في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين ازدحمت الساحة الأدبية في مصر بالعديد من الأدباء ذوي التجارب الأدبية الجادة والملفتة للنظر، والناظر لأدباء هذه الحقبة يجد أن همومهم وأحلامهم سيطر عليها عدة عوامل مهمة: نكسة 67، الحرب والسلام، الانفتاح الاقتصادي.. كانت العوامل السابقة محفزًا للغضب ومحاولة تعبير كل أديب عن همومه بطريقته وأسلوبه.

في هذه الأثناء ظهرت تجربة «خيري شلبي» الأدبية، لفت إليه الأنظار من رواياته الأولى نظرًا لاختلاف تجربته عن باقي الساحة الأدبية، وغزارة إنتاجه في مختلف المجالات، وخوضه في أماكن غير مطروقة مسبقًا من المجتمع المصري، أما عن الصفة التي جذبت إليه أنظار النقاد والقراء وانبهروا بها فكانت اقتران تجربته الأدبية بتجربته الحياتية.


اقتران تجربته الأدبية بتجربته الحياتية

يُقال إن الإبداع يولد من رحم المعاناة. منبع الحكايات الأول في روايات خيري شلبي هو التجربة الحياتية، فآلاف الحكايات الواردة في أعماله كانت من فعل التجربة قبل الخيال، وإن كان للخيال عامل كبير جدًا في أدبه لكن المنبع أو الشخصية التي يرسمها هي شخصية واقعية بالمقام الأول. كل شخص عند عم خيري هو نموذج يستحق أن يُرى من الداخل، لأنه يضرب بيده في أعماق الشخصية الحية ثم ينسج على نفس المنوال شخصية حية على الورق، وهذا ما يجعل جذور شخصياته ضاربة في أرض الواقع معبرة عما يريد قوله بدقة.

أثرت حياته الأولى في قريته في «كفر الشيخ» في اصطباغ شخصيته الروائية، فجاءت رواياته الأولى عن الريف ومعاناة أهل الريف، والمعروف عن خيري شلبي في هذه الفترة هو اشتغاله في الكثير من الحرف اليدوية وقد عبر عن هذا في روايته «العراوي» على سبيل المثال.

أما عن أكثر روايات «عم خيري» اصطباغًا بالواقع فكانت هذه التي تعبر عن الفترة ما بعد تركه للمدرسة وهربه من قريته، فقد هام على وجهه في القاهرة مختلطًا بجميع أنواع البشر ليأتي موال كل يوم في بحثه عن مكان للنوم، في روايته «موال البيات والنوم» يجعلنا خيري شلبي نعيش معه مأساته، ينقل لنا تفاصيل هذه الفترة القاسية من حياته. في نظري أن هذه الفترة كان لها الكثير من العوامل في تكوين شخصية خيري شلبي، جعلته أكثر ارتباطًا بالبسطاء والمهمشين، أكثر ارتباطًا بالطبقة السفلى من المجتمع المصري، فأحيا قضاياهم وعالمهم في مختلف رواياته.


التأريخ الاجتماعي

تضرب روايات خيري شلبي دائمًا في أعمق أعماق المجتمع، يوجد خط أحمر يقف أمامه الجميع حينما يستعد للتأريخ المجتمعي، خيري شلبي يبدأ رحلته من هذا الخط الأحمر متوغلًا أبعد من هذا، ويختلف شكل هذا التعمق، فعندما يكتب عن الريف تشعر بأنه فلاح أراري أفنى حياته في الريف، يبني هذا العالم وشخصياته بشكل عظيم ودقيق، يعبر عن معاناتهم مع الإقطاعيين قبل الثورة وخيبة أملهم بعدها، يرسم الفقر والجهل الذي يكتنف هذا العالم، يكفي ما قاله «نجيب محفوظ» عندما سُئل عن عدم كتابته عن القرية المصرية، فأجاب:

أو عندما يكتب عن القرية في صعيد مصر، عالم آخر يختلف عن الأول في المفردات والمشاكل والأحداث، والروايات التي تتناول الريف والقرية كثيرة، منها: «الأوباش»، «بغلة العرش»، «السنيورة»، «ثلاثية الأمالي»، «موت عباءة»، وغيرها.

عندما يتوغل في عالم الصعاليك والمخربشين تجده يبدع من الحكايا ما تعجب له ولوجوده، يبني عالمًا ليس بعيدًا عن الأنظار كعالم الريف، بل بداخل المدينة، يأخذنا في الشوارع والأزقة الجانبية، يبني عالمًا ليس له وجود بالرغم من واقعيته الشديدة، بحيث لا يمكنك تصديق أن هذا المكان من وحي الخيال، وأن هذه الشخصيات ليست سوى تراكمات أبدعتها مخيلة المؤلف وبصيرته وتركيزه مع كل نموذج يراه ويأخذ منه ما يساعده في رسم هذه الشخصيات، كما هو الحال في روايته «وكالة عطية»، يقولون إن بعض سكان المحلة من القراء والكتاب شكّوا في أن هذه الوكالة موجودة بالفعل فذهبوا ليروها، لكنهم تفاجئوا بأنه لا يوجد ما يسمى «وكالة عطية»! ائتني بمن يحلف لي مائة يمين أن «وكالة عطية» لا وجود لها، لن أصدق! ائتني بخيري شلبي نفسه ودعه يحلف أيمان الدنيا والآخرة، لن أصدق أيضًا! وتحت هذا النوع تندرج روايات مثل: «وكالة عطية»، «صالح هيصة»، «الشطار».

ومن أنواع هذا التعمق الذي يلمس مشاكل وقضايا اجتماعية مباشرة، التعمق في الفساد الذي شمل المجتمع، وهذه الصفة موجودة في جُل رواياته، لكن بعض الروايات ركزت على هذا العالم كرواية «نسف الأدمغة» التي تناولت عالم المخدرات ونبش القبور واستحلال هدمها لبناء الطرق والكثير من القضايا الاجتماعية التي زرعها الفساد في بنية مصر، أو «زهرة الخشخاش» التي عايشنا فيها تسيُّد بعض العائلات في الخمسينيات وما بعد الثورة وامتلاكهم للبلد، وغيرها.

خيري شلبي أعظم من رسم تاريخ مصر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في رواياته، لا يمكن مقارنته بأي أحد مهما كان في هذا الجانب. أوجز عصرًا كاملًا في خمسمائة صفحة، ومرة أخرى في أربعمائة، وثلاثمائة، ومائة، وأتخيلني وأنا جالس معه يروي لي كل شيء في ظرف حجر واحد، هذا هو خيري شلبي.


البنية الروائية

كيف أكتب عن القرية ولدينا خيري شلبي؟

بالرغم من اتحاد الهدف الأدبي في روايات خيري شلبي وهو التعمق في الطبقة ما تحت السفلى من المجتمع، ولكن كل رواية له تختلف عن الأخرى في عالمها وبنيتها السردية وأسلوبها وشخوصها. خلف البساطة والانطلاق في الحكي تكمن قوة البناء والعظمة في بناء الشخصيات.

عم خيري يبني شخصياته بالحكايات لا بالأوصاف، بمعنى أن الشخصية عنده ليست مجرد صفات خارجية أو داخلية فقط، بل حكايات لا بد أن تُعرف ويستشف منها القارئ دواخل الشخصية، فتنشأ بهذا روابط خفية بين القارئ وشخصيات الرواية تجعله على دراية بردود فعل الشخصية داخليًا ونفسيًا في الأحداث اللاحقة في الرواية دون أن يحتاج الكاتب لأن يصف لنا انفعالاتها. هو بهذا يجعل شخصياته كلها حية بالفعل، لا مجرد كلام على ورق وتلصيق انفعالات وصفات رسمها لتناسب الرواية، بل هي بكل تناقضاتها وصراعها الداخلي وصراعها مع الحياة نموذج حي من البيئة التي يتناولها الكاتب.

أمامنا «صالح هيصة» كنموذج، فعم صالح من أعظم الشخصيات الأدبية التي تم بناؤها مطلقًا. «صالح هيصة» ليس مجرد شخصية روائية، بل هو بمثابة تعرية لعصر كامل من الديكتاتورية والفساد السياسي والثقافي، عصر شهد نكسة واستنزافًا، وانتصارًا، ثم عارًا.

أما عن الشكل الذي تكون به الحكاية فهي غالبًا ما تكون على لسان أحد شخصيات الرواية، ويتم توصيف هذه الحكاية بحرفية، فلا توجد حكاية واحدة بلا غرض في رسم ولو جزء بسيط للغاية من شخصية، أو بغرض تأثير هذه الحكاية في مجريات الأحداث لاحقًا، فالبنية السردية عنده من القوة بحيث لا يمكن نزع أي جزء من الرواية، ولا قول أن هذا الجزء ليس له فائدة. لذا فوصف عم خيري بـ«الرغاي» ووصف ما يقوله بأنه مجرد رغي فهو وصف جائر وغير موفق بالمرة، وهذا قد يحدث بسبب قراءة متسرعة أو نظرية غير واعية للنص، من الجائز أننا يمكن أن نضع أيدينا على بعض مواطن الإسهاب كما حدث في الجزء الثالث من «ثلاثية الأمالي» بوصفه لورق اللعب مرتين مثلًا، لكن مع هذا لا يُعد الأمر من باب الرغي الذي لا فائدة منه.

أما عن كيفية ترتيب الحكايات والأحداث في البناء الزمني السردي فحدث ولا حرج، فهو يعرف متى يظل يفرد في الحكايات ومتى يتمهل قليلًا ويبدأ في كشف بعض الأوراق، ومتى يبدأ في حل العقدة التي قامت عليها الرواية. «ثلاثية الأمالي كنموذج»، الرواية محبوكة بعبقرية، أراد خيري شلبي جرّ رجل القارئ من الجزء الأول خلال تكثيف الحكايات وبساطتها، فنعيش في هذا الجزء حياة الصعيدي ومشقات الحياة والعمل في القاهرة ثم بعض السرقات الصغيرة للعيش، ستجد عشرات الحكايات الساحرة في هذا الجزء.

الجزء الثاني يصبح السرد أكثر تفصيلًا ويبهرنا عم خيري ببراعته في الحكي أكثر، مع كشف بعض الورق، وهو الجزء الأفضل في نظري. الجزء الثالث أسهب في بعض المناطق بشكل لم يكن له داعٍ، وصفه للورق في المرتين اللتين قرأت فيهما الشيخة «سعادة» الورق كان أكثر من اللازم. لكن في هذا الجزء انكشفت الأوراق، أوراق السر الأعظم والأصغر، أصبحنا نفهم ما يريده عم خيري تحديدًا، أصبحت اللهجة السياسية عالية وحادة في نقدها للنظام الاشتراكي ثم حكم السادات والجماعات الجهادية والإخوان، أصبح الحديث عن الفساد أكثر وضوحًا، خاصةً أن «حسن» انخرط في اللعبة السياسية وأصبح من كبار «الحرامية»، وهذا الجزء هو الأنضج أو زُبد ما أراد أن يقوله من خلال هذه الثلاثية.

كما أبدع خيري شلبي في كل جوانب الرواية نجده يبتدع لنفسه أسلوبًا خاصًا، أسلوبًا فصيحًا متعشقًا بالكلمات العامية التي تتناسب مع بيئة الرواية، فالأسلوب عنده ليس له نفس الطابع في كل رواياته، في حين أنك تجد أغلب الروائيين، ومنهم المميزون، يستخدمون ذات الأسلوب دائمًا، نجد أن عم خيري يكتب كل رواية بأسلوب خاص، بل إن كل شخصية عنده تمتلك مفردات مختلفة تتناسب معها ومع بيئتها.

عندما ننظر للبنية الروائية عنده من جميع جوانبها نجد أن جميع العناصر تترتب على بعضها، فتشارك كلها في هذا البنيان العظيم دون الخلل بأي جانب؛ لهذا أجرؤ على القول بأنه من أفضل الروائيين العرب، وأنه يمتلك بنية روائية فذة تضاهي وتنافس الروايات العالمية.

قد ساهم خيري شلبي بأعمال كثيرة في مجالات أخرى كالقصة القصيرة والمقال والبحوث والدراسات النقدية والتحقيقات وأدب الرحلات، فهو يعد من أغزر كتاب جيله إنتاجًا، هذا بالإضافة إلى تنوع ثقافته، فقد كان قارئًا نهمًا، استطاع أن يقرأ ويحلل الكثير من التجارب ليخرج لنا بتجربة روائية فريدة تستحق الاحترام والتقدير.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.