بدايةً، يخبرنا «ديل دولوز» و«فليكس غاتاري»، أن التراتبية الشجرية تُحجِّم التفكير في مساحات معرفية محدودة، كأن من الضروري على المفكر أن يتحول إلى موظف يقوم بتنفيذ الأوامر وقوانين لوائح تأتي من أعلى.

وعليه فما هو هذا الأعلى؟ العمدة؟ الدولة؟ الله؟ أم التاريخ؟

الفكر هُنا يتحول إلى قالب أحادي ينتج فكرًا أحاديًا عن معرفة نموذجية ودولة نموذجية وأخلاق نموذجية، هذا القالب يبدو وكأنه قادر على ابتلاع العالم بالكامل. إنما العالم أوسع بكثير مما نظن، لا توجد أحادية إلا أن تُخصم بشكل ما من مجموع الأشياء الأخرى، المتعددة والمختلفة بالضرورة.

فيما يلي سيتضح ما نقصده بهذه الفقرة.

بلال: مفارقة الإنسان الأول

صدر هذا الفيلم منذ عدة أعوام، لكن دعنا نشاهده اليوم في ضوء ما قاله جيل دولوز وغاتاري. بلال فتى طموح يحلم في يوم من الأيام بأن يصير في المستقبل محاربًا واعدًا، لكنه يقع ضحية للاختطاف مع شقيقته بعد الاعتداء الذي وقع على القرية التي يعيشان فيها، ويصيران في عالم لا يحكمه سوى الجشع والظلم، فيصير الشقيقان مُقيدين بإرادة أكثر رجل نافذ في المدينة وهو أميّة، ومع الوقت يحاول بلال أن يختار مصيره بنفسه.

سلالة بطل جديد يُعرف اختصارًا باسم بلال بالإنجليزية (Bilal: A New Breed of Hero)، هو فيلم سعودي/إماراتي ثلاثي الأبعاد مُحرَّك حاسوبيًّا، يقع في فئة الإثارة والمغامرة التاريخية، مستوحى من سيرة حياة «بلال بن رباح» أحد أصحاب الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم).

تدور أحداث الفيلم حول الفتى بلال الذي تم اختطافه هو وشقيقته من الحبشة إلى أرض جزيرة العرب فيُحاول التحرّر من عبوديّته ويُصبِح ذا شأن في المُجتَمع. الفيلم من إنتاج «بارجون إنترتيمنت» ومن تأليف وإخراج وقصّة «أيمن جمال» واشترك معه في الإخراج «خوارم آلفي». كتب السيناريو «آليكس كرونمر» و«مايكل وولف» و«خورام آلافي» و«ياسين كامل».

أثينا الشرق

يُقدم فيلم بلال الجزيرة العربية بوصفها مملكة، يقوم على أمرها أحد ساداتها وكفّارها أيضًا، وهو «أميّة بن خلف». يتربع في قصر فخم، يُطل على الجزيرة الصحراوية من مرتفع بالغ -خلف سور ضخم- وعلى الكعبة والآلهة المتناثرة هنا وهناك. له من الخدم الكثير، وله من العبيد أكثر، والحرس مدججون بالسلاح والعتاد دومًا. الزرد على أجسادهم، وفوقها الدروع، والأسلحة في أياديهم، سيوفًا ورماحًا وأقواسًا، وفي ركاب خيولهم بُلط، وفؤوس لتكسير العظام.

في مشهد افتتاحي لقصة مولد البطل الحر، يظهر «صفوان بن أميّة» يحمل سهامه وقوسه، يحاول التدرب على الصيد بأهداف يضعها العسكر الصغار أمام قصر والده أميّة. مرة بدجاجة يمسكها له العسكر، ومرات على العسكر ذواتهم. ثم تظهر الفتاة «غفيرة» بشكل مباغت، فيُقلع السيد عن التصويب على الدجاجة قائلًا: هذه أهداف سهلة لا تستحق دقته في التصويب، وبعلن عن رغبته في غزالة، يقصد بذلك «غفيرة» بالطبع، في مشهد حافل بالإيحاء الجنسي. وبعيدًا عن مشهد يتحرش فيه الجنود وصفوان بالفتاة بعدما أمرهم بإمساكها. فإن الجملة التي ذكرتُها سالفًا لصفوان، ربما تنتمي أكثر لأفلام رعاة البقر الأمريكية في بدايات القرن الماضي.

مرةً أخرى يعود صنّاع الفيلم بإزاحة للتقنيات الفنية الرديئة لصنع الأصنام، بأخرى تظهر دقيقة الشكل، معبرة بشكل قوي، عن صنعة فنية عالية، وتاريخ كبير لأساليب النحت والتصوير، ليس الجسم إجمالًا، بل في أدق التفاصيل، العين ونظرتها الجاحظة، دقة رسم العضلات والأعضاء المنحوتة بعناية بالغة، تُظهر بشكل استثنائي ما لا ينتمي للجزيرة العربية في هذا الوقت، بل لا تمت بصلة لأصنام الجزيرة الحقيقية مطمسة الوجوه والمعالم، فقط جسم حجري أو من العجوة يتكون من الحد الأدنى للتفاصيل، لا يتعدى ذراعين، ووجه أصم، مجرد بناءٍ مصمت.

هذه الإزاحة تصب أكثر لصالح آلهة الأوليمب في اليونان، من حيث الدقة في الرسم والتجسيم، شكل الذراع والجسد المتناسق والعضلات القوية والجسد العاري إلا من قطعة قماش تخفي سوءته، مرتفعة على الكتف الأيمن للجسد. رأس بعينين براقتين، مصنوعتان بمهارة، شاربٌ كث، ومن مقدمة الجبهة يخرج قرنا كبش يلتف حول الرأس، فيما ينحني الجسد قليلًا للأمام متكئًا بساعده الأيمن مقاربًا فخذه لنفس الجهة، في حركة جهنمية تبعث الخوف والرهبة في القلوب، والفزع أيضًا.

إجمالًا، فالوجه يشبه كثيرًا زيوس وهايدس وبوسيدون من آلهة اليونان. في أسوأ الأحوال فهي مستمدة من منحوتات مايكل أنجلو. لك أن تتفحص الوجوه لتجد ما بها من شبه صارخ. عدا تفصيلة وحيدة تُعد هربًا من أجسادٍ عارية تمامًا -ومن السخط الجمعي- وهي تغطية الأعضاء التناسلية للآلهة المزعومة.

وبعيدًا عن المحتوى الذي يدرك بالفعل اهتمامه بالحبكة المُتخيلة، دون النظر لما خطّه الواقع. فهو قُدم في قالب أنيميشن مصنوع بحرفية عالية، من دقة تصوير الشخصيات، الحركة، والألوان. هذا بدوره مغري بالقبول، حيث الصورة الجيدة، فائقة الجودة، قادرة على مراوغة العقل وتلقيمه كذبة ما ولو سطحية، فإنها تعتمد على قالب الجودة الحديثة، حيث يميل المعظم لتصديق اللامع، البراق من الأشياء. وهي دون شك من علامات -اقتصاديات النيوليبرالية- السعودية والإمارات الحديثة (هووليود العرب)، لا الصحراء ولا الرمال. ولا يعني ذلك أننا نمقت التقدم، بالأحرى فإن التظاهر بالحضارة لا يعني امتلاكها بالفعل. أو قُل إنها نتاجات عصر الرأسمالية والاستهلاك وهو ليس موضوعنا هنا على كل حال.

أمّا مشهد تعذيب بلال وسط الصحراء فله دلالة كبيرة، المكان عبارة عن صحراء مستوية، يقف أميّة في منتصف ما يشبه حلبة للمصارعة بمساحة تُقارِب ملعب كرة قدم، يتوسّطها بلال، فيما أتى الحرس بحجر كبير فوضعوه على صدره العاري. خارج السياج الخشبي يقف سكان الجزيرة، بين متأثر بما يحدث، أو باكيًا، أو ينشد موت هذا العبد كمدًا وعذابًا. في منتصف السياج الجانبي يُباغتنا مجلس السادة، في مساحة مربعة فيما يشبه المقصورة الرئيسية، بأرضية خشبية (باركيه) وأربعة أعمدة وسقف تغطيه بعض شرائط القماش. هذا يذكرنا بالطبع بحلبات روما لمصارعة العبيد.

ولا يمكن أن ننسى الكاهن الذي يرتدي حُلة حمراء، وعباءة مزركشة باللون الذهبي، قناع مهيب يُغطي وجهه كاملًا فلا يظهر منه شيء، وصوت فخيم يبعث على الرعب، وأصابع يده تتدلى منها الأظافر الذهبية، والحُلي من فضة وذهب وأحجار كريمة. ما يثير تساؤلاً عن ماهية هذه الشخصية وكيف تنتمي بطبيعة الحال إلى الجزيرة العربية؟ أتساءل عن الكيفية التي يحتل بها كاهن بهذا التصور جزءًا صغيرًا من فضاء القداسة؟

إلى أن نصل إلى غزوة بدر، والتي دخلت بالفيلم موسوعة جينيس لأطول معركة بفيلم أنيميشن ومدتها 11 دقيقة. أحصنة وفرسان آتية من كل حدب وصوب، اصطف المؤمنون والكفار كلٌ في جهته قبيل الالتحام الكبير بين الفريقين. يأتي فرسان على جيادهم، بيض الهيئة، بسرعة الريح، فيتهلل جمع المؤمنين، منفرجة أساريرهم، واثقين في الفوز، كما الثقة في هذا الجمع من الملائكة. بُعث الأمل بعدما أدركها اليأس لفرق العدد والعتاد بين المسلمين والكفار، وذلك عكس ما يطرحه النص القرآني في قوله تعالى:

إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ۚ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
سورة الأنفال: 9-10.

مقاربة حول تحرر السود ومغازلة الغرب

يعي أميّة بشكل مفارق للحظته التاريخية، والتي كان جائزًا جدًا قبوله بشخص متكبر، يُفضِّل العناد والاستكبار على الإيمان. بل يحضر بوصفه صوت الوعي الدنيوي –إن صح التعبير- في  مشهد يجمعه ببلال يحثه فيه على أن ينقل أخبار أصحابه إلى سيده أميّة. وفي حوار دار بينهما عن الحريات وعن رغبة بلال في التحرر من العبودية، ظهر الاثنان على أنهما عبيد لا أحرار، الأول بلال: يبحث عن عبادته لله وتَخَلُصهِ من الرق، وأميّة: يعبد أشياء أخرى أهمها المال والسيادة. هذا الحديث دار على لسان أميّة بن خلف، وهو ما يبدو مفارقًا للحظتهم التاريخية ربما.

أمّا عن الفيلم فهو يخاطب هوليوود على الأغلب لا المسلمين والعرب، أحداث ضخمة ومعارك حافلة يحاول بها صناع الفيلم إغراء مخرجي الأفلام الأمريكية. هناك على سبيل المثال 88 شخصية نحتها بالكامل المخرج الأمريكي «خوارم آلافي»، مستمدة من صحابيّ رسول الله، لكن ليس كأصحاب الرسول.

فهذا حمزة مجرد شخص له اسم حركي يدعى (الأسد)، وعن صهيب الرومي فيحضر بوصفه شخص (خفيف الظل)، وسعد بن أبي وقاص (صائد التفاح) لا أول من رمى بسهم في سبيل الله. وأبو بكر الصديق مجرد تاجر غني، غير أنه ينفق على الحركة من ماله، فهو قد تنبأ بحركة التحرر من البداية في مشهد جمعه ببلال، فيما كان يتوق الأخير للحرية.

تنجح الحركة بعد معارك وصراعات كبيرة، ينجح فيها بلال ومن معه في غزو مكة مرةً أخرى ودخولها، وتحطيم الأصنام، ليس لأنها كانت تُعبد من دون الله، بل لأنها شواهد عيانية لمُلك المهزوم. بلال يقتل سيده أمية طمعًا في الثأر، ويحصل على أخته «غفيرة» بعد تحريرها من رق سيدها صفوان.

هذا كله فيما لم يُذكر ولو مرةً واحدة الدين الجديد، لا اسمه، لا رسوله، ولا الله نفسه. حتى (أحد أحد) حضرت وقد وُضع الحجر على صدره، بوصفها كليشيه يُكرِّره التاريخ وقد أفرغه من المعنى، ليس اسمًا من أسماء الله. كما وبكل تأكيد هذا البلال مؤذن الرسول، أجمل من رفع أذان الله على أرض الله، لم يؤذِّن أذانًا كاملًا، ولم يشهد أن لا إله إلا الله ولا محمد رسول الله. أين هو بلال بن رباح في كل هذا؟

يُقدِّم الفيلم ويُغازِل الروح الأمريكية التوّاقة لأفلام تحرر السود، فيما يشبه تبرئتها أو إراحة الضمير الجمعي مما فعلت بشعوب الهنود الحمر المغدورة على سبيل المثال. نحنُ أمام مارتن لوثر كينج العرب على ما أظن. لا بلال الذي لم يقرأ آية واحدة من آيات القرآن الكريم، فيما غنّى أغنية كاملة على مسمع سيده أميّة، قبل إعلانه التمرد على مبادئ العبودية.

هذا، وقد رأى البعض وجهة نظر أخرى ساقها المدافعون عن الفيلم تقول إنه جريء، عرض الدعوة المحمدية فكرةً وليس ‏اسمًا، وجعل الإسلام منفتحًا، موسيقيًا، عميقًا، ليس مجرد مظاهر وطقوس. ولأن رواية التاريخ ليست دقيقة ‏بقدر ما مطلوب منها أن تنافس الروايات الأخرى، فكان بلال هذا، السوبرمان، العالمي، البطل، مناسبًا ‏للسينما الأمريكية أكثر من «بلال» مؤذِّن الرسول.

تاريخ التلاعب

صورة العشب دون جذر واضح أو نمط خطي في نموه يساعد في إعادة التفكير في المعرفة، كما أن مفهوم «الريزوم» يدعنا نتخلى عن البدايات والنهايات والشكل المريح للشجرة من أعلاها لأدناها، لأنه يتحرك في مساحة بينية دائمًا. [1]

في المقدمة أشرنا إلى رأي جيل دولوز وغاتاري عن التراتب الشجري، وهو ما بدا بعيدًا عمّا تلاه من حديث. لكن، لنرى لو أننا نظرنا إلى مجتمع الخليج وبالأخص السعودية والإمارات على شكلهما الحالي، من الحداثة والترف الذي ظهر بدايةً من عصر التخوم البترولي فقط؛ أي من أواخر القرن الماضي تقريبًا. وبالنظر للدور الذي تحاول الدولتان القيام به في المنطقة، نجد أن الشكل الأخير ربما مغاير بطريقة ما للنشأةِ الأولى. قد يكون تطورًا طبيعيًا طبقًا لجدلية التاريخ نفسه، وقد يكون محاولة للتلاعب بطبيعة الأرض نفسها، وتاريخها. فما هو تفسير ذلك؟

لو حاولنا الإمساك بالشكل النهائي لما تحاول الدولتان أن تُقَدَم به في عالم اليوم، والرجوع به تقادميًا طبقًا لمبدأ التراتبية الشجرية –باعتباره نفس مبدأ صناع الفيلم- حسب جيل دولوز وغاتاري. ونقصد بالتراتب هنا من الحديث إلى القديم، الذي يتخلى لا عن نمطية العشب ولا عن الانفتاح على مساحات للرؤية البرحة والتفاعل الخلاق، لصالح تصور الآخر الأوروبي للحضارة. وعليه، قد نجد تصورًا ربما يبدو مغايرًا لما كانت عليه في الواقع الذي تحقق بالفعل ولم يكن بحال أمرًا متخيلًا.

في فيلم بلال هذا التقادم وقد أعطى لنا نموذجًا مُصوّرًا عن هذه النظرة للتاريخ، بالأحرى محاولة قولبته لنموذج بعينه، طبقًا للتصور الغربي للتاريخ، لحركات تحرر السود، وأيضًا لفكرة البطل الخارق والإنسان الأول، متخليًا بذلك عن المساحات الشاسعة للتأويل التي يمتلكها بالفعل لو لم يتماهى تمامًا مع الآخر. هذا ما نحاول الإشارة إليه. (وقد يكون الإسقاط هنا خاطئًا تمامًا، أقصد تلك المقاربة بين تاريخ دولتين بناءً على تصور مفهوم فلسفي).

وعليه، فإذا نظرنا إلى تراتبية الشجرة ونقيضها؛ تشابكية وانفتاح العشب (النجيلة) على مساحات شاسعة للانتشار -والتأويل للنص والرؤى-، وامتداده أفقيًا في المبدأ الأول وهو ما يخالف الطرح الذي قدمه الفيلم، بل والنظرة التي تقبع من ورائه، إذ هي حبيسة فضاء منتهك بالكامل من الروح الغربية لتصور الأشياء والتاريخ، بنفس قدر محدودية الاختيار، كما هي بالطبع حبيسة المُنتج النهائي الذي وبالضرورة يجب أن يوافق نظرة الآخر –الأوروبي- ليكون مكتملًا وذا شأن، ليكون حقيقيًا.

هذا ما بحث عنه الكاتب والمخرج السعودي أيمن جمال، أو هذا ما بدا للوهلةِ الأولى، أو هو الشَرَك الذي نصبه صناع الفيلم لأنفسهم بامتياز.

المراجع
  1. منْ يعمل في البستنة سيكون على دراية ولو جزئية بما يسمى الجذمور (Rhizome) كاصطلاح في علم النبات (Botany). وهو نوع من النباتات يعرف باسم (اليهودي التائه). ويتميز بغزارة الإنتاج، حيث ينبثق من الأرض ويمتد فوق مساحات شاسعة، فيما يبدو غير مترابط ظاهريًا، لكنه في الواقع ينتمي بشكل ما إلى نبتة واحدة كبيرة. يكتسب هذا المفهوم بُعدًا فلسفيًا مع الثنائي الفرنسي جيل دولوز وفيليكس غاتاري.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.