كانت ليلة مميزة في مدينة ميونخ، تستطيع أن تحدد ملامحها من وسط آلاف الصور إذا ما وقعت أمامك. كانت خالية الطرقات، والمحال بأنوار نصف مُضاءة، وآثار متناثرة لأعلام حمراء تُركت بين الأزقة بغير أصحاب. يقول مُدعون إنك كِدت أن تشتم رائحة حريق بعيد الأثر تجوب المدينة، لكن أحدهم قد ميّز رائحة أخرى.

في الـ29 من نيسان/إبريل من عام 2014، توقفت حافلة ريال مدريد في ليل هادئ بأحد شوارع مقاطعة بافاريا. أخذ البرازيلي «مارسيلو» يحرك رأسه في كل الاتجاهات بحثًا عن شيء ما مجهول. ظن رفاقه أنه يُعاين مشاهد الكسرة التي تسبب فيها زملاؤه، بعد هزيمة عملاق المدينة بـ 4 أهداف نظيفة، لكنه سُرعان ما نفى ذلك.

يدَّعي الظهير البرازيلي أنه يملك حاسة شم قوية، وفي تلك اللحظة كان قد تبين رائحة معرض قريب لبيع السيارات، كان مُخصصًا للعربات محلية الصُنع، «فولكس فاجن». أعلى مبنى ذلك المحل، وُضعت سيارة قديمة من إنتاج الشركة، بغرض الدعاية، تلك التي تسببت في توقف رأس مارسيلو عن الحراك. ثم ابتسم.

هل تريد الذهاب إلى ريال مدريد؟

قبل 10 سنوات من ليلة ميونخ الشهيرة، كان مارسيلو يشارك في مُعسكر مُغلق رفقة فريقه فلومينينسي البرازيلي. صعد إلى غرفته بالفندق ليجد بعض اللاعبين يشاهدون مُباراة «تُبث من كوكب آخر» بحسب وصفه: أضواء ساطعة جدًا، والليل واضح المعالم والعشب في الملعب أخضر بشدة. سأل ببساطة: ما هذا؟

كانت مباراة النهائي لبطولة دوري أبطال أوروبا، بين بورتو وموناكو، لكن لم يكن يعرف الصغير، صاحب الـ16 عامًا حينها، أي شيء عن الفريقين، بل الأدهى أنه لم يكن يعرف أن هناك ما يُسمى بدوري أبطال أصلًا.

وُلد مارسيلو في مدينة ريو دي جانيرو الشهيرة بأحيائها الفقيرة وكُرة القدم على حد سواء، وبالطبع داخل تلك الأحياء لم تكن هناك رفاهية دفع اشتراك شهري لقناة تبُث دوري أبطال أوروبا، بالتالي لم يكن يعلم أن هُناك بطولة بهذا الاسم أصلًا، لكنه بالتأكيد كان يسمع عن فريق يُدعى ريال مدريد.

بعد عامين من علمه بوجود بطولة ما تُدعى دوري الأبطال، كانت الفرق الأوروبية قد بلغها خبر بروز ظهير أيسر واعد في صفوف فريق فلومينينسي، والمولود في 12 آذار/مايو لعام 1988. وبعد كل الأخبار التي قد جاءته عن الانتقال إلى أوروبا، تلقى مكالمة بدأت بسؤال مُريب: هل تريد الذهاب إلى ريال مدريد؟

سيارة المجد البرتقالية

في رحلة عودة مُعتادة من تدريب نادي فلومينينسي، يعود تاريخها إلى ما قبل المكالمة التي فتحت الباب نحو الانتقال إلى العملاق الإسباني، نحو المجد، قال مارسيلو لجده إنه قد سئم الانتظار على دكة الاحتياط، وإنه قرر الاستسلام في رحلته مع كرة القدم.

كان «بيدرو فييرا»، الذي كان يعمل كسائق لأحد البنوك المحلية، هو جده لأبيه، وأكثر من آمن به طوال حياته. انتقلا سويًا من وإلى تدريبات الفريق البرازيلي والتي كانت في مدينة «شيريم» التي تبعد عن محل سكنهم بمسافة طويلة، وذلك عن طريق سيارة برتقالية اللون ألمانية الصنع: «فولكس فاجن بييتل».

مارسيلو، فولكس فاجن، بايرن ميونخ، ريال مدريد، دوري أبطال أوروبا،
سيارة «فولكس فاجن» تُشبه السيارة التي امتلكها جد البرازيلي «مارسيلو»

يبدأ كل شيء من تلك السيارة، ليس السيارة الـ «بييتل» بالتحديد، ولكن سيارة الجد نفسه. اشترى جده تلك السيارة عن طريق لعبة حظ مشهورة لديهم، وكانت الرفيق خلال كل رحلات التدريب منذ شرائها وحتى الانتقال خارج البرازيل.

لكنها لم تكن رفيقتهما في رحلة مارسيلو الأولى إلى ملعب فلومينينسي كمختبر لديه 10 سنوات. امتلك جده في الماضي سيارة من نفس النوع لكن من فئة «فاريانت»، ولم يُكتب لتلك السيارة أن تشهد نجاحًا في الاختبار الأول له كلاعب بأكاديمية، لكن ظلت فاريانت صاحبة فضل على البرازيلي.

عاد بعد فشله في تلك الاختبارات للتدرب مع فاسكو دي جاما، قبل أن يُحمسه جده للعودة مرة أخرى لفلومينينسي بعد عامين، وعن طريق نفس السيارة، وصلوا إلى مقر الاختبارات، لكنه نجح هذه المرة، ومع ذلك النجاح زادت المُتطلبات وصَعُب الطريق أكثر.

احتاجت الرحلة شبه اليومية لبنزين بكميات كبيرة، وزادت الكلفة كلما زاد التمرس والتدرب أكثر، فكان على جده إيجاد حل، كما فعل دائمًا، فلم يجد بديلًا عن بيع السيارة الـ«فاريانت» من أجل تأمين سعر تذاكر حافلة تكفي لنقله لمقر التدريب أطول مُدة ممكنة.

لتأتي بعد ذلك لعبة الحظ وهديتها: السيارة بييتل. سيارة احتفظ مارسيلو بذكراها بوضع صورتها كرسم «تاتو» على جسده، والموجود حتى اللحظة بجانب اسم جده لأبيه: «بيدرو». لولاهما، لمل الفتى الحافلة والجلوس احتياطيًا والرحلة الطويلة نحو فلومينينسي، بل الرحلة الأطول لمدريد.

لولا جدي، لما وصلت إلى ريال مدريد أبدًا.
اعتراف الظهير البرازيلي «مارسيلو فييرا» بفضل جده «بيدرو فييرا» عليه.

لا يمكن أن يكون كارلوس

دخل مارسيلو لغرفة ملابس ريال مدريد لأول مرة فوجد فطاحل اللاعبين: «روبينيو» و«رونالدو الظاهرة» و«كانافارو»، و و و و.. و«روبيرتو كارلوس». قُدم ذلك الشاب الذي جاء لتوه من حيه الفقير في ريو من قبل الرئيس «رامون كالديرون» إلى الجميع بصفته بديلاً لروبيرتو، ومع ذلك كان أكثر المُرحبين به.

أبدى كارلوس اهتمامًا غير مسبوق بمواطنه فور وصوله، أعطاه رقم هاتفه الشخصي وطلب منه أن يتصل به في أي وقت يحتاج فيه هو أو عائلته أي شيء في مدينة مدريد الجديدة عليهم كليًا. وهو اهتمام لم ينقطع بالرغم من اعتزال روبيرتو اللعب، وتقدم مارسيلو في السن وتخطيه لأستاذه السابق.

في إحدى زيارات كارلوس لمنزل مارسيلو في مدريد، وقفا أمام الطفل الباكستاني الذي يهتم بشئون حديقة منزل صاحب القميص رقم 12، لم يصدق الطفل ما رأته عينه للتو، لم يصدق أن من يقف أمامه هو كارلوس بنفسه! لم تختفِ تلك الحالة من التكذيب المنطقي حتى لمس رأسه بيديه.

لعب صاحب القدم اليسرى القوية المميزة 527 مباراة بقميص الميرينجي، كان بالنسبة لمارسيلو كالأبطال الخارقين الذين لن تجدهم في الحقيقة أبدًا، لكنه نجح ليس فقط في أن يلقاه، بل في تخطيه.

امتلك فييرا 505 مباراة فقط قبل التوقف الذي ضرب اللعبة بسبب «فيروس كورونا»، ويملك فرصة لكسر الرقم في عدد المباريات التي يمتلكها كارلوس، بجانب فرصة ليصبح أكثر أجنبي لعب للميرينجي.

فاز بـ21 بطولة كثاني أكثر لاعبي ريال مدريد تاريخيًا، بالتساوي مع «راموس» وبفارق بطولتين عن «باكو خينتو». على رأس تلك البطولات هي دوري أبطال أوروبا، التي نجح في الفوز بها 4 مرات رفقة الجيل التاريخي للنادي، في الفترة من عام 2014:2018، ليتخطى أسطورة طفولته الذي امتلك 3 بطولات من ذلك اللقب فقط.

ما هذا الدوري؟

كان التاريخ الأول في عام 2014، والذي يتذكره الجميع بصورة «راموس» وهو يقفز ليسجل في الدقيقة 93 لينقذ اللقاء من الانتهاء، لكن يملك البرازيلي صورة مُختلفة تمامًا عن نفس المباراة.

تجمعه تلك الصورة بعامل الغرف «مانولين» الذي تواجد في النفق المؤدي لملعب المباراة، والذي كان شاهدًا على تجهيز قمصان الأبطال ليرتديها لاعبي أتلتيكو مدريد، ويجهزون زجاجات الشامبانيا للاحتفال، قُتل كل ذلك، بكى مانولين وضحك في آن واحد، وبقيت تلك الصورة هي التي تلخص البطولة في بال مارسيلو.

أما في ريو دي جانيرو، وفي نفس اللحظة بالضبط، كان هناك صورة أخرى عن المباراة، صورة تُجسد لقاء النهائي بالكامل، واحتفالات الفوز بالعاشرة التاريخية لريال مدريد، في شخص مارسيلو فقط. كانت تلك الصورة هي قطعة ضمن قطعتين تنقصان متحف البرازيلي الشخصي بمنزل جده.

حين بلغ الطفل «مارسيليتو» عامه السادس، وقت أن خطت قدمه الملاعب للمرة الأولى كطفل، بدأ جده تدشين متحف مُصغر يحتوي على صور لكل إنجازاته وبطولاته وأهدافه كطفل، وحتى أصبح الشاب الناضج الذي يرفع كأس دوري أبطال أوروبا أمام العالم أجمع.

في نهائي 2014 أمام الأتلتي، جاء مارسيلو من دكة البدلاء وتمكن من إحراز هدف، وعلى الفور، دار صراع في عقله عن شكل الاحتفال الذي يجب أن يقوم به ليبقى خالدًا في متحف جده، فلم يستطع فعل شيء سوى البُكاء. كانت اللحظة الأخيرة لإنجاز يشهده جده ويحتفظ به في متحفه.

الخروج من شباك الطائرة

وبعد أن انتهت مهمة بيدرو فييرا في توثيق إنجازات حفيده الكروية، انتقلت المهمة إلى مارسيلو نفسه. رسم في عقله صورًا كثيرة بتجميعها تحصل على فيلم درامي يبدأ من عمر الـ8 سنوات، تعجز عائلته عن تحمل تكاليف ذهابه للتدريب، يقوم جده بالتضحية بسيارته فولكس فاجن ليغير حياته بالكامل.

يأخذه يوميًا إلى التدريب عبر حافلة مزدحمة في حرارة شديدة، حافلة يستطيع مارسيلو تذكر رائحتها حتى تخطى الـ 30 من عمره. كما يتذكر مدح جده منقطع النظير، الذي يخبره أنه الأفضل مهما حدث، وأنه ينتظر أن يلعب ذات يوم على ماراكانا. ينتقل الفيلم الذي احتوى على كل المشاهد المطلوبة للحظة التي يجب أن يرفع فيها مارسيلو الكأس الذهبي لبطولة العالم مع البرازيل، ليتوقف العرض.

يعود عقل مارسيلو إلى صيف عام 1994، قبل بدء كأس العالم مباشرة، تكتسي الشوارع بألوان السامبا، ويرسم الأطفال صورًا لأبطالهم على كل جداريات البلدة. يمسك مارسيليتو طباشير بالية ليقوم برسم كروكي لصورة الظاهرة رونالدو وفقًا لوصفه، كبطل طفولته الأعظم.

في تلك الأثناء يتذكر ما قد قرأه على لسان بطل طفولته، الذي قام بالفعلة نفسها قبل سنين، قبل كأس العالم 1982، وساعد في رسم لوحة جدارية لبطل آخر: «زيكو»، ثم نجح في الفوز بـكأس العالم 1994 مع منتخب بلاده.

تضيع صورة تتويج البرازيل بذلك الكأس من ذهن مارسيلو في كل مرة يحاول تذكرها، لكنه يحتفظ بدلًا منها بصورة أخرى لـ«روماريو» وهو يتدلى بالكامل من المقصورة الأمامية للطائرة العائدة بالمنتخب البرازيلي إلى أرض الوطن.

يخبر مارسيلو نفسه دائمًا أنه يجب أن يحصل على صورة شبيهة في يوم ما. حينها، سيذهب ليكمل المتحف الخاص بجده، ويضع القطعة الأخيرة الناقصة فيه، والمشهد الأخير المتبقي في شريط حياته المعروض بعقله.