عمري اثنان وعشرون عامًا، ولكني لا أعرف إلا اليأس والموت والخوف والمعاناة فقط. إني أرى أن الشعوب تقتل بصمت، بطاعة، بسذاجة، دونما معرفة. ماذا سيصنع الآباء إذا نهضنا وطالبنا بالانتقام؟ لسنين كانت مهنتنا القتل، ما الذي سنصبح عليه؟

«إريك ماريا ريمارك»، من روايته «كل شيء هادئ على الجبهة الغربية»

هل البشر أشرار ببرهان العلم؟

في عام 1971، صنع البروفسور «فيليب زيمباردو» من قبو جامعة ستانفورد مقرًا لتجربته. هدف التجربة الرئيسي كان دراسة سيكولوجية الإنسان تحت ظروف السجن. احتاج الأمر من يمثّل دور الحارس ومن يمثل دور المسجون طوال مدة التجربة المقرّرة بأسبوعين. لكن، لِمَ انتهى كل شيء في ستة أيام فقط؟من انضم لهذه التجربة كانوا طلاب جامعات بلا أي سجل إجرامي، أُجريَت لهم اختبارات عدة لضمان سلامتهم النفسية والعقلية قبل الانضمام للتجربة. في خلال ستة أيام، كان الحراس قد صنعوا قوانينهم الخاصة، من يخالف هذه القوانين يُعاقب بطرق مختلفة. نسي الحراس أنها تجربة – يقول «زيمباردو» بنفسه إن الحراس توقفوا عن استخدام كلمة «تجربة» تقريبًا من اليوم الثاني لبدئها – وعوقب من ثار من المسجونين بوسائل مختلفة تضمنت الضرب والإذلال والحبس الانفرادي والتعرية. بعد أقل من 36 ساعة من التجربة؛ كان أحد المسجونين يعاني من انهيار عصبي حاد اضطُرّ المشرفون لإخراجه من التجربة.هل لي أن أذكر هنا أن كلًا من الحراس والمسجونين اتخذوا أدوارهم في التجربة بشكل عشوائي تمامًا؟ ليس بقوة الجسد وليس بميول أيٍ منهم، الأمر كله كان بضربة عملة نقدية!نظريات كثيرة حاولت تفسير تجربة سجن ستانفورد تصب في فكرة تأثرنا بالنظام أو ما يُعرف باسم «Situational Attribution».إننا نتشكّل حسب القالب الذي نوضع فيه. الحراس لم يكونوا بالضرورة أشخاصًا سيئين، لكن بيئة السجن جعلت كل فرد يؤدي دوره تمامًا كالمتوقع منه، الحراس بالتسلط والمساجين – في معظم الأحيان – بالخضوع.


تجربة الصدمة قلبًا وقالبًا: هل نحن أشرار في انتظار الفرصة المناسبة فقط؟

في عام 1963، بدأ العالم «ستانلي ميلجرام» تجربته لدراسة أثر السلطة على الطاعة. في هذه التجربة طُلِب من المتطوعين أن يصعقوا الشخص الذي يقطن الغرفة المجاورة بالكهرباء عند إجابته لأيٍ من أسئلتهم بشكل خاطئ. أُخبر المتطوعون بأن هدف التجربة هو دراسة أثر العقاب على مهارات التعلم.جميع المتطوعين كان بمقدورهم سماع صرخات واستغاثات ضحيتهم عند كل صعقة يعطونها له. فماذا عن نتائج التجربة؟ 65% من المتطوعين وصلوا لمقدار 450 فولتًا من الكهرباء. في الجهاز الذي أمامهم، كان قد أُلصق على هذا الرقم بطاقة تحمل رمز (XXX)، بشكل ينقل لك رسالة صريحة بأنك ستقتل ضحيتك، بالرغم من ذلك، لم يمانع استخدامها 65% من المشتركين، والذين – بالمناسبة – تم اختيارهم للتجربة كمواطنين عاديين ذوي مهن طبيعية مختلفة.يمكننا ببساطة أن نقول إن الإنسان إذن لا يمانع من إيذاء الآخرين بصورة بالغة فقط إذا طُلِب منه ذلك. لكن يمكننا أيضًا قول إننا كبشر نشعر بعجز شبه تام أمام السلطة. النظرية الأكثر انتشارًا في تفسير تجربة ميلجرام هي الـ«Agentic State»، والتي تقول إننا كبشر على أتم الاستعداد للطاعة العمياء لشخص يمثل السلطة، فقط إن أوهمنا أنه هو من يتحمل مسؤولية ما نفعله وليس نحن. ببساطة نحن مستعدون للإقدام على الشر فقط إن استطعنا إقناع ضمائرنا بأننا لم نفعل شيئًا، وأننا كنا فقط ننفذ رغبة شخص آخر.ربما من أقبلوا على قتل ضحيتهم في التجربة لم يفعلوا ذلك بدافع إيذائه، وإنما لشعورهم بالشلل التام أمام الصوت الذي ظل طوال التجربة يعيد عليهم: «أكمل من فضلك، هذا مهم جدًا». الدليل على ذلك هو أن بعض المشتركين بكوا بحرقة، وارتموا يحتضنون ضحيتهم عندما علموا أنه على قيد الحياة، وأن كل تلك الصرخات التي أطلقها الضحية كانت تمثيلًا.


جرائم الحروب: الدائرة التي لا بد منها

في ستة أعوام، هي مدة الحرب العالمية الثانية،استطاع الإنسان أن ينهي وجود 61 مليونًا من سكان الأرض.في تلك الحرب، ربما لم نكتفِ بالقتل فشرعنا بابتكار أبشع وسائل التعذيب لمن هم في قبضتنا. أمثلة بسيطة قد تتضمن تقطيع أجساد الأحياء، للحبس في غرف الضغط العالي، لحرق الأسرى أحياءً، الاغتصاب والتجويع والضرب أمور هامشية بالطبع. في أشهر قليلة أصبح العالم أشبه بمصحة مجانين يجري بها الجنود هنا وهناك يذبّحون ويهدمون ويحرقون كل من وما يقابلهم. سيكون من المرعب إذن أن أذكر هنا أن جلّ جنود الحرب العالمية الثانية لم يكونوا رجال حرب في الأصل، بل مواطنين من شتى الطبقات تطوعوا أو أُجبِروا على الاشتراك.لكن، وعلى النقيض تمامًا، نجد أن «Post-Traumatic Stress Disorder – PTSD»، أو «اضطراب ما بعد الصدمة»، يُعتبر اضطرابًا شائعًا جدًا بين العسكريين ومن خاضوا الحروب. اضطراب ما بعد الصدمة هو واحد من أسوأ الاضطرابات النفسية التي يتعرض لها الإنسان، وينشأ بالأساس عند شهادته لحادث يسبب له صدمة تجعله يعاود رؤية هذا الحادث حتى بعد سنوات من انتهائه. أعراض هذا الاضطراب خطيرة للدرجة التي تجعلك تشعر بنفس الألم العضوي الذي شعرت به أثناء الحادث، فمثلًا لو أُصبت بطلقة في قدمك حينها فإنك ستشعر بنفس الألم الذي سببته لك تلك الطلقة، برغم أن قدمك شُفيت منذ سنوات!تقول الإحصائيات إن تحديدًا 12 من بين كل 100 ممن خاضوا حرب الخليج من صفوف الجنود الأمريكيين تم تشخيصهم باضطراب ما بعد الصدمة، بينما 30% ممن خاضوا حرب الفيتنام من نفس الصفوف شُخّصوا به. حتى أول توثيق لحالات اضطراب ما بعد الصدمة كان في الحرب العالمية الأولى، لم يكن المصطلح قد نشأ وقتها لكن حالات التوثيق بدأت عندما أظهر الجنود أعراض ما يسمى بالـ«Shell Shock»، وهو عدم قدرة الجنود على الحديث، التفاعل، المشي، أو النوم بعد حدث معين شاهدوه ضمن معارك الحرب.نحن غير مهيئين إذن لما يخلّفه لنا الشر. مشاهد العنف والموت تصيبنا باضطرابات قد لا نُشفى منها مدى الحياة.لذا، ربما هناك إجابة أخرى لسؤال «هل نحن كبشر نحمل في داخلنا كل ذلك الشر؟»، إجابة لا تتضمن كوننا كائنات مرعبة بالضرورة.


مخاطر السير وراء القطيع

«De-individuation»، هو مصطلح شهير بعلم النفس يخبرنا ببساطة أننا نفقد هويتنا بالكامل في وسط مجموعة تحيط بنا. الإنسان قادر على الإتيان بالشر إذا ذابت هويّته بطريقة ما. تفسيرات تلك الظاهرة تقول إننا في مثل هذا الظرف تتشكّل لدينا حالة من تبدل الوعي تخبرنا بأن المسؤولية لا تقع علينا في أي فعل نرتكبه.التعريف الأفضل لهذه الظاهرة يقول نصه: «هي العملية السيكولوجية لتقليل وعي الفرد بنفسه».الأفراد الواقعون تحت تأثير هذه الظاهرة لم يكونوا بأي حال ليقدموا على مثل هذه الأفعال كأشخاص منفردين في المجتمع. الـ«غُفلية» التي يمنحنا إياها التواجد في وسط القطيع تسمح لنا بأريحية كاملة في الإقدام على أي فعل.هذه الظاهرة يندرج تحتها ما تحدثنا عنه في تفسير تجربة سجن ستانفورد، ويندرج تحتها أيضًا تفسيرات نتائج ميلجرام، وهي بالطبع يمكنها أن تفسر كيف يستطيع مواطن بسيط أن يرتكب أفظع الجرائم خلال حالة حرب. قدرتنا على خداع أنفسنا بأننا لسنا مسؤولين قد تفسر كل شيء.


ربما الشر ليس شرًا: خاتمة لا بد منها

كلمة «شرير» بشكل عام هي كلمة كبيرة للغاية، الشرير في معجم المعاني الجامعهو المولَع بالشر، وهي كما نرى كلمة ذات معنى كبير جدًا.النظريات الفلسفية والسيكولوجية التي تنظر في تفسير سلوكيات الإنسان عديدة ومتنوعة، تبدأ من أعلى درجات التعقيد عن أن الخضوع للسلطة أو الانتساب للموقف هو ما يدفعنا للشر، وتنتهي ببساطة ما كتبه «جبران» يومًا في كتابه «النبي»: «الشر هو بعينه الخير المتألم آلامًا مبرحة من تعطشه ومجاعته».الإنسان ليس ببساطة أن تفسره نظرية واحدة أو أن يقوده مبدأ واحد. في معظم الأوقات تنبع أفعالنا من دوافع ورغبات لا حصر لها. لكن في النهاية، هل سيشكل كل ذلك فارقًا حقًا؟ هل سيشكل فارقًا لامرأة سورية أُعدم زوجها وذُبح أطفالها وقُصف بيتها بالمدافع؟ هل ستهتم حقًا بما إذا كان الجندي الذي صنع بها كل ذلك شريرًا بشكل خالص أو أنه شخص صالح لكن الظرف هو ما أجبره؟ نتيجة الشر واحدة في الضرر الواقع عنها، أمّا دافع الشر أو ما إذا كان شرًا حقًا أم لا فهي أمور سخيفة كليًا في أعين الضحايا.لماذا إذن كل هذا الهراء؟ لأجلنا نحن، من لم يقعوا بعد في كفة الأشرار أو لم يُرتكب بحقهم جريمة بشعة. تلك النظريات والدراسات تخبرك أن نفسك ليست بالطِيب الذي تظنها عليه، ربما هي قادرة على الإتيان بأفظع الأفعال، فقط إذا هُيأت لها الظروف المناسبة لذلك. لا يعني هذا أنك شرير، ذو شر بالضرورة، لكن نفسك ستقنعك بضرورة ما تفعله وأهميته، وستجد لك المبررات اللازمة لذلك. لذا، ربما كانت تلك القراءات قادرة على منحك بعض الفهم لنفسك ولسلوكياتك. ربما كانت الخمس دقائق التي ستقضيها فيما بعد للتفكير في فعل تُقدم عليه مهمة أكثر مما تظن.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.