لا تزال الأندلس بحكاياتها وآلامها وتجربتِها التاريخية الفريدة تحظى بكثير من الاهتمام المعاصر، وتقدم درسًا بالغًا في المدى الذي يمكن أن يصل إليه التعصب الديني والطائفي من إجراءات قمعية استئصالية، تغير وجه التاريخ والديموغرافيا وخرائط الجغرافيا. 

أبيد الوجود الإسلامي في الأندلس عسكريًا وسياسيًا ودينيًا وثقافيًا على يد إسبانيا الكاثوليكية المنتصرة، بعد أكثر من 8 قرون من وجود المسلمين في شبه الجزيرة الأندلسية، والانصهار مع مكوناتها، وإقامة مجتمع إسلامي معتدل في أكثر فتراته، احتضن غير المسلمين من المسيحيين واليهود، رغم الخطر الوجودي الذين كان يتهدده منذ العقود الأولى عبر غزوات الدويلات المسيحية الشمالية، التي أخدت تتمدد جنوبًا شيئًا فشيئًا، وتستغل فترات الاضطرابات الأندلسية الكبرى لتحقق قفزات هائلة في ما كان يُسمى حرب الاسترداد المسيحية للأندلس.

اقرأ: الأندلس في مرآة الشعر .. شذرات من رحلة الصعود والهبوط.

لم تقعْ الأثمان الباهظة للتعصب الكاثوليكي الإسباني على كاهل المسلمين فحسب، إنَّما قاسَى اليهود أيضًا الأمرَّين من هذا التعصب المقيت، ونالوا ما ناله الموريسكيون المسلمون من كؤوس الإكراه في الدين المُترَعة بالغلّ والطغيان، وذاق الآلاف منهم مرارة الطرد والنفي الأبدي من أرض عاش بها العشرات من أجيال أجدادهم في أمن وازدهار حتى عرفت بالعصر الذهبي للثقافة اليهودية في العصور الوسطى، بل جاء الحسم القمعي من الكاثوليكية الإسبانية تجاه اليهود أسرع مما حدث مع المسلمين، ولعل كونهم أقل عددًا مقارنة النسبية مع مسلمي الأندلس قد أعان على استهدافهم بشكل أكثر فاعلية.

اقرأ: مراثي الأندلس .. ملاحم الشجن الخالد.

اليهود والأندلس: عصرٌ ذهبيٌّ ولكن

في كتابه «قصة العرب في إسبانيا»، يسرد المستشرق الإنجليزي ستانلي لين بول تفاصيل الفتح الإسلامي للأندلس، ويؤكد فيها أن اليهود كانوا من أسبق السكان المحليين دعمًا لهذا الفتح، فقد عانوا من اضطهاد حكامها من القوط المسيحيين لهم، ووجدوا في الحكم الإسلامي الأكثر اعتدالاً متنفَّسًا كبيرًا لهم، فاستغلوا تلك الأجواء، ونشطوا في التجارة، وراكموا الثروات، وتضاعفت أعداد اليهود في الأندلس خلال قرون الحكم الإسلامي، وكانت ذروة انتعاش الوجود اليهودي في الأندلس ثقافيًا واجتماعيًا وماديًا في عصر الخليفة الأموي الأندلسي عبد الرحمن الناصر 300-350هـ.  

يذكر د.محمد عبد الله عنان في موسوعة «دولة الإسلام في الأندلس» أن بعض اليهود وصلوا إلى مناصب مهمة في الأندلس، مثل الوزير اسماعيل بن نغرالة، الذي ظلَّ لأكثر من عقديْن وزيرًا لملك غرناطة بكامل الصلاحيات لا سيّما في الإدارة المالية لتلك المملكة التي كانت من أهم ممالك الطوائف في القرن الخامس الهجري. 

وهكذا، عاش يهود الأندلس في المجمل أيامًا وادعة لا سيّما قبل عصور السيادة المغربية على الأندلس، فقد اتَّسم حكم دولة الموحدين للأندلس والمغرب بكثير من التعصب تجاه غير المسلمين من اليهود وغيرهم – بل وخصومهم المذهبيين من المسلمين مثل المرابطين الذين سحقوا دولتهم وقتلوا منهم عشرات الآلاف – فحاول عبد المؤمن بن علي الموحدي في أواخر خلافته فرض الإسلام على النصارى واليهود في الأندلس والمغرب، وطرد من يرفض ذلك، لكن توقفت تلك السياسة في عهد خليفته يوسف بن عبد المؤمن، لكن فرض المنصور يعقوب بن يوسف الموحدي على اليهود ارتداء زيٍّ موحَّدٍ من اللون الأزرق، حتى من دخلوا منهم في الإسلام، واستمرّ مثل هذا التضييق إلى نهاية دولة الموحدين، وقد أدى إلى موجات صغيرة من النزوح اليهودي خارج الأندلس الموحدية.

إذًا في العموم، لم تشهد الحقب الإسلامية الأندلسية خطرًا وجوديًا نهائيًا على التمركز اليهودي فيها، ولا استهدافًا دمويًا دينيًا على نطاق واسع، وحتى ما عُرف بمذبحة غرناطة في القرن الخامس الهجري، التي راح ضحيتها المئات من يهود غرناطة، كانت في الأصل انقلابًا سياسيًا ضد الوزير اليهودي يوسف بن إسماعيل بن نغرالة، الذي افتقر إلى كثير من حكمة ودهاء أبيه، فآثر اليهود بالمناصب المهمة، وعادى كثيرًا من الأمراء المسلمين، وتورط في قتل ولي عهد المملكة بُلُّقين بن باديس، فحرَّض خصومُه الفقهاءَ والخطباء المتعصبين، فأثاروا عامة أهل غرناطة ضده بشحن ديني، فثاروا ضده واقتحموا قصره وقتلوه، ثم امتدت سكرة الانتقام إلى كثير من يهود غرناطة دون تمييز.

المصير: التنصير أو التهجير أو كلاهما

في المراحل الأولى من نجاحات حرب الاسترداد المسيحية، خلال القرون من الحادي عشر إلى الرابع عشر الميلادية، التي شهدت سقوط أكثر الحواضر الأندلسية تباعًا مثل طليطلة وقرطبة وبلنسية … إلخ، لم يتعرض المسلمون واليهود ممن بقوا في تلك المدن المحتلة لإجراءات قمعية كبرى، وحاول الأمراء المسيحيون الاستفادة من القدرات والمهارات التي يتمتع بها الشعب الأندلسي، فاستخدموا اليهود كدبلوماسيين ومترجمين وجامعين للضرائب، أو في عقد صفقات التجارة الخارجية،  لكن لم يتمتع اليهود الذين بقوا في تلك الحواضر بمثل مقدار الحرية الدينية والاجتماعية التي حظوا بها في الأندلس الإسلامية، لا سيَّما وقد أخذ التعصب المسيحي الكاثوليكي يتصاعد شيئًا فشيئًا بمرور الوقت.

خوفًا على حياتهم وأموالهم من جرّاء هذا التعصب، اضطر الآلاف من اليهود للتحول ظاهريًا إلى المسيحية، بينما استمر أكثرهم في ممارسة الطقوس اليهودية سرًا، وقد أُطلق على هؤلاء اليهود الذي أُجبروا على التنصُّر ظاهريًا، بينما  لقب المارانوس أو المارانوش، وتذكر الموسوعة البريطانية أن جذور هذا الوصف أو المعنى المباشر له تظل مجهولة، لكن الثابت أنه وصف عنصري غرضه التحقير، وبحلول منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، قُدّر عدد اليهود المتنصّرين بحوالي مائة ألف، لكن لم يحل هذا التحول دون تعرض اليهود للكثير من المعاناة، فعلى سبيل المثال، شهدت قرطبة وجوارها من المدن في شهر مارس من عام 1473م أعمال عنفٍ وحشية من السكان المسيحيين تجاه اليهود المتنصّرين استمرت لثلاثة أيام، وراح ضحيتها المئات من اليهود، وتكررت حوادث مشابهة في السنوات القليلة اللاحقة.

بدأت المرحلة الأكثر تعصبًا في الثاني من يناير من عام 1492م، مع استسلام غرناطة، آخر المعاقل الأندلسية في أقصى الجنوب، فقد كان الملكان الكاثوليكيان المنتصران فرديناند وإيزابيلا شديدي التعصب للمسيحية، ومتَّقدي الرغبة في جعل إسبانيا الموحَّدة مسيحية خالصة.

أقام الإسبان دواوين التحقيق في ربوع المناطق الأندلسية، التي وصمتها كتب التاريخ بالوصف المخيف (محاكم التفتيش)، ومُنح رؤساؤها من الأساقفة صلاحيات مطلقة في استخدام كافة الوسائل في انتزاع الاعترافات من المتهمين بالكفر والتجديف، وإصدار العقوبات بحقهم بسقف مفتوح، وكان الأسقف الأكبر الأول لهذه الدواوين في تاريخ إسبانيا الموحَّدة هو راهب كاثوليكي متعصب اسمه توماس دي توركيمادا، الذي تولى هذا المنصب منذ عام 1483م، أي قبل 9 أعوام كاملة من سقوط غرناطة، وقد أنشأ فروعًا عديدة لتلك المحاكم في مختلف أرجاء الأندلس مثل إشبيلية وقرطبة وسرقسطة، وأصدر العديد من المراسيم التي وسَّعت من سلطاتها لتشمل جرائم أخرى إلى جانب الكفر والزندقة، مثل الزنا واللواط والسحر والشعوذة ..إلخ، وقدرت بعض المصادر عدد من أحرقتهم محاكم دي توركيمادا أحياء بنحو الألفيْن. وفي عام 1480م فقط، حكمت محاكم التفتيش بالموت على أكثر من 300 يهودي متنصّر، وقضت كذلك بمصادرة أموالهم وضياعهم. 

كان دي توركيمادا على علاقةٍ وثيقة بالملكيْن الكاثوليكييْن المنتصريْن، لا سيّما الملكة إيزابيلا الأولى التي ظل لسنوات طويلة هو كاهن الاعتراف الخاص بها. رأي هذا الأسقف المتعصب أن بقاء اليهود والمسلمين في إسبانيا سيُفسد الإيمان المسيحي، ويدنس المجتمع المسيحي، ولذا فقد ضغط بكامل نفوذه الديني على الملكيْن لاتخاذ إجراءات صارمة تجاه غير المسيحيين في إسبانيا، ووجد أخيرًا آذانًا صاغية لديهما بعد أن تكلّلت جهودهما بإخضاع كافة أرجاء إسبانيا لحكمها.

في الثلاثين من مارس 1492م، أي بعد أقل من 3 أشهر على احتلال غرناطة، أصدر الملكان الكاثوليكيان قرارًا سيغيرُ حياة مائتيْ ألف يهودي أندلسي للأبد، عُرف باسم مرسوم الحمراء، نسبة إلى القصر الإسلامي الشهير في غرناطة والذي استولى عليه الملكيان باحتلال غرناطة.  يعطي المرسوم مهلة 4 أشهر فحسب لليهود في كافة أرجاء إسبانيا، إما للتحول إلى المسيحية، وإما مغادرة البلاد، ومن سيُخالف هذا القرار، سيتعرض للقتل، ولمصادرة أمواله، وسيُعاقَب بشدة من سيأوي يهوديًا أو يساعده على إخفاء أمواله عن السلطات. 

وقد أدى هذا القرار إلى التهجير الفوري لما لا يقل عن 40 ألف يهودي، باعوا ممتلكاتهم وأراضيهم التي ورثوها عن أجدادهم عبر قرون بأبخس الأثمان ليتمكنوا من الفرار قبل الوقت المحدَّد في القرار، وقُتل وصُودر الآلاف من اليهود الذين عجزوا عن الهروب أو رفضوا التنصُّر، وتعرض آلاف آخرون للسجن والتعذيب، أما الأكثرية فقد اضطروا إلى الانضمام إلى اليهود المتنصرين، لكن ظلت شكوك التعصب المسيحي، ونيران محاكم التفتيش تلاحقهم في السنوات والعقود التالية، لا سيّما من ضُبطوا بممارسة أي شعائر يهودية ولو سرًا في قعر بيوتهم.

وقد أصدرت مملكة البرتغال قرار طردٍ مشابه لليهود عامة 1497م كجزء من مهر زواج ملك البرتغال بابنة الملكيْن فرديناند وإيزابيلا، ولحقتها مملكة نافار الصغيرة شمالي إسبانيا عام 1498م. وتشتَّت اليهود المنفيون من الأندلس في مختلف أرجاء حوض البحر المتوسط، وشمالي أفريقيا، واستقبلوا بشكل جيد في أقاليم أخرى في الدولة العثمانية سيدة الشرق آنذاك، التي لعبوا في تاريخها السياسي لاحقًا أدوارًا مهمة، لا تتسع لتفاصيلها المساحة الحالية، ومنذ القرن الثامن عشر الميلادي لم يعُد هناك أي وجود لشراذم يهود المارانوس في إسبانيا، إما بالنفي، أو بالذوبان التام في المحيط المسيحي الكاثوليكي فيها.