** المقال مسجّل صوتيًا، يمكنك الاستماع إليه في نهاية المقال**

حياتنا تزداد سهولة يومًا بعد يوم، خياراتنا في التعامل مع الكون من حولنا تتسع يومًا بعد يوم. وسائل الراحة وأدواتها تخطو بنا سريعًا نحو مزيد من التقدم والتعقد. ولا يزال العقل البشري يرتقي درجات التطور والتحديث في كل جوانب حياتنا، حتى لقد أصبح مجرد تصور شكل الحياة في الماضي القريب قبل مائة عام أو أكثر قليلًا قبل نزول هذا السيل من الاختراعات والتقنيات شيئًا عسيرًا.

تزامن مع هذا التقدم الهائل زيادة مطردة في مساحات الحرية ومجالاتها وارتفاع كبير في سقفها، فأصبح متاحًا للفرد اليوم حرية الاختيار بين متعدد في كثير من تفاصيل حياته، ولا تزال هذه الاختيارات تتنوع وتتعقد بدءًا من أتفه الأشياء حولنا وصولًا للقرارات الكبرى والمصيرية في حياة كل واحد منا.

ذهب أحدهم لمتجر شهير من متاجر التجزئة وتجول بين معروضاته بحثًا عما يسمى «salad dressing» أو توابل السلطة، فأحصى الرجل ما يزيد على 175 نوعًا مختلفًا تحت هذا المسمى فقط ما بين أحمر وأصفر وأبيض.

هاتفك الذي تحمله بين يدك الآن وتقرأ منه هذا المقال به ملايين التطبيقات المعروضة على المتجر الإلكتروني، والتي تخص كل صغيرة وكبيرة من تفاصيل اهتماماتنا اليومية، تتنافس جميعها في تيسير حياتنا اليومية وتخاطبنا في أدق تفاصيل اهتماماتنا الشخصية. فهل حصل الإنسان على ما يريد؟ وهل وصل لمبتغاه؟ وهل يصح أن يقال إن إنسان اليوم قد أصبح أكثر سعادة من ذي قبل؟

الحقيقة أن توجه مجتمعاتنا الحديثة مبني على أساس أكذوبة كبرى نعيش بها ومعها طوال الوقت، تلك الأكذوبة التي أصبحت تشكل الواقع من حولنا وخصوصًا في المجتمعات الغربية وتؤثر في كل مجالات الحياة، ملخصها:

إذا أردنا أن نعيش سعداء ومرتاحي البال فعلينا أن نعمل على مضاعفة اختياراتنا وكسر كل القيود من حولنا، فمن خلال ذلك يتمتع الناس بالحرية في اتخاذ قراراتهم، ولا يستطيع أحد إجبارهم على فعل شيء لا يرغبون فعله، وبالتالي سوف يعيش الناس في رخاء وسعادة.

وتطبيقًا لهذا المبدأ المزعوم فإن كل ما حولنا قد تم تصميمه ليزيد من قدرتنا على الاختيار وليوسع دوائر الاحتمالات أمامنا. من الناحية النظرية فإن هذا الانفجار الكبير في مساحات الحرية وفضاءاتها سوف يزيد من شعورنا بالسعادة، إذ كلما وسعنا دائرة الاختيارات والحريات فإن فرصنا في حياة سعيدة سوف تزيد وتنمو بالضرورة تبعًا لذلك، فهل هذه هي الحقيقة؟

طبيب نفس أمريكي شهير يدعى Barry Schwartz، قام ببعض الأبحاث حول سلوك المستهلكين وتعاملهم مع هذا الانفجار الكبير في الاختيارات وخرج ببعض الحقائق الصادمة، يقول:

إن هذا الانفجار الكبير في الاختيارات له آثار سيئة على حياتنا وصحتنا النفسية، فهي تؤدي بنا دائمًا لحالة من الارتباك والشلل في اتخاذ القرار بمجرد التواجد في هذه البيئة المربكة، فبدل أن تزيد مساحة الحرية المتوهمة أمامنا، فإننا نصاب بحالة من الشلل وعدم القدرة على اتخاذ القرار. وحتى بعد أن نكون قد تجاوزنا مرحلة الحيرة واتخذنا القرار الصعب فإننا في نهاية المطاف سوف نجد أنفسنا في مستوى سعادة ورضا أقل عما قمنا باختياره مقارنة بحالة وجود خيارات أخرى محدودة، والسبب في ذلك هو اعتقادك الداخلي باحتمال أن يكون هناك شيء أفضل أو خيار أحسن وأنت لم يحالفك الحظ لاتخاذه، فكلما اتسعت دائرة الاختيار أمامك نقص ذلك من معدل الرضا عن القرار الذي تتخذه.

ولكي يبرهن الرجل على صدق كلامه أعطى لنا هذا المثال البسيط:

أمامك سلة من البرتقال، بداخلها برتقالة محددة، هي ألذ وأحلى برتقالة على وجه الأرض، ولو فاتتك فرصة الوصول إليها هذه المرة فلن تستطيع الحصول عليها مرة أخرى في حياتك، وأمامك عدد محدود من المحاولات للوصول إليها من خلال الانتقاء العشوائي من هذه السلة. ترى ما هو شعورك الآن وقد تم رفع سقف المواصفات لهذا الحد؟
أولًا: سوف ينتابك قلق عميق كمثل القلق الذي ينتاب لاعب كرة القدم عندما يحاول تسديد ركلة الجزاء في نهائيات البطولة وأمام أعين ملايين المشاهدين.
ثانيًا: سوف تشعر برغبة عارمة في أن تجرب كل ما في السلة لأن عقلك وببساطة لن يستطيع تمييز أحلى برتقالة، فحتى لو حالفك الحظ وقمت بالاختيار الصائب سوف تقول لنفسك: نعم طعمها لذيذ ولكن ربما لا تكون هي المقصودة. سوف تشعر برغبة عارمة في أن تجرب كل ما في السلة لأنك ببساطة قد صعبت الأمر على نفسك ورفعت سقف المواصفات إلى السماء.
قد تصل بالفعل للبرتقالة المقصودة ولكن سعادتك بها ستكون منقوصة لاعتقادك باحتمال ألا تكون هي المقصودة، وسوف ينتابك شعور مزمن بالرغبة في تذوق باقي البرتقالات، والندم على ضياع تلك الفرصة، وكلما كثرت البدائل وزادت الحيرة قل الرضا وحل محله الندم على ما فات.

ولعل أساس المشكلة هو ذلك الصرح الوهمي الكبير من الخيالات مع أنه في حقيقة الأمر ليس هناك وجود لشيء اسمه ألذ برتقالة وأجمل سيارة وأحلى امرأة في الدنيا، إلا إذا كنت تشاهد مجموعة من الإعلانات التجارية أو الأفلام الإباحية، أو عندما تحاول أن تقنع أنت نفسك بذلك.

هل تعتقد بأن جميع من يصطفون فى طوابير طويلة للحصول على أحدث إصدارات أجهزة أبل يعرفون الفروق التقنية ما بين الإصدار العاشر والإصدار الحادي عشر، أو يدركون الأثر الناجم عن كون الجهاز به كاميرا 12 ميجا بيكسل بدلًا من 10 مثلًا؟!

شركة أبحاث تسويقية قامت بتجربة جديرة بالذكر: قام أحد موظفيها بالوقوف في قسم الأجهزة الإلكترونية في أحد المتاجر وقام بعملية إقناع لأحد عملاء المتجر ليشتري جهاز التلفاز الأغلى والأعلى سعرًا، وكانت المبررات طبعًا هي وجود مجموعة من الخصائص التقنية التي تزيد من متعة المشاهدة وتقدم لمقتنيها تجربة فريدة، وبعد أن قام بشراء الجهاز طلبوا منه أن يجلس في غرفة معدة خصيصًا لمن قرر شراء هذا الجهاز ليشاهد بنفسه الفروق التقنية والخصائص الفريدة لجهازه قبل أن يحمله عائدًا به للمنزل، جلس العميل وشاهد فيلمًا قصيرًا على جهاز تلفاز موضوع في الغرفة، وبعد أن انتهت فقرة المشاهدة سألوه عن رأيه فأجابهم:

أنا الآن مقتنع تمامًا أنني اتخذت القرار الصحيح، فرغم أن سعر الجهاز أغلى من الأجهزة الأخرى بما يوازي 150 دولارًا ولكنه حقًا جهاز فريد من نوعه ويستحق هذا المبلغ الذي دفعته فيه.

قال له الموظف عندي لك مفاجأة غير سارة: هذا الجهاز لم يكن سوى جهاز عادي من النوع الرخيص وليس به أي فروق تقنية عن أي جهاز آخر موجود في المتجر.

هذا هو ما يحدث لك أنت أيضًا عندما تذهب لشراء وجبة من أحد المطاعم، فبعد أن تشتري وجبتك الأساسية يبدأ موظف الكاشير بعرض مجموعة من الإضافات والمقبّلات عليك لتضيفها للقائمة، وتشعر من خلال أسلوب العرض أن شيئًا عظيمًا سوف يفوتك إن أنت لم تستمتع بالساندويتش المضاف له الخلطة السرية الجديدة والتي هي متاحة لفترة محدودة جدًا.

وهذا هو معنى كلام رسول الله، صلى الله عليه وسلم: عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، قال سمعت النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول: «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدم واديان من مال لابتغى ثالثًا، وَلَا يَمْلَأَ جوف ابن آدم إِلَّا التُّرَابُ، ويَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ».

وقد كنت قديمًا أقرأ هذا الحديث فأقول لنفسي كيف لمن يرزقه الله بمثل هذا المال أن ينظر لغيره وألا يتوقف سقف أطماعه؟ ثم تذكرت شخصية عمّ دهب الذي كنا نراه في مجلة ميكي للأطفال ونحن صغار، «Uncle Scrooge» تلك الشخصية العابسة البخيلة التي تحمل الهم ليلًا ونهارًا ولا يكاد يغادر الاكتئاب والتذمر وجهه.

فكلما ارتقيت درجة سوف تطمح في الدرجة التي تليها. حتى صار في زماننا من يشتري سيارة بخمسة ملايين دولار أو يختًا بما يعادل ميزانية التعليم والصحة لأربع دول فقيرة، وهكذا لا ينتهي سرف الإنسان ولا يقف شرهه عند حد، ولا يملء فمه إلا التراب ويتوب الله على من تاب.

ذكر الإمام ابن كثير في تفسير قوله تعالى: «وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا ۙ قَالُوا هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ۖ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» (25)

عن يحيى بن أبي كثير قال:

عشب الجنة الزعفران، وكثبانها المسك، ويطوف عليهم الولدان بالفواكه فيأكلونها ثم يأتون بمثلها، فيقول لهم أهل الجنة: هذا الذي أتيتمونا آنفًا به، فيقول لهم الولدان: كلوا، فإن اللون واحد، والطعم مختلف. وهو قول الله تعالى: «وأتوا به متشابهًا».

وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية: «وأتوا به متشابهًا»، قال: يشبه بعضه بعضًا، ويختلف في الطعم.

فالنعيم المقيم الذي لا يمل صاحبه، هو ذلك الذي يترقى ويتنوع يومًا بعد يوم وحال بعد حال حتى لا تمله النفس، وحتى يكون فوق مستوى توقعاتنا وخارج دائرة تصوراتنا، وهذا لا يكون إلا في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.

تذكرت فكاهة مصرية عن ذلك الذي ركب القطار فاشترى من المحصل تذكرتين فسأله المحصل وأين رفيقك؟ فأجابه: ليس معي رفيق، ولكني اشتريت تذكرة لي وأخرى احتياطية في حال فقدت التذكرة الأولى (ويبدو أن ثقافة إلقاء الركاب ممن لم يدفعوا ثمن تذكرة الرحلة قديمة في بلدنا) فقال له المحصل: وماذا أنت فاعل إذا ضاعت منك التذكرتان معًا؟ فأجابه: لا تقلق معي اشتراك سنوي.

رغم بساطة هذه الفكاهة فإن كثيرين يندفعون في حياتهم نحو جلب الأموال والإكثار منها بغرض الوصول لذلك الشعور بالأمان، والذي لن نصل إليه مطلقًا بمزيد من المادية والانغماس في متطلباتها ثم ننسى أن الرازق هو الله وأنه هو الذي يكلؤنا بالليل وبالنهار.

مع ارتفاع مستوى التوقعات وازدياد الرغبة في تأمين الحاضر والمستقبل يرتفع مستوى التوتر، ويظن المرء أن له حولًا وقوة، وأنه يستطيع تغيير مستقبله للأفضل، ومع كثرة الخيارات يتصور الإنسان أنه لا عذر له في الوقوع في الخطأ ولا عذر له في عدم اتخاذ القرار السليم، فتكون النتيجة ذلك الاكتئاب المزمن من كثرة التفكير وكثرة البدائل وارتفاع سقف التوقعات والرغبات التي لا يمكن قبول الحياة بغيرها.

عندما ينتابك هذا الشعور تذكر دائمًا أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وأنك أيها العبد الضعيف لا حول لك ولا قوة ولا قدرة لك على تغيير الأقدار وصنع المستقبل إلا بأقدار الله تعالى لك وتوفيقه إياك.

عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَا عَبْدَاللَّهِ بْنَ قَيْسٍ، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ». عندما تكرر هذا الدعاء الجميل وتردده في أعماق نفسك سوف تصل لحالة من التسليم الكامل لله رب العالمين، وسوف تدرك أن ما حصلت عليه من الخير هو رزقك الذي أكرمك الله به، وليس عن جدارة واستحقاق لكونك رجلًا لبيبًا يحسن الاختيار.

ومن جميل الآثار المروية عن الأمم السابقة والتي أوردها غير واحد من المفسرين وأهل العلم حتى ظنه الناس حديثًا وليس بحديث:

يا اِبنَ آدمَ إِن رَضِيتَ بِمَا قَسَمتُهُ لَكَ أَرَحتَ قَلبَكَ وَبَدنَكَ، وكُنتَ عِندِي مَحمُودًا، وإِن لَم تَرضَ بِمَا قَسَمتُهُ لَكَ فَوَعِزَّتِي وَجَلالِي لأُسَلِّطَنَّ عَلَيكَ الدُنيَا تَركُضُ فِيهَا رَكضَ الوُحوش فِي البَريَّةَ، ثُمَّ لاَ يَكُونُ لَكَ فِيهَا إِلا مَا قَسَمتُهُ لَكَ، وَكُنتَ عِندِي مَذمُومَا.

ولعل هذا الارتفاع الكبير في معدلات الاكتئاب والانتحار من حولنا له سبب مباشر، وهو أننا أصبحنا نعتقد – ضمنيًا وبغير تصريح – بمسؤوليتنا عن صناعة مستقبلنا وحياتنا وأننا نقدر على إحداث تغيير في أقدارنا. ولذلك فأي خطأ يحدث لك في مسيرة حياتك فسوف تنسبه مباشرة لتقصيرك وسوف تتهم نفسك بذلك.

لا شك أن وجود بعض الاختيارات أفضل من عدم وجود أي خيار أمامك، ولكن هذا لا يعني أنه كلما زادت أمامنا فرص الاختيار أصبحنا أكثر سعادة، فالنتيجة أننا أغرقنا أنفسنا في سيل من الاختيارات ليس فقط في نوع «salad dressing» الذي نفضله، ولكننا سنفاجأ في قابل الأيام أن دعوات قبول الشذوذ الجنسي لن تكون لمجرد أن شخصًا ما يشعر أنه لا ينتمي للجنس الذي خلق فيه ويريد تغييره، بل ستكون هناك إعلانات من عيادات طبية تقول لك: «لقد جربت أن تكون رجلًا فما رأيك أن تجرب كونك امرأة نحن نمنحك فرصة للتغيير ولتوسيع خياراتك البيولوجية، فقط املأ الاستمارة وسوف نوافيك بالتفاصيل والأسعار»!

يبدو أن هذا الوهم الكبير قد أحسن الغرب تصديره لبلادنا فأصبحت ترى مدينة ما في منطقة الخليج العربي تتسابق سباقًا محمومًا لتحطيم الأرقام القياسية العالمية من نحو «أطول برج في العالم»، «أكبر مول تجاري في العالم»، «أغلى وجبة طعام في العالم»، «أكبر نافورة مياه راقصة في العالم»، «أغلى حذاء في العالم». والقائمة تطول. ثم إن هذه الإنجازات لم تصمد أمام أزمة مالية عصفت بهذا الاقتصاد الهش القائم على السياحة وتجارة الترانزيت واضطر حاكم هذه الإمارة للاستدانة والاستعانة بجيرانه.

الأعجب من هذا أن نرى في بلادنا من يسارع في التشبه بالقوم وليس له من أموالهم ولا بترولهم حظ ولا نصيب. فأصابتنا تلك النوبة المحمومة ذاتها: «أعلى برج في إفريقيا»، «أعرض جسر معلق في العالم»، «أكبر حديقة في العالم»، و«أطول مائدة إفطار رمضانية في العالم».. وقريبًا ستلحق بهم دولة عربية كبرى لتقدم للناس أكبر مدينة ترفيه في العالم، و«أسرع موجة خلع للنقاب وللحجاب في العالم».

إن الإصرار على تحقيق أعلى الإنجازات وأضخمها دون النظر لعواقب الأمور ومآلاتها ودون دراسة لآثار هذه الإنجازات من النواحي الاجتماعية والأخلاقية والسياسية المختلفة، وشيوع ذلك في منطقتنا العربية؛ يدل على ما وصلنا له من انحطاط حضاري وغياب للرؤية وللتخطيط.

ومما يدعو للريبة حقًا أن البلاد التي صدرت لنا هذا النمط من الاستهلاك المحموم والرغبة في كسر كل القيود وتوسيع دائرة الاختيارات، تلك البلاد يعرف أهلها كيف ينفقون أموالهم ومتى يستثمرون ومتى يحجمون. وقد لفت نظري حديث ترامب عن رغبته في تطوير منظومة التحكم في الصواريخ النووية التي تعمل بنظام قديم لم يتم تطويره منذ الستينيات، وعندما سئل القائمون على هذا الملف داخل وزارة الدفاع كان الجواب البسيط أننا لا نحتاج لما هو أكثر من ذلك حتى الآن، وأي تعديل في هذه المنظومة سوف يكلفنا مئات المليارات من الدولارات والتي نحن في غنى عنها.

نعود مرة أخرى لحياتنا الخاصة ونترك السياسة جانبًا، فبدل هذا العبث علينا أن نتذكر نعم الله علينا، علينا أن نخفض سقف مطالبنا الدنيوية التي لا تنتهي، ونقلل من توقعاتنا عن متع الحياة الزائفة. فعن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسولُ اللَّه ﷺ: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ هو أَسفَل مِنْكُمْ وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوقَكُم؛ فهُوَ أَجْدَرُ أَن لا تَزْدَرُوا نعمةَ اللَّه عَلَيْكُمْ».

كما يذكر المرء نفسه بما أخرجه ابن حبان من حديث أبي الدرداء، رضي الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِه، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا».

وعنه، صلى الله عليه وسلم، هو الذي أخبرنا فيما رواه مسلم من حديث أبي هريرة: «ثلاثٌ أُقسِمُ عليهنَّ وأُحدِّثُكم حديثًا فاحفظوه، قال ما نقص مالُ عبدٍ من صدقةٍ ولا ظُلِم عبدٌ مظلمةً صبر عليها إلَّا زاده اللهُ عزًّا، فاعفوا يُعزَّكم اللهُ، ولا فتح عبدٌ بابَ مسألةٍ إلَّا فتح اللهُ عليه بابَ فقرٍ».

وبعد، فليس كلامي هذا بدعوة للزهادة أو التكاسل في زمن تحتاج فيه أمتنا لكل مسلم قوي، وليس في شيء من حديث الصادق المعصوم، صلى الله عليه وسلم، فيما ذكرته أو في غير ذلك مما نُقل عنه، عليه الصلاة والسلام، ما يدعو للتراخي أو الدعة والراحة بدعوى التقرب إلى الله والسعي في مرضاته، ولكنها دعوة للرضا والتسليم لأقدار الله فينا مع الأخذ بأسباب الرفعة والقوة لعله، سبحانه، يفتح علينا فتوح العارفين.

أخيرًا، ركز على مجال واحد في حياتك، ضع فيه كل تركيزك ولا تنشغل بغيره ولا تلتفت حتى تنتهي منه تمامًا وتتقنه غاية الإتقان، وحاول أن تغلق باب الاختيارات والشواغل التي لا معنى لها.

علم نفسك الرضا عن ذاتك وعن زوجتك وأسرتك وعن أحوالك، وابذل مجهودًا لتُخرِج أجمل ما فيك وما في إخوانك من صفات. واحرص على العطاء حرصك على الأخذ أو يزيد.

وتذكر قوله، عليه الصلاة والسلام، فيما رواه الإمام أحمد عن زيد بن ثابت، أنه سمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: «مَنْ كَانَ هَمُّهُ الْآخِرَةَ، جَمَعَ اللهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ الدُّنْيَا، فَرَّقَ اللهُ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.