منذ 5 أعوام، وتحديداً في يونيو/ حزيران 2015، في لقاء صحفي على هامش حصوله على درجة الدكتوراه الفخرية في «الاتصال والثقافة» من جامعة تورينو، كتقدير لجهوده في إثراء الثقافة العالمية في مجالات الفلسفة وتحليل المجتمع والأدب المُعاصِر؛ أجابْ «إمبرتو إيكو» حين سئل عن وسائل التواصل الاجتماعي (السوشال ميديا) قائلاً:

إن أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممنْ كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسبّبوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً. أمّا الآن فلهم الحق في الكلام مثلهم مثل منْ يحمل جائزة نوبل… إنه غزو البُلهاء.

بدايةً، وحتى لا نقع في شِرك ما نحن بصدد توضيحُه؛ يجب الوقوف على أن «إيكو» بالطبع لم يكُن يلجَأ هُنا إلى التعميم، وإنما يحاول وضع عدستُه المكبرة على أزمة فكرية، لتوضيح مدى تدهور الوعي في وسائل تواصل ليس عليها رقيب ثقافي، وظهر ذلك حين لمَح في نفس الحوار إلى أنه لا بد من البحث عن آلية لتصفية الآراء والمعلومات، عن طريق وجود تحليل نقدي وتعليم المُسْتخدمين فلسفة مُقارنة المعلومات قبل إصدار الآراء؛ ولكن هل أصاب «إيكو» في اتهامه السوشيال ميديا؟ وإنْ أصاب فـكيف، ولماذا بدأ كل هذا؟ وهل يكفي هذا الحَل المُتخيَل من وجهة نظر «إيكو»؟

عوامل الانحدار

الحقيقة أن «إيكو» كان دقيقاً في تعبيره، رغم أن السؤال الصحفي كان مُفاجئاً، فقد أوضحت إجابتُه أن هؤلاء السُذّج لم تصنعهُم وسائل التواصُل، بل إنهم كانوا موجودين دائماً، ولكنها عزّزت من قدرتهُم في نشر سذاجتهم على نطاق أوسَع؛ ولكي نكتشف كيف أسهمت في ذلك، ونعلم أسباب الانحدار الثقافي، علينا أن نستعرِض عِدة عوامِل:

1. التريند واستهلاك المعلومات

بما أننا في عالم مُتسَارع مليء بـالقضايا اليومية العالمية والمحلية، سواء كانت فكرية أو اجتماعية، أصبح من البديهي أن يجد الناس أنفسهُم أمام كم من المعلومات والمسْتجدات التي تُعرَض على عقولهُم، مما يمنعهُم من أخذ الوقت الكَافي في هضم المعلومات عقلياً عن طريق تحليلها وربطها ببعض وبالمواضيع الأخرى بشكل منطقي، وبالتالي أصبح الأغلبية فاقدين للقدرة على التحليل والتفكير المنطقي والفلسفي في أغلب القضايا.

وبناءً عليه أصبحوا غير قادرين على تكوين آراء مُستقلة، ومكتفيين بالربط بين المعلومات بشكل سطحي ودمجها برأي قد سمعوه من آخرين وهُم يظنون أن هذا يُسَمى تفكيراً وتحليلاً، فينتج لديهم ظن مزيف بوصولهم إلى مرحلة من الوعي تسمَح لهم بأخذ وضعية المُفكِر صاحب الرأي، مُتجاهلين تماماً مناهج التفكير والبحث التي تستوجب التحليل المنطقي، والتفكير المُستغرَق والقراءة المكثفة، لتكون قادراً على تكوين رأي صحيح، ومتجاهلين أن هذا ما يفعلهُ كل باحث أو مُفكر حقيقي مهتم بقضيَة ما. وتجاهلهُم هذا يجعل منهُم مُعتدّين بأنفسهُم وبقدراتهُم أكثر من اللازم، فيسمحون لأنفسهُم بالتنظير علي أصحاب القضايا والتخصص، وعلى أولئك المهتمين جدياً بالقضية ممّنْ بذلوا وقتهم الكامل في التحليل والتدقيق لتكوين آرائهم.

يجِب أن ينتبه هؤلاء إلى أنه لا يُمكن لإنسان أن يدرك أبعاد عشرات القضايا المُختلفة في التريندات ويتفاعل معها دون الوقوع في فخ السطحية، وأن يعلموا أن رغبتهُم المحمومَة في مجاراة التريندات جعلت منهُم ومن الأغلبية مُشتتي الآراء ومُنسَاقين وراء رأي جمعي واحِد، ولكن كل شخص يبلور هذا الرأي الجمعي ليبدو وكأنه رأي شخصْي.

يجب أن يعلموا أن تناول كل شيء بشكله الظاهِر دون إعطاء أنفسهم الفرصة للقراءة والتحليل يساعد في تشْويه أفكارهم تدريجياً. يجب أن يعلموا كيف يبذل المثقفون الحقيقيون وقتهم الثمين في قراءة أكثر من مَقال وكتاب وتحليل لمعرفة جوهر وأبعاد قضية ما وتقييمها قبل الخروج برأي إلى الناس، وليس كما يفعلون هُم بكل بساطة، حين يتنقلون بين الهاشتاجات والبوستات مُختارين أكثر الآراء إجماعاً ثم أخذها وبلورتها في صورة رأي شخصْي، دون أي تدقيق في أبعاد أو صِحَة القضية! وهذا يأخذنا إلى العامل الثاني.

2. صراع الأيديولوجيات

أعطت السوشيال ميديا لأصْحاب الأيديولوجيات فرصَة ذهبية للتحكُم في هؤلاء السُذج، ممّنْ أتينا علي ذِكرهُم، فـبدأت في تزييف الوعي بتلجيم العقل وسحق الفكر من خلال بث النعرَات (القبلية… القومية… الدينية) وإثارة الحساسيات، والنتيجة هي خلق فئتين كبيرتين من هؤلاء الذين يظنون في أنفسهُم المعرفة، ويرون فيها القدر الكافي من الوعي:

  • الفئة الأولى: منْ يدافعون عن قضايا وأيديولوجيات رُبما لا يفهمونهَا، بل رُبمَا لا يعرفون حتى معنى «أيديولوجيا»، ولكنهم تبنّوا الرأي بسبب وقوعهُم في فخ المُغالطات الفكرية التي تم نصبُها لهم لاستخدامهُم كـجيش مُرتزقة، دون أن يُدركوا حقيقة استغلالهم، بل يظنون أنهُم أصحاب قضية.
  • الفئة الثانية: وهي الأسوأ، لأنهم يدرِكون تماماً أي قضية وأيديولوجية يخدِمون، والحقيقة أنه لا مانع أبداً أن تكون مُنحازاً لقضية ما، فلا ضرر في هذا، حيث إن ذلك يُثري الوضْع الثقافي، ولكن الأزمة تكمُن في القيود الفكرية التي تُحيل صاحبهَا لرؤية العالم من منظوره الشخصْي فقط، وخلق رغبة داخلية لديه للسَعي إلى جعل كل أفراد المُجتمع نُسْخاً مُكررَة وتجسيداً بشرياً لأفكارُه ومعتقداتُه، فيبدأ بذلك في فتح جرح في جسَد التعايُش والثقافة المُعاصِرة، عن طريق الاستبسَال والانتصار للنفس أو الأيديولوجية، بدلاً مِن الانتصار للحقيقة، مما يدفعُه إلى استخدام وسائل التواصُل الاجتماعي وديماجوجية الفئة السابقة لاستخدامهُا في معاركُه.

3. مساحة من الديمُقراطية السَامة

تضمَن الديمقراطية أن يكون لكل فرد مسَاحة للتعبير عن الرأي، ويا لهُ من مبدأ عظيم حين نكون نحن أصحاب الرأي، ويا لهُ من مبدأ قبيح حين نكون مُضطَرين إلى رؤية كثير من الآراء والحماقات باسم الديمُقراطية؛ وبسبب تلك المسَاحة اللامحدودة من التعبير عن الرأي في الفضاء الإلكتروني، حدثت الأزمة كما وصفها الكاتب «طوني صغبيني»:

السوشال ميديا حوّلت الناس من استهلاك الإعلام إلى صُنّاع له؛ وفي ذلك إشكالية حقيقية تدفعنا للسؤال: هل أصبح الأفراد حَقاً صُنّاع الرأي كما يبدو، أم هي سلطة المجموع التي لا تقل سطوة واستبداداً عن الحكومات وعمالقة الإعلام التقليدي.

تلك إحدى الأزمات الكُبرى، حيث منحت وسائل التواصُل للجميع فرصة للتعبير والظَن في قدرتهُم علي التغيير، ولكنهُم غالباً ما يصطدمون بمُعوِقات، ولنأخذ علي سبيل المثال هُنا فِئة مختلفة تماماً عمّا ذكرناهُم مُسْبقاً، وهم الفئة التي تملك بالفعل شعوراً فطرياً أو ثقافة نوعية أو اطلاعاً متوسط، يُمكِّنهم من تكوين رأي شخصْي، ربما ليس كاملاً، ولكنه علي الأقل نتيجة محاولة لإعمال العقل، وهذا ما يجعلهُم مُتميزين نسبياً، ولكن لن تكتمل القصة السعيدة، فـ هؤلاء يواجهون سُلطة (العقل الجمعي)، فبمُجرد ظهور قضية ما في التريند يبدأ أصحاب الأيديولوجيات في استخدام سلطتهُم وجيوشهم المُغيَبة لتكوين رأي جمعي مبني على المغالطات الفكرية والمنطقية، لإخضَاع أي مُحاولة للاختلاف، وهذه طريقه معروفة في السيطرة علي الأفراد من خلال إظهار أن الجميع مُتفقون، ليتصدَر لديك شعور بأن هناك شيئاً ما لا تعلمُه، لذلك انضم إلى الفريق الرابح ولا تخاطِر.

وقد قام عالم النفس الأمريكي «سلومون آش» بتوضيح تلك الفكرة عام 1962، حين قام بتجرُبته الشَهيرة «الأسانسير»، والتي توضِح مدى تأثير العقل الجمعي على الأفراد في تغيير قراراتهم وأفكارهم، مما يجعلهم يفقدون بديهيات التفكير المنطقي، حيث يظهر الناس في التجربة وهُم يقومون بالصَواب، ولكنهم يبدؤون في تغيير قراراتهم بمجرد أن يروا أن الجميع يفعلون العكسْ؛ ولا يتشجعون على الثبات على مواقفهم إلا حين يرون أن هُناك من قد سبقهُم إلى ذلك، وهذا ينطبق نوعاً ما على فئة معينة في السوشيال ميديا، حيثُ يتم تلجيم عقولهم وعواطفهم بكلمات تلامس أفكارهُم المسْبقة، فيتخلون عن المَنطق ظناً أنه لا يتفق مع الحقيقة.

4. وهم المعرفة

ربما لا يُمكنِنا معرِفة متى تحديداً انهارت ثقة الناس في النُخبْ المُثقفَة ووسائل الإعلام؟ هل بعد 2011 والثورات العربية؟ أم سقطت بالتبعية كجزء من توجه عالمي بعد سقوطها في أوروبا وأمريكا نتيجة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ونجاح ترامب في الانتخابات الأمريكية؟

أياً كان، فهذا لا يهمنا الآن، ولكن مُبتغانَا توضيح أثر ذلك؛ ففي ظِل انهيار تلك الثقة بنيت ثقة بديلة تدريجياً في مُجتمع السوشيال ميديا، فأصبحت المُغالطات سواء معلومات أو آراء يتم اعتبارها كحقيقة غير قابلة للنقاش، بسبب الشيوع والتكرار، الذي يسَاهم في خلق انطباع عام بالتوافق المُصْطنع حول موقف ما، ويعزز ثقة المنتمين إليه، وتدريجياً يضُم السواد الأعظم إليه، ومع الوقت يكون الحال كما وصفه الكاتب «جيمس بول» في كتابُه «ما بعد الحقيقة»:

حتى لو حاولت وسائل الإعلام الإصلاح، لن تستطيع إصلاح هذا الهُراء بعد أن أصبح أصحابه يمتلكون سلاحاً أقوى، وهو ثِقة الناس، وحينها سيبدو سلاح الحقيقة في مواجهَة العقل الجمعي المُغيَّبْ بلا قيمَة كـَ سِكين في مواجهة مدافع.

وفي خضم تلك المعركة، لن تنضم فقط الفئات التي ذكرناها مِن أصحاب الأيديولوجيات وجيوشهُم المُغيبة، أو الآخرين مِمن ينسحِق فكرهُم وينسَاقون وراء الإجمَاع، بل سينضم إليهم كثيرون مِمن يبحثون عن إرضاء الأنا والشعور بالتقدير والأهمية، من خلال الانضمام لقضية أو رأي ما، لمُجرَد إثبات وجودهُم أو إظهار أنهُم فرسَان رأي، وهؤلاء بمثابة خطر شديد، لأنهم سيُساعدون في نشر المُغالطَات، حيثُ إن مبدأهم هو الانتصار للأنا وليس الحقيقة.

ونتيجة تلك المَعركة هي سيادة التفكير الجمعي وتراجُع التفكير النقدي، فضلاً عن خروج آفة مجتمعية جديدة مِن رحِم الجُهلاء تتمثَل في مُتوهمْي المعرفة والمبالغين في قدراتهُم الفكرية، نتيجة لطموحهُم المتسَرع في إثبات الذاتْ، وبالطبع كان التسرُع هو الفخ الذي انحدر بِهم من أشخاص متوازنين إلى أشخاصْ انطباعيين، بدلاً من الارتقاء لمكَانة المثقف النقدي التحليلي.

السَعي للحقيقة

قديماً، خاض كثيرون جدالات فلسفية عميقة في مجتمعاتهم، لإثبات حقائق كونية أو فكرية وخسروا مكانتهم ورُبما حياتهم في سبيل ذلك، وعانوا بسبب عدم إدراك الناس لعُمق تلك المسَائل العظيمة التي تحتاج إلى رفع مستوى وعي العامة حتى يتمكنوا من قبولها؛ وإذا التمسْنا العُذر للعامة في كل العصور القديمة والوسطى بسبب دقة القضايا وكثرة تفاصيلها وعمق مضمونها وصعوبة الحصول علي المعرِفة والتعلم والتثقيف الذاتي، إضافة إلى انشغالهم بأولويات الحياة، فسيكون مِن الصَعب والكريه التماس العُذر لمستخدمي السوشيال ميديا الذين أغلبهم من فئات عُمرية تستدعي أن تكون أولوياتهُم التثقيف الذاتي الحقيقي، وهذا شيء ليس بالصَعب في ظل توافر كل المعلومات إلكترونياً، ويتبقى عليهُم فقط تنسيقها واستخدامهَا فكرياً بشكل متوازِن.

ليس مطلوباً منك أن تتقبل الأفكار هائلة الاختلاف، ولا المُشاركة حول جدليتها، ولا يوجد في عصْرنا الآن «كوبرنيكوس» آخر ليضَع أمامك نظرية صعبة القبول، ستتسَبب في تغيير المعرفَة البشرية، وإنما كل المطلوب أن يكون لديك أولاً أبسط أبجديات التفكير المنطقي، وأبسط بديهيات النقاش وتقبُل الآخر.

مطلوب مِنك أن تتمكن من التفريق بين منْ ينتقدك ومن ينتقِد قضيتك، ومنْ ينتقد أسلوبك في عرض قضيتَك، فـ الفرق كبير جداً بينهم، ويقود إلى سوء الفهم أحياناً، وأغلب مشاكلنا تنبُع من تلك النقطة الجوهرية.

مطلوب منك ألا تكُون منسَاقاً وتنزلِق وراء أيديولوجيات الآخرين. مطلوب منك ألا تكُون سطحياً وأن تعلم أن الثقافة ليست في جمع المعلومات واستهلاكها، فـ الفِكر والتحليل والمنطق والفلسَفة والإدراك هُم سيارتك القادرة على قطع كل المسافات الفكرية بينك وبين الآخرين.

مطلوب منك ألا تتظاهْر بالارتقاء الفِكري، ولكن ابذل الجُهد فِعلاً في سبيل ذلك. مطلوب منك أن تتواضع في نقاشَاتك فـ أنتَ لا تملك «الحقيقة المطلقة»، لذلك حين تُناقش أحدهم لا تكُن كـ العدو تتخذ جبهة تستميت دفاعاً عنها، وتبدأ في البحث عن طريقة لقصْف جبهتُه، وإنما كُن كـ قوات حفظ السلام وزُر جبهَة من تُناقشُه واجتهد في فِهم منظوره، فلعلك كنت مُخطئاً وكان هو على صواب. الاستعداد والرغبة في الفهم دون أخذ النقاشات إلى طريق القاصِف والمقصَوف هُما بداية الطريق لرفع الوعي، فـاسعَ إلى ذلك بقدر ما تستطيعْ.

وعلى الرغم من بسَاطة المطلوب مقارنةً بالغوص في مُحيط القضايا الفكريَة الكُبرى، إلا أنه كـتطبيق أمر مُختلف تماماً، يحتاج إلى رغبة حقيقة وصَبر، وإلا سيقع صاحب محاولة التطبيق في شِرك أحد المُغالطين أو في دوامة الرأي الجمعْي أو حتى في آفة التحيز للانتصار الشخصي بدلاً من السعي إلى الحقيقة أينما حلَتْ.

أخيراً، يجب التأكيد على أن هذا بالطبع ليس انتقاداً للسوشيال ميديا، وإنما توضيح لقدرتها الفائقة على فضح وكشف الخلل الثقافي والفِكري لدينا جميعاً، فهي في حقيقتها كالمرَايا، لذلك أتمنى ألا نكون مُصَابين بـِ«الايزوبتروفوبيا»، وأن تكون لدينا الشجاعة الكافية لننظُر بكل جدية إلى عيوبنا، ونجتهِد في معالجتها سَواء بمجهود فردي أو مؤسَسي.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.