شتاء عام 1929م؛ وقف طفل أمام أمه مرتعشًا، فسألها: لماذا لا تدفئين المنزل يا أمي؟ فأجابته، لأنه ليس لدينا فحم يا صغيري. فعاود السؤال مرة أخرى: ولماذا ليس لدينا فحم بالمنزل؟ قالت لأن أباك عاطل عن العمل. فسألها الطفل مجددًا: ولماذا أبي عاطل عن العمل يا أمي؟ فأجابت الأم: لأنه يوجد فحم كثير في الأسواق يا ولدي.
رمزي زكري، الاقتصاد السياسي للبطالة

لا شك أن المحرك البخاري كان بمثابة الطفرة التي طرأت على البشرية، ربما لا نجاوز الصواب إذا قلنا إنها طفرة موازية لتلك التي اعترت البشرية عند اكتشاف الإنسان الأول تلك الأمور الكبيرة، كالنار مثلًا. فلقد وسَّع اكتشاف النار من دائرة النشاط الإنساني فكانت بمثابة البداية للتطور الحضاري الذي استكملته الزراعة. لم تعد الوظيفة الإنسانية أحادية قاصرة على الصيد، بل كان الصيد والزراعة وما يستتبعهما من أعمال صناعة أدوات تخدم تلك الأغراض، فكان المجتمع جراء هذه التطورات مجتمعًا كامل التوظيف. حيث إن الطاقة البشرية العاملة كانت تناسب النشاط العضلي المبذول في كل من الزراعة والصيد. فكانت القبيلة تزرع ما تأكله وتصطاد ما يلبي نفس الحاجة. ولما أشرق عصر الآلة تعاظم الإنتاج مقارنة بالجهد المبذول، ومن ثم لم يعد العمل بحاجة لكل تلك الأيدي الصانعة له فيما سلف، فكانت الصدمة. لأول مرة يجد الإنسان نفسه خارج حسابات العصر ومتطلبات سوق العمل. ليس فقط لعدم الخبرة بالمُدخل الجديد الذي حل محله، إنما لأنه (المُدخل) قام بإلغاء قطاع عريض من الفاعلين لصالح نفسه.وبدأ العالَم يتعرف للمرة الأولى على مفهوم البطالة. ذاك الظرف الذي تمت فيه الاستعاضة عن الأيدي العاملة بالآلة، التي لا تطمح لزيادة الأجر، ولا تصبو لمزيد من المعاملة الإنسانية، وكذلك تقدم إنتاجية مضاعفة. فحظيت بالقبول التام لدى الرأسمالية الوليدة آنذاك. توالت الاختراعات والكشوفات، وكذلك تطور أداء المحرك البخاري، وتم الاستعاضة عنه بنظيره الكهربائي، وبين كل تطور وآخر كانت شرائح العمال تزداد بؤسًا.عام 1997م أجريت مباراة شطرنج بين جاري كاسباروف، بطل العالم، والجهاز الحاسوبي Deep Blue IBM، المبارة الثالثة من نوعها فاز كاسباروف في الأولى والثانية عامي 1986، 1996. ولكن انتصر الحاسوب على كاسباروف في 1997م، كان على العالم أن يتأنى قليلًا أمام حقيقة كون البشر أذكى الكائنات على الأرض. وأن دور الآلات لم يعد واقفًا عند حدود الحركة. فقبل هذا التاريخ لم يكن يخطر ببال أحد ولا حتى كاسباروف نفسه أن بانتظاره هزيمة محققة على يد حاسوب، ربما كان احتمال محاكاة الحواسيب للذكاء الإنساني في نشاط آخر غير لعب الشطرنج احتمالًا ضعيفًا.إلى أن أشرق فجر التاسع عشر من أبريل/ نيسان في العام السابع عشر من الألفية الجديدة، أنتجت شركت هانسون روبتيكس الروبوت صوفيا. طفرة صناعية جديدة وانتصار آخر للذكاء الاصطناعي الذي يطوره البشر. كم سيخلق تعميم هذه التجربة من بطالة؟ إلى أي مدى يمكن تصور حجم الاستغناء عن خدمات البشر؟ إلى أي مدى يمكن تقدير حالة العوز؟ حالات التشرد؟ كيف سيكون مجتمعًا يتسم خط الفقر فيه بهذه الرحابة؟ كما لنا أن نسأل، هل يمكن للحواسيب أن تضاهي العقل البشري يومًا؟ أعتقد أن المستقبل يحمل تساؤلات دقيقة وكذلك غير تقليدية، على البشرية أن تأخذها بعين الاعتبار.وعلى صعيد آخر، إنه أمر في غاية القلق؛ أعني تصور هذا الكم من تكنولوجيا الحوسبة، وتقنيات التحكم عن بعد في عالم مليء بالتوتر والعنف، يسيطر عليه أنصار اليمين المتطرف. هذا القلق غير المَرَضي يعد استشرافًا للمستقبل أكثر من كونه تشاؤمًا أو رؤية سوداوية له. فالصراع أمر حتمي، إذ إن ظروفًا مشابهة أدت لاندلاع حروب هي الأكثر فتكًا في التاريخ.لعل الكلمة الأولى والأخيرة في الصراع المستقبلي ستكون للروبوتات، ربما يتم تجييشها لغزو منطقة بعينها. نحن نتحدث إذًا عن صورة مقاربة من حرب البندقية والقوس! حرب الإنسان والآلة، كتلك الصورة البشعة للإبادات التي اقترفها البيض في حق الهنود الحمر، جنس كامل لم يكن جاهزًا إلا لاستقبال الرصاصة. دون رد يذكر اللهم إلا من سهم يطيش أكثر مما يصيب، وربما يفقد قوته الدافعة قبل الهدف فيرتمي هو الآخر صريعًا قبل صاحبه. صورة مرعبة قدمتها البشرية عن نفسها.إنه التساؤل العصي، كيف يمكن مواكبة التكنولوجيا دون الاستغناء عن خدمات البشر؟ ما طبيعة دور الدولة في تحقيق هذا التنسيق بين العمال والآلة؟ لعل الدولة، على الأخص في العالم الثالث، لم تحرز تقدمًا ملحوظًا حتى في خلق بنية اقتصادية وسيسيولوجية قادرة على تحقيق هذا التناسق بين الطبقات، وكذلك بين العمال وبعضهم البعض؛ مستويات أجور متفاوتة بشكل فج، معدلات رفاهة متدنية، معدلات بطالة غريبة وكذلك معدلات تكنولوجية متردية، لعل تلك المفارقة تدخلنا في تناقض مع ما سبق طرحه. إلا أن البطالة في تلك البلدان حاصلة نتيجة لتلك البنية الاقتصادية المتهالكة والتي تدعم سياسات اقتصادية احتكارية لصالح فرد أو مؤسسة بعينها، غياب القانون، مستويات متدنية من الحقوق والحريات والعدالة، وكذلك تدني مستويات التعلم، كل هذا وغيره يعمل جنبًا إلى جنب في تشكيل بيئة طاردة للاستثمار.ومن ثم فالأمر لا يتوقف إذًا عند سطوة الآلة فحسب؛ حيث إن الفقر والمرض والجهل، قد يودي بالإنسان إلى نفس الحافة، أعني حافة الإلغاء، هذا الشعور العام بالاغتراب الذي يعتري العامل حين يفقد القدرة على شراء ما تصنعه يده. والذي قد يأخذ طابعًا جماعاتيًّا أيضًا، إذا ما اتسعت الفجوة التكنولوجية بين الشعوب متخذة نفس المنحنى المتسارع. كيف يمكن أن يكون هنالك نمط تواصلي حقيقي بين مُرسل يتحدث عن القمر الصناعي ومستقبل لا زال واقفًا عند حدود الترانزسيتور أو ما هو دونه.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.