رغم كل التناقضات والأفكار المتضادة والآراء المتباينة التي توجد في اللعبة وتتضارب على شواطئها كما الأمواج المتلاحقة، فإن هناك بعض المُسَلَّمَات التي لا يمكن تجاوزها أو التشكيك بها، لأن الحقيقة لا يمكن الالتفاف حولها، ولا يمكن أن تتحول المسألة لقضية آراء أو أهواء عند ذكرها، فهذه المُسَلَّمَات تحظى بتوافق شبه مُعلن، وفي بعض الأحيان تظل حبيسة النفوس رغم الاقتناع بصحتها. وإحدى هذه الحقائق التي لا مكان للتضاد فيها، هي مهارة مارادونا وأسطوريته وأحقيته بالتربع على عرش مملكة كرة القدم في تاريخ اللعبة، وخاصة في حقبة الثمانينيات، والتي كان أبرز تجلياتها في بطولة كأس العالم عام 1986.

قبل 31 عامًا، وفي ظهيرة الـ 22 من يونيو 1986، تجمهر 114580 متفرجًا في استاد أزتيكا لمتابعة اللقاء الذي جَمَعَ المنتخبين الأرجنتيني والإنجليزي في ربع نهائي بطولة كأس العالم المقامة في المكسيك آنذاك، ما حصل في مكسيكو سيتي هو ما حوَّل هذه الآراء إلى حقيقة لا لبس فيها، هناك من سمع ما جرى عبر الراديو، وآخرون شاهدوا ما حدث عن طريق التلفاز، وبعضنا أعاد ذكرى المباراة أو لقطات منها بعد عقود عبر الإنترنت ويوتيوب، لكن دعنا نخبرك بقصص وخفايا عن المباراة لم يخبرك بها يوتيوب.


مباراة في كنف الديكتاتورية والحرب

ما ميز المباراة بين المنتخبين وأعطاها الخصوصية أنها أصبحت من كلاسيكيات كأس العالم، فالمباراة في 1986 كانت الثالثة بينهما، مواجهة تحمل رغبتين متعاكستين يجمعهما هدف واحد هو الفوز، المنتخب الأرجنتيني يسعى لرد الصاع بعد هزيمتين في بطولتي العالم 1962-1966، ومنتخب الأسود الثلاثة يرغب في إكمال سلسلة التفوق على نظيره الأرجنتيني. في الواقع كانت هذه الرغبة المتضادة في استرداد الكرامة الكروية وإكمال التفوق الرياضي، ما هي إلا امتداد لخلاف سياسي عسكري بينهما، والذي كان أوج صراعه في حرب جزيرة «فوكلاند» أو «مالفيناس»-الاسم الإسباني لها- في عام 1982، حرب امتدت قرابة 10 أسابيع بين الدولتين، وكانت تهدف لبسط السيادة والنفوذ على مجموعة جزر تابعة للسيادة البريطانية، وتقع بالقرب من الأرجنتين وتبعد عن شواطئها 500 كم.

المباراة هي الأولى بين المنتخبين بعد الحرب، وكانت محفوفة بالتوتر السياسي الذي استمر أمده منذ نهائيات كأس العالم 1982 المقامة آنذاك في إسبانيا، فالحكومة البريطانية برئاسة «مارجريت تاتشر» كانت تفكر بسحب المنتخبات البريطانية المشاركة «إنجلترا – أسكتلندا – إيرلندا الشمالية» في البطولة خوفًا من مواجهة الأرجنتين القابعة تحت الحكم الديكتاتوري العسكري في تلك الفترة. لكن هذه الفكرة لم ترَ النور لأن الانسحاب سيكون بمثابة الانتصار المعنوي للأرجنتينيين، ناهيك عن العقوبات الرياضية التي ستطبق على المنتخبات.

عبارة بالفرب من مقر الفيفا أثناء حرب فوكلاند
عبارة إنجلترا تقتل الأرجنتين بالقرب من الاتحاد الدولي لكرة القدم

لاحقًا، استسلمت القوات الأرجنتينية في 14 يونيو 1982 (بعد يوم واحد من افتتاحية كأس العالم 1982)، لكن ما تم إخباره للأرجنتينيين أن دولتهم قد انتصرت في الحرب، وذهب المنتخب إلى إسبانيا ليكتشف أن مئات الشباب الأرجنتينيين قد قُتلوا، وأنهم قد خسروا الحرب التي قام بها المجلس العسكري للتخلص من الاحتجاجات التي تواجهه في الدخل، وفي محاولة منه لكسب المزيد من التأييد، وفقد رغبته باللعب في المونديال، لكن الحرب قد أنهكت المجلس العسكري وأطاحت به في عام 1983.

كانت المباراة حساسة للغاية، كان من الصعب جدًا على اللاعبين أن يتجردوا من قضية النزاع والحرب. قبل المباراة اجتمع بنا وزير الرياضة الإنجليزي وقال لنا بأنه من غير الحكمة أن نقوم بتصريحات سياسية أو ما شابه، كان علينا أن نتحول لآذان صماء
تيري فينويك قلب دفاع المنتخب الإنجليزي
لقد قلنا جميعا مسبقًا إنه ينبغي علينا ألا نخلط بين الأمرين، ولكن كان ذلك كذبة كبيرة. لم نفكر بأي شيء، إلا خسارة الحرب
دييجو أرماندو مارادونا عن مباراة منتخبه أمام إنجلترا

الأرجنتين 2-1 إنجلترا: 4 دقائق من العظمة

تخيل أن شخصًا من الجماهير ابتاع تذكرة المباراة وسافر من الأرجنتين إلى المكسيك لمتابعة منتخب بلاده، ولم يتمكن من مشاهدة ما فعله مارادونا آنذاك. ربما ذهب أحدهم إلى الداخل لابتياع شيء ما ليأكله، وآخر ذهب لقضاء حاجته في الحَمَّامات، وثالث كان يلتقط صورة لطفله أو يقبل زوجته. يا لسوء حظ الحاضرين الذين فَوَّتوا رؤية ما حدث، لأن ما قام به مارادونا خلال 4 دقائق سيظل خالدًا إلى الأبد في ذاكرة كل مشجع رياضي قديم العهد كان أم مستجدًا.

انطلقت المباراة في الساعة الـ 12 ظهرًا بالتوقيت المحلي لمدينة مكسيكو سيتي، الشمس في منتصف السماء، أشعتها الحارقة تضرب الرأس مباشرة، أرض الملعب وعرة والعشب جاف أشبه بالإبر المدببة، هذه الأجواء لم تكن مناسبة للعب كرة القدم أو حتى متابعتها من المدرجات. توني شوماخر حارس مرمى منتخب ألمانيا الغربية في البطولة، قال في إحدى مقابلاته بأن الشمس كانت عمودية، ولا يوجد ظل للاعبين على أرض الملعب، ويُقال بأن هذا الأمر كان أنسب للبث التلفزيوني.


يد الله

بعد شوط أول انتهى بالتعادل السلبي بدأ المنتخب الأرجنتيني الشوط الثاني بنسق سريع، تَوَّجه بهدف بعد 6 دقائق فقط من انطلاق الشوط. تمرير عكسي للكرة من قبل اللاعب الإنجليزي ستيف هودج، ظن أن حارسه سيمسك الكرة وهي في الهواء، إلا أن مارادونا كان بالقرب منه، وتمكن من تسجيل الهدف الأول بخبث لاتيني منحه الفطنة لدفع الكرة بيده إلى المرمى، ولحسن حظه لم يتمكن الحكم التونسي «علي بن ناصر» ومساعده البلغاري «بوجدان دوتشيف» من رؤية ما حصل.

أطلق مارادونا على هذا الهدف خلال اللقاء الصحفي اسم يد الله، وكأننا به يقول إن يوم الحساب قد حان، وإن الله قد قرر ذلك وأعمى بصيرة الحكام، لكي يسترد الأرجنتينيون جزءًا من كرامتهم المهدورة أمام البريطانيين الذين استشاطوا غضبًا بعد احتساب الهدف.

بعد دخول الهدف نظرت إلى حكم الراية بينما كنت أعود إلى منتصف الملعب لإعلان الهدف، كنت أنظر إليه لعله يغير رأيه ويعلن بطلان الهدف، لأنه كان في وضعية أفضل مني لرؤية اللعبة المشتركة، كان عندي شك لكنه كان شكًا وليس يقينًا
الحكم التونسي علي بن ناصر

راقص التانجو الذي تعلم الدرس

في عام 1980 وقبل بداية الحرب خاض المنتخبان مباراة ودية احتضنها ملعب ويمبلي، ابن الـ 20 عامًا حاول مرارًا وهدد مرمى الإنجليز كثيرًا، في إحدى المحاولات راوغ مارادونا مدافعي الخصم وتقدم وحيدًا نحو المرمى، لكنه سدد الكرة خارج الخشبات رغم إمكانية مراوغة الحارس الإنجليزي والتسجيل في شباك فارغة.

بعد تلك المباراة اتصل به شقيقه الأصغر «هيوجو» وأخبره:

أيها الغبي، كان عليك مراوغة الحارس وتسجيل الكرة بقدمك اليمنى.
رد عليه دييجو:
أيها الوغد، أنت كنت تتابعها عبر شاشة التلفاز، لقد كان من الصعب جدًا أن أقوم بذلك في الواقع.

بعد 6 أعوام، تذكر دييجو الدرس الذي تعلمه من أخيه الأصغر وحاول تطبيقه كما نصحه هيوجو. في الدقيقة الـ55، وفي ظل الحنق والغضب العارم الأشبه بالنيران المتأججة من الجانب الإنجليزي، تولى مارادونا مهمة إخماد هذا السخط بطريقة لا تقل دهاءً وتميزًا عن لقطة الهدف الأول، استلم دييجو الكرة في منتصف الملعب، ودار حول نفسه بانسيابية كراقصي التانجو، ثم تقدم نحو المرمى وكأنه يهرب من شيء كما هرب من الفقر والظروف السيئة مع عائلته، تقدم بثقة كبيرة وكأنه رأى الطريق نفسه عندما لاحق حلمه الكروي في صغره.

مارادونا هدف القرن
مارادونا أثناء مراوغته للمدافعين الإنجليزيين

الحلم هذه المرة استغرق 10.6 ثانية، تغلب فيه على 6 لاعبين أرداهم قتلى خلف خطواته المتسارعة، ثوانٍ كانت كافية لممارسة سحره في أعظم استعراض للمواهب في العالم، وكافية لحصد الزر الذهبي من الفيفا وجمهور اللعبة، ليستحق أن يُسجل في صفحات كتاب تاريخ كرة القدم باسم هدف القرن.

لقد كان هدفًا بمنتهى الروعة، لا يمكن مشاهدة هدف كهذا حتى في مباراة تجري في الحديقة بين مجموعة من الأطفال الصغار، لكن مارادونا تمكن من تسجيله في ربع نهائي كأس العالم!
بوبي روبسون مدرب إنجلترا 1986

مارادونا عن هزيمة الأرجنتين للمنتخب الإنجليزي


لأن الأفضل يحتاج الأفضل

كما لو أننا هزمنا بلدًا بأكمله، ليس فقط مجرد فريق لكرة القدم. كان هذا انتقامنا بعد خسارة الحرب، كأننا استعدنا قطعة أرض من مالفيناس

يعتبر هدفا مارادونا أمام إنجلترا من أكثر الأحداث واللقطات الرياضية توثيقًا في تلك الحقبة، والأكثر تأثيرًا على امتداد العقود الثلاثة الماضية، لأن الصور والفيديوهات المتناقلة، وحتى التعليق من قبل المعلقين الرياضيين ما زال منتشرًا بين الجماهير الرياضية العالمية. رغم أن الكثير من الأشخاص تابعوا مجريات المباراة عبر الراديو بسبب عدم قدرة الجميع على امتلاك التلفاز في تلك الآونة، إلا أن الجمل والبراعة اللفظية التي رددها المعلقون، سواء بالإنجليزية أو الإسبانية جعلت المشجعين يعيشون أجواء الدراما والتشويق وكأنهم موجودون في أرض ملعب أزتيكا.

المشجعون المتحمسون لمتابعة مجريات المباراة كانوا محظوظين لأن هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» والراديو الأرجنتيني كانا يمتلكان في تلك الآونة أحد أفضل الصحفيين في العالم وأكثرهم براعة لتغطية الحدث المهم في ربع النهائي. على الجانب الأرجنتيني كان المعلق الأرجوياني «فيكتور هيوجو موراليس»، الذي بدأ حياته الإذاعية وهو في سن الـ 19 ولا يزال نشطًا حتى اليوم، أما على الجهة البريطانية فكان «بريان باتلر» الذي غطى مباريات كأس العالم منذ عام 1970 حتى 1990.

خلال تعليق باتلر على الهدفين كان واضحًا بعض الشيء تأثره باحتساب الهدف الأول رغم عدم شرعيته، لكنه لم يبالغ بذلك بشكل فج، بل اعتمد الأسلوب البلاغي واستمر بحرفيته، وامتدح مارادونا بسخاء في الهدف الثاني بعد تدميره للحصون الإنجليزية، في حين أنه لم يذكر بشكل صريح حرب فوكلاند، لكنه استدعى ذكرى الحرب باستخدامه تعبير «يتركهم للقتلى» وكذلك «دفن الدفاع الإنجليزي».

أما تعليق موراليس فيعبر عن النشوة وكان فيه بعض التغني بمارادونا مع مزيج من الشعر، والصراخ، الذي أنهاه بشكر الله وكرة القدم، مع إظهاره لتأثره بشكل واضح من خلال الدموع والبكاء، ورغم أنه ليس بأرجنتيني، لكنه عاش لعقود طويلة هناك، وكان تعليقه رمزيًا بمثابة التخلص من آلام حرب فوكلاند.

ها هو يداعبها مارادونا، يتخلص من لاعبيَن. مارادونا يركل الكرة، ينطلق عبقري الكرة العالمية من الجهة اليمنى… يتخطى الثالث، سيمررها إلى بوروتشاجا.. دائمًا مارادونا! يا عبقري! يا عبقري! يا عبقري! تا-تا-تا-تا… يا له من هدف! سامحوني، دعوني أبكي! يا إلهي! فلتعش كرة القدم! هدف من الروعة بمكان! مارادونا يركض في لقطة تاريخية، أفضل لقطة على مر العصور! يا أيها السمين الصغير، من أي كوكب أنت؟
تعليق هيوجو موراليس على هدف القرن

في مقابلة أجراها في عام 2011، اعترف موراليس بوجود مشاعر مختلطة حول تعليقه الشهير، ولفترة طويلة وجد صعوبة في سماع التسجيل. وقد خجل بعض الشيء من الإفراط والمبالغة في إظهار مشاعره، اعتذر موراليس لجمهوره لفقدانه السيطرة. أضاف أنها أكثر اللحظات تعبيرًا في مسيرته كمعلق، وأن هذا التعليق هو الشيء الوحيد الذي سيبقى على قيد الحياة، لأن هناك شخصًا ما سوف يستمع إليه مثلك الآن.

المراجع
  1. الحكومة البريطانية و فكرة عدم مشاركة المنتخبات البريطانية في بطولة 1982
  2. تصريح مارادونا عن هزيمة انجلترا ككل و ليس المنتخب فقط
  3. هيوجو مارادونا و انتقاده لأخيه دييجو
  4. رأي الحكم التونسي علي بن ناصر