليوم فقد اختلف الأمر تمامًا، دخلت الأخت متيلدا لتبشّره بقدوم الصبية، فنهض عن كرسيّه وتوجه نحو خزانة الكتب وتناول عن رفّها الأوسط مجلّدًا سميكًا، يحمل عنوانًا عريضًا مرسومًا بحروف لاتينية جميلة.

– أمهليني بضع دقائق، وسأخرج إليهم.

– حسنًا دكتور، لكنها تتلوّى مثل الحية، معها أمها وأبوها وشاب لم أره من قبل.

تطلع إلى الراهبة مطمئِنًا، هي أيضًا شابة، لا زالت رقيقة الملامح والمشاعر، لم تر ما يكفي بعد.

– نادي فريدة، فهي تعرف العائلة جيّدًا. اطلبي منها باسمي أن تبدأ بتدليك البطن وأن تضع عليه قربة من الماء الساخن. أعدّي أنت إبرة المورفين كما علمتك. سألحق بكم بعد قليل.

استيقظ متأخّرًا هذا الصباح، فجولة الأمس أتعبته بشكل غير عادي، قد تعوّد في كل السّنين التي مضت أن يقوم بجولاته في القرى القريبة من النّاصرة وحتّى في الجليل كله، وقد يبيت ضيفًا عند وجيه من وجهاء القرية إذا احتاج الأمر. لكنه بدأ يتعب، فما كان مهمّة سهلة وهو في شبابه لم يعد كذلك، لذا خفّت زياراته وقلت.

(2)

هو في انتظار أن يُنتدب لمساعدته طبيب شاب. إنما تبقى اللغة تحدّيًا كبيرًا، فمن سيتقن العربيّة كما يتقنها؟ ويعرف الناس كما يعرفهم؟ عاد من مشواره إلى «كفر كنا» في الأمس تعبًا وقلقًا، هناك رأى حالتين مع إسهال حاد بدأ يومًا قبل قدومه، طفل وأبوه، شدّد على الزوجة أن تتكفّل لهما بالماء النظيف وبالكثير منه، ما لم يكن من السهل أبدًا. دعا الرب أن يبقى الأب، أمّا الابن فقد كان أضعف حتى من أن يصلي لأجله بالبقاء، فاكتفى بدعاء الرحمة. خشي موجة جديدة من الكوليرا، ولم يكن بيده ما يفعله غير ما يفعل دومًا، حضّ الناس على الحرص على مصادر الماء نقيّة نظيفة، لم ينل اليأس منه أبدًا.

جلس الدكتور كالوست فارتان إلى مكتبه وفتح الكتاب على صفحة قد ترك فيها مؤشّره الجلدي الأنيق في اليوم السابق. طلب الكتاب من الجمعية خصّيصًا من أجل مَلَكِة. لم يعد يدري ما عليه فعله مع هذه الفتاة، قد رأى حالات مشابهة كثيرة في مشواره الطويل. لم يكن من السهل أبدًا أن تأتي لمراجعته امرأة عربية تشكو من الألم في أيام الدورة الشهرية، وإن فعلت، فقطعًا تكون نوبة الألم أكبر من أن تطيقها هي ومن حولها. أمّا هو فلم يكن ليفعل الكثير، ليس أكثر بكثير من علاج النسوة الذي يقدّمنه لها في بيتها، وعندما تنقطع تمامًا عن القدوم إلى المستشفى، يرجّح أنّ السبب يأسها منه وليس انقطاع الألم.

الأمر أكثر تعقيدًا مع بنات المسلمين، فلم يكن يستطيع أن يسقيهن بعض الخمر لتخديرهن والتخفيف عنهن. لهذا ولغيره، منذ بعثت له الجمعية بإبر المورفين وهو يحفظها كأنها ذهب خالص يُمنح فقط للمستحقّين من المعذّبين ومنهم بعض تلك النّسوة. أما مَلَكِة فقد حيّرته، يعرفها منذ عامين تقريبًا ويعرف أهلها من قبلها، فهو وهم يرتادون نفس الكنيسة «كنيسة المخلص»، وقد همس له أبوها عن حالات الوجع التي تنتاب ابنته، ومن يومها وهم يأتون بها كلّ شهر إليه أو إلى الممرّضة فريدة. مر نصف عام منذ طلب أحدث إصدار في طبّ النّساء، وقد وصله مع باقي هدايا العيد ورأس السنة. خاب رجاؤه عندما قرأ ما فيه، قد تقدّموا كثيرًا في فهم الحالة منذ أن كان طالبًا في كلية الطبّ الإسكتلنديّة، لكن لا علاج جديد لها. تم تغيير الاسم العلميّ وفق الكتاب، مع أن الوصف بقي هو الغالب، إنها «هيستيريا» هو الجنون أو كالجنون يصيب الرحم والمرأة وعائلتها.

(3)

وجد فريدة ومنيرة أمّ مَلَكِة تتهامسان عند الباب، ولمح بطرف عينه مَلَكِة بجسدها الصغير مستلقية على أحد الأسرّة في طرف الغرفة.

– لنسأل دكتور فارتان.

سأل هو أولاً:

– هل هدأت؟

– نعم، قليلاً. طلبت من الأخت متيلدا أن تنتظر وألّا تجهز إبرة المورفين.

نظر إلى الأم يشجعها على سؤاله، فخرج صوتها همسًا:

– هذا الشاب الذي ينتظر خارج الغرفة هو مارون، ابن عم ملكِة وخطيبها، سنكللهما في بداية الربيع. زارنا اليوم بالصدفة ووجدها في هذه الحالة التي تعرفها يا دكتور.

أطرق دكتور فارتان ومسح بيده على لحيته البيضاء.

– أتريدين أن أتحدّث معه؟

– لا يا دكتور، أريدك أن تطمئنني أنا. حكينا مع مارون وأخبرناه أن ما يجري لها «شغل بنات»، وبعدها لم يعد يسأل. مارون متعلّم ويفهم، وهو يريد مَلَكِة من زمان.

صمتت لبرهة، ترتّب أفكارها وأسئلتها:

– هل ستستطيع مَلَكِة الزواج؟ هل ستنجب أولادًا؟

تريّث قليلاً قبل أن يجيب، هل يجب عليه نقل كل ما يعرفه للمرأة؟ فهو يعرف ولكنه ليس متأكّدًا، وقد تكون مَلَكِة من الحالات الأوفر حظًا وقد لا تكون. فكيف يخبرها دون أن يدخل العائلة كلها في دوامة مقيتة، لا رجاء منها أو فيها؟

– أنت مؤمنة يا أم مَلَكِة، فضعي ثقتك بالرّبّ، ولا تقلقي نفسك بما ليس بيدك، فكلّه بيده.

عدّلت من غطاء رأسها وشدّت العقدة في أسفله، مصدّقة على إيمانها:

– لكني خائفة عليها.

ردّد بصوت الواثق:

– لا داعي أن تخافي. هل ستدعونني للإكليل؟

(4)

مشى مارون وعمه أمام مَلَكِة وأمها، لم يكن بيتهم يبعد كثيرًا عن بناية المستشفى في السّوق النّاصري. بقي مارون قلقًا فلم يُحيّي كل المارين به، كما فعل عمه الذي قام بالمهمّة دون خلل. دعاه عمه إلى دخول البيت وجلسا في السّاحة الصّغيرة، صعدت مَلَكة لتستريح في العليّة حيث تبيت مع أخواتها الصّغار. البيت صغير متواضع، بدأه الأب بغرفتين وعليّة مهملة، قام بترميم الأخيرة عندما نضجت مَلَـكِة الابنة البكر، وأصبحت لها ولأخواتها البنات.

– تعرف يا عمي؟ أنا أخاف هذا المستشفى.

– ماذا جرى لك؟ كيف تقول هذا؟

– أفكر دائمًا، لماذا يساعدوننا؟ لماذا يصرفون علينا كل هذه الأموال؟

– الدكتور فارتان واحد منّا. ثم … ثم هم مسيحيون فيساعدوننا نحن، لأنهم مسيحيون مثلنا.

ثم همس:

– وأنت ترى حال البلاد، وتعرف ما جرى لإخوتنا في الشمال.

– ماذا عن فقرائهم؟ أليسوا أولى منا بالمساعدة؟ أليسوا مسيحيين أيضًا؟ أنا أحب دكتور فارتان وهو يساعد الجميع. لكن دائمًا أفكر فيما يريدونه من وراء هذه الجمعيات…. قرأت…

قاطعه العم محتدًا:

– وأين تعلمت القراءة يا مارون؟ لولا مدرسة الجمعيات التي لا تروق لك الآن، لما نطقت حرفًا مما تقول. ما الذي جعلك مسئولاً في الحسبة؟ والكل يرجع لك ويدفع لك، وأنت في سنّك الصّغيرة يا ولد.

– لم أكفر يا عم، أنا أسأل…

(5)

لم يمت السؤال، لكنّ مَلَكِة نزلت من علٍ، فمات الكلام. تبدو موعوكة لكن أحسن من ذي قبل، لا بد أنها تحاملت على نفسها من أجله. ما ينبت في رأس مارون لا يستطيع أبدًا الخلاص منه. ترك بيت عمه بعد الغداء، واتجه إلى بيتهم الذي يبعد مسافة قصيرة عن بيت حبيبته مَلَكِة. كان يناديها ابنة العمّ أمام الجميع وأمامها، وحبيبتي أمام نفسه. لم يفهم أبدًا حياء الناس من ذكر الحب، وكيف له ألّا يحب مَلَكِة؟

هذه الصغيرة بهيّة الطلعة، كأنها رسم في أحد الكتب التي قرأها في مكتبة الدير. لم ير وجها واضح المعالم مثل وجه مَلَكِة، البشرة البيضاء صفحة ناصعة، رسم الجمال عليها عيونًا بنية طويلة الأهداب وأنفًا صغيرًا دقيقًا حادًا وفمًا أحمر غضّ الشفتين بارزًا، هو يريد أن يصفها لنفسها ولكنه لا يستطيع.

لم يقتنع بحيائها، كانت عيناها أذكى بكثير من هذا الدور السمج. كل هذا الشعر الذي قرأ، لو لم يحب قائلوه هل كانوا يستطيعون نظمه؟ سوف يقول لها الكثير في الربيع، سوف يحلّها من ضعفها ومن ألمها. ألحّ عليه سؤال المستشفى في الطريق، لم يسكته عمه بنهره إياه. وما ألحّ عليه أكثر من سبب قدوم أولئك المتطوعين إلى هنا، سؤاله لنفسه لماذا لم يكن الأمر بالعكس؟ لماذا لم يذهبوا هم إلى تلك البلاد ليساعدوا أهلها أو ليخلصوهم؟ فهم الأصل، ما الذي لا يدركونه وما الذي لا يعرفونه؟ حار في أمره وأعياه التّفكير. فما إن وصل باب بيتهم حتى استسلم إلى كلام عمه، لو لم يتعلّم ما تعلّمه لما سأل ما يسأله ولما خطّط كيف سيحب مَلَكِة في الربيع. لذا لا بأس من أن يحب دكتور فارتان مثل جميع من يعرفه. وسيذهب لزيارة تلك البلاد البعيدة يومًا، مع مَلكِة، سيبحث بنفسه إن كان لديهم فقراء.

(6)

جلست فريدة مع منيرة على طرف السرير المقابل لسرير ملكِة تنظران إليها وهي مستلقية وظهرها لهما.

عندما تيقنت الأم أنها نامت، توجهت لفريدة جارتها القديمة قائلة:

– لا أعرف ما العمل معهما.

– هل اشتكى مارون؟

– لم يشتك أبدًا يا فريدة. ولكن إلى متى؟ ما كنت أخاف منه حصل. البنت تحاول ولا تقدر، هذه أول مرة آتي بها منذ زواجها إلى المستشفى. لكنه جاء بها إلينا مرارًا في الأسابيع الأخيرة، عندما يضيق الحال بمارون يأتي بها إلينا.

– وماذا تفعلين؟

– تدليك وقربة ماء ساخن. ماذا يمكنني أن أفعل؟ أخذتها لأبونا في الكنيسة، رقاها وصلى لأجلها. ولا أكذب عليك، أخذتها بالسر للشيخ عبد الحميد، مع جارتنا أم السعيد، فهي تقول إنَّ الشيخ واصل، قرأ عليها ورقاها أيضًا. هل البنت مجنونة؟ مَلَكة زينة البنات.

أنهت الأم بتنهيدة حسرة عالية النبرة.

– لست مجنونة يا أمي، أنا لست مجنونة.

استوت مَلَكِة جالسة في الفراش وظهرها للمرأتين.

– أريد الذهاب إلى بيتي. أين أبي؟

– أبوك عند الباب، سامحيني يا ابنتي، قلبي يتقطّع عليك، والنّاس لا ترحم.

– سلامة قلبك، لا تخافي عليّ. خالتي فريدة، أين الدكتور فارتان؟ هل أستطيع أن أكلمه؟

– هو في مشوار مهم يا مَلَكِة.

ثم استطردت همسًا:

– المستشفى الجديد…

نظرت إليها مَلَكِة بعيون حائرة، يشغلها شيء آخر غير المستشفى الجديد. ماذا لديها؟ ممّا تشكو؟ منذ زواجها بمارون وهي تريد أن تفهم. فرحت بنضجها وخجلت منه مثل كل البنات، تهامست مع أمها، وتهامست مع صاحباتها من وراء أمها، لم تكن تدري أن الزائر الشهري سيتحول إلى كابوس، يزداد قتامة مع الوقت. التقلّصات والالتواءات في أحشائها تنهكها، وينهكها يقينها الذي ترسّخ مع الوقت بأن لا مفرّ من الوجع، ترقّب الألم موجع والخوف منه موجع أيضًا.

بعد الزواج اكتشفت أوجهًا جديدة للآلام. تفاجأ مارون، سأل كثيرًا، سأل أكثر مما تطيق وأكثر مما تعرف. عرّفَها زوجها الشاب أنها لا تعرف شيئًا عن نفسها، إصراره على فهم ما يجري أزاح غشاوة عن عينيها، علّمها أن تصف ما تشعر به وألّا تكتفي بترداد تمتمات أمها الغامضة حول ما يجري لابنتها كلّ شهر. ما يحدث معها ليس «شغل بنات» عادي، ليس من الطّبيعي أن تتألّم، ثم قال لها كلمة قلبت كيانها كله:

– طوال عمري أرى مثل الجميع أنّك جميلة، وكنت أعرف دونهم أنّك ذكية، ولكني لم أكن أتوقّع أن تكوني بهذه القوّة وتتحمّلين كل ما تتحمّلين.

(7)

انتظرت مَلَكِة عند الباب، أتت وحدها. لم تخبر مارون ولا أمها، انتظرت خروج زوجها إلى العمل، لفّت نفسها بطرحة طويلة كي لا تجذب النظر وتوجّهت إلى المستشفى. طلبت أن تجلس وحدها مع الدكتور فارتان.

لم يكن الأخير معتادًا على هذه الطلبات من النساء في البلدة الصغيرة. ولكن ما الذي يبقى على حاله؟ إنه هنا منذ أربعين عامًا، إسطنبوليّ المولد، أرمنيّ الأصل وناصريّ حتى النّخاع. غيّر فيه المكان قدر ما غيّر هو فيه، وهو يحبّه ويحبّ من فيه، لم تعد المهمة فقط هي المقدّسة وإنّما الناس، أيضًا.

طلب من الممرّضة أن تنتظر بضع دقائق وسينادي مَلَكِة بنفسه. أمعن النّظر مرّة أخرى في الخريطة المفروشة على مكتبه قبل أن يطويها، بناية المستشفى الجديد. نجح في استصدار فرمان من العثمانيين بعد عناء طويل، واشترت الجمعية قطعة الأرض اللازمة، والآن عليهم البدء بالبناء. لا يناسبه هذا البطء، لم يعد في العمر بقية. حلم أن يبدأ القرن الميلادي الجديد في المبنى الجديد، لكنّ هذا لم يحدث. إنه لا يشكو أبدًا، فما بدأ غرفة في منزله الصغير، ما بدأ به وبزوجته فقط، سيصبح قريبًا صرحًا لا مثيل له في البلاد. لكنه العمر الذي يلحّ عليه ويذكّره بنفسه كلّ يوم.

– ماذا جرى يا مَلَكِة؟ أرى أنك أتيت وحدك.

– أريد أن أفهم، ما الذي يجري معي؟

– أنتبه الآن أنها أول مرة أسمع فيها صوتك. هل هذا صحيح؟

– نعم.

أمعن النظر في وجهها لأول مرة أيضًا، جميلة بلا شك.

– كيف تسير أمورك مع ابن عمك؟

كيف تجيبه؟ ماذا تقول له؟ ماذا ظنت بنفسها إذ أتت لوحدها ودون علم أحد؟ فطن الطّبيب لما دار في نفسها، فأشفق عليها وقال مخفّفاً عنها:

– ما الذي تريدين أن تعرفيه؟

– كل شيء.

فكّر قليلاً فيما عليه قوله، ثم أردف كمن حسم أمره:

– فلنتفق إذن، سأقول لك اسم الحالة وأصف لك أعراضها. وعندما أصف شيئًا تعانين منه، أشيري لي برأسك.

فأجابت ممتنّة:

– حسنًا، فليحمك الرب والعذراء يا دكتور. لن أشير برأسي، سوف أجيبك.

قام من كرسيّه وتناول المجلّد الموضوع على الرّفّ وأشار إليه قائلاً:

– سأريك رسومات في كتاب، لكن لا تخافي. أنا سعيد بقدومك اليوم، لا يطبّب الإنسان أحد كما يفعل هو، والفهم هو المفتاح. لا زال الكثير أمامنا لنكتشفه ولكني سأخبرك بما أعرف.

– هل تؤلم الرّسوم؟ هي لا تخيفني.

نظر إليها وابتسم:

– انظري، واسمعي وافهمي.

قلّبت صفحات الكتاب حسب تعليمات دكتور فارتان، وهو يشرح لها ما تراه وما يعرف. توقّفت عند صورة لامرأة مكتوفة الأيدي.

– ما هذا؟ لماذا كتّفوها؟ هل فكروا أنها مجنونة؟ هل رسمت نساء هذه الرّسومات؟

– بل رجال يا مَلَكِة، كل ما ترين هو من عمل رجال.

– كيف يعرفون ما تشعر به امرأة؟

رفع حاجبيه مستغربًا لسؤالها ومعجبًا به في نفس الوقت، ثم استطرد بهدوء:

– هم لا يعرفون أيضًا أمراض الرّجال التي لا يمرضون بها بأنفسهم. يكفي الآن، علينا حل مشكلتك أنت.

– لكن لا حل لديك يا دكتور، لا حل لديكم.

نظر إليها محدّقًا في وجهها، ثم منقّلاً عينيه في جسدها، بدت مختلفة.

– ملكِة، بك شيء مختلف اليوم.

(8)

انتبه إلى الطّبليّة الصغيرة على الأرض وعليها كأسان وقنينة من النّبيذ، يبدو نوعًا فاخرًا لم يره من قبل.

ابتسم مستغربًا:

– ما هذا؟ من أين هذا؟

– هديّة من الدّكتور فارتان.

– لا أفهم، متى؟ ولماذا؟

حكت له ما صنعت اليوم وروت له ما فهمت ولم تخبره بكلّ ما عرفت، فقد علّمها فارتان أنّ بعض العلم يقلق ولا يفيد، واقتنعت بقوله.

– لست مجنونة ولا غريبة يا مارون.

– حاشاك، لم أفكر عنك هذا يومًا.

– لكنني أنا فكرت.

– وماذا نفعل الآن؟

صمت لبرهة، تأمّل جسدها الصغير وتأمّلته هي أيضًا كما لم تفعل من قبل، ثم قالت:

– اليوم يوم جيد.

– متأكدة أنت؟

– من قال إنّك لا تستطيع أن تستمتع بالألم؟ ألا يأتي منه الخلاص؟ لا أعلم أيّ شخص كنت سأكونه دون الأوجاع التي أمرّ بها، فدونه لا أعرف نفسي وقد لا أحبّها وقد لا تحبّها أنت، فقد لا أكون حكيمة وقويّة كما تصفني، وقد أكون شريرة قاسية، لا أعرف. لا طريق أمامنا إلّا هذا.

– تتحدثين كخوري في غرفة اعتراف.

– اشرب كأسك.

– لستُ بحاجة له كي أحبك يا مَلَكِة، أنت من تحتاجينه.

– صادق، أنا أحتاجه كثيرًا. لكنك بحاجة له كي تؤلمني لا لتحبني. لكل شيء وقته.

صبّ المشروب في الكأسين، شرب قليلاً من الأول وحمل الثّاني وتقدم نحوها. فخاطبته بلهفة:

– مارون، أريد أن أذهب غدًا إلى المستشفى، فرح الدكتور فارتان عندما علم أنني أجيد القراءة، وسيدرّبني بنفسه. قال إنني سأكون ممرّضة جيّدة.

مسح براحته على خدها نازلاً بها نحو نحرها ببطء ورقّة.

– نتحدّث بهذا غدًا، لكلّ شيء وقته.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.