على مدار ثلاثة أيام في واشنطن، عقد ملتقى الحوار الوطني، وهو تجمع للمصريين المقيمين بالخارج والمهتمين بالشأن العام المصري؛ ممثلون عن تيارات مدنية وإسلامية حاضرون، أوراق تقدم (ورقتان للتيار المدني حول مشروع دستور بديل، وأخرى حول مبادئ تسعة لما أسموه إنشاء دولة مدنية حديثة في مصر، وأخرى مقدمة من الدكتور «سيف عبد الفتاح» أستاذ العلوم السياسية).

ودارات نقاشات حول المبادئ العشرة التي طرحها الدكتور سيف، والتي تذكرني بالوصايا العشر في محتواها، حيث أن بنية مرجعية أو آلية واقعية لكيفية تطبيق الوصايا العشر لأستاذ العلوم السياسية لم تكن موجودة، حتى أن المجتمعين أنفسهم انقسموا حول جدوى العملية الديمقراطية، منتقدين مبادرة د. عصام حجى، معتبرين إياها مثالية، في حين قدموا هم وصايا عشر تسبح في بحور المثالية.

بعد خمس سنوات وما يزيد على اندلاع ثورة يناير التي رفعت (عيش – حرية – عدالة اجتماعية)، ما زالت النخبة السياسية المعارضة في مصر منفصلة عن واقعها الاجتماعي بشكل كبير، ولو أن أحد هؤلاء المجتمعين يعرف واقعه الاجتماعي جيدًا ما اختار أن يكون مكان الاجتماع هو واشنطن، في ظل الجو الشعبوى المعادي لكل ما هو أمريكي، درءًا للفتنة كما يقولون.


حول طبيعة المجال العام في مصر

يطرح المجتمعون رؤية طوباوية للوضع القائم في المجال العام، مستندة على سرديات رومانسية على غرار «لا يمكن الرجوع لعهد مبارك»، أو «الناس كسرت جدار الخوف»، وقد امتلكت تلك السرديات شعبية كبيرة في الماضي القريب، حينما كان من الممكن أن تنزل للشارع حاملًا لافتة ما، أنت وعشرون شخصًا من أصدقائك، دون أن تتعرض لقمع الشرطة أو لهجوم أبناء الشرطة العسكرية عليك وجرك نحو محاكمة عسكرية.

طبيعة القمع تغيرت؛ لم يعد هناك من يقبل في النخبة الحاكمة بمجرد كلمات على الفيس بوك، الجنون يحكم الجميع، والقمع صار على رؤوس الأشهاد

اليوم المجال العام في مصر هو أسوأ مما كان عليه أيام مبارك، فبين تقديرات مبدئية لـ 150 ألف معتقل سياسي، وحوالى 1400 حالة اختفاء قصرى، لا بد لنا أن ندرك أن طبيعة القمع تغيرت؛ لم يعد هناك من يقبل في النخبة الحاكمة بمجرد كلمات على الفيس بوك، الجنون يحكم الجميع، والقمع صار على رؤوس الأشهاد.

تغير منهجية القمع يعنى تغيير سبل المقاومة، فلا يمكن أن تفعل المؤتمرات والندوات شيئا لـ 150 ألف معتقل سياسي، والنقاش حول آلية المقاومة يطول هنا، بداية من تطوير الوعى الذاتي للجناح الثوري في مصر، وآلية البحث عن قاعدة شعبية لهذا الجناح يرتكز عليها، فلا يمكن أن تكون السلطة ممثلة في الدولة وتحالفاتها المتشابكة هي القادرة على الاستدعاء السياسي فقط للظهير الجماهيري لها، ويبقى الرهان في نجاح تلك الآليات التي تتطور ذاتيًا من خلال الخبرة الواقعية في العمل على الأرض، وليس عبر الندوات والمؤتمرات الوطنية، وعلى أساس ومقدار نجاح تلك الآليات، يتحدد الوضع الجديد والمركب في المجال العام.

النقاش المسيطر حاليًا على المجال العام هو الوضع الاقتصادي السيئ الذي ينعكس قاعديًا عن طريق ارتفاع أسعار تجعل مواطني الطبقة الوسطى والطبقات الأدنى تحت رحمة الحكومة وما تقدمه من دعم لها لحل أزمة ارتفاع الأسعار، وهو ما يساهم في تكريس التبعية الشديدة لقطاعات كبيرة من الطبقة الوسطى لسردية الدولة حول الاستقرار، ويدعم النظرة الاستنكارية لأي عمل ثوري أو أي احتجاج، لكن هذا في النهاية، وعلى نطاق أوسع، يعطى طبيعة أخرى شديدة التعقيد والتركيب لما يمكن أن نسميه «المزاج الحاكم في المجال العام» لقطاعات يعول عليها في موجة ثورية قادمة.

هذا «المزاج الحاكم» للمجال العام، تنبع طبيعته المركبة من انصياع قطاعات عديدة لسردية الدولة فيه، مع إحساسها بالظلم الاجتماعي المتفاقم الذي يعطي لحركات احتجاجية في الآونة الأخيرة طبيعة «لطمية»؛ مثلا، احتجاج الأمهات على غلاء أسعار لبن الأطفال وعدم توافره، أو الاحتجاجات العمالية في الآونة الأخيرة ، أو المزاج العام الذي يدفع في اتجاه الاحتجاج على ارتفاع الأسعار.

كل تلك الاحتجاجات الاجتماعية الأخيرة وغيرها هي شيء يدعو للتفاؤل حول طبيعة الثورة القادمة، التي، وعلى حد تعبير «جلبير الأشقر»، هي بمثابة صيرورة ثورية مستمرة ما استمرت الأسباب الدافعة لها، وهي: (عيش، حرية، عدالة اجتماعية).

لكن يبقى السؤال هو: هل سوف تقدر الدولة على محاصرة تلك الاحتجاجات الاجتماعية جميعها في حظيرتها؟! بمعنى هل يمكن أن تحل الدولة مشاكل ارتفاع الأسعار في ظل الأزمة الاقتصادية الشديدة التي تعانى منها، ووضوح الرؤية السياسية للنظام في أن ينتهج اقتصادًا أكثر نيوليبرالية مع الاتفاق الأخير مع صندوق النقد؟ يبقى هذا هو سؤال المليون دولار كما يقولون.


الإجابة على معضلة الإخوان

فيما تلا الذكرى السنوية الأولى لمذبحة رابعة، تعالت أصوات كثيرة للمطالبة بما أسموه «الإجابة على معضلة الإخوان» التي يبدو أن جناح الثورة سوف يكون مطالبًا بالإجابة عليها. تلك الإشكالية التي تتمحور حول إمكانية وجود الإخوان، أو بإطار أوسع: الإسلام السياسي، في العملية السياسية القادمة، وإمكانية إجراء مصالحة، وتحت أي شروط تتم هذه المصالحة.

يبدو أن جواب المجتمعين في واشنطن كان مترددًا بعض الشيء رغم أنه يبدو صريحًا بالموافقة على مصالحة مع الإسلام السياسي بدليل وجود ممثلين له في المؤتمر. لكن في رأيي، أن التردد هذا هو سمة حقيقية لما أطلقنا عليه «معضلة الإخوان»، مع تأكيدات التيار المدني على مدنية الدولة التي تستدعى بالتبعية إنشاء دستور مدني لا يمكن من خلاله تأسيس أحزاب على أساس ديني، وبالتالي، رفض سردية الموافقة على مصالحة مع انضمام الإخوان لعملية سياسية خيالية حتى الآن.

المعضلة الدستورية يمكن الإجابة عليها من خلال الفصل بين الجانب الدعوى والحزب السياسي للإخوان أو غيرهم من فصائل الإسلام السياسي. ومع تسليمي بصعوبة الفصل واقعيا، لكن دعونا ندعي أننا نصدق أنه يمكن الفصل، وعليه تأتي المعضلة الأكبر، وهي واقع الإسلام السياسي في مصر، الذي لا ينكر أحد أنه قادر، وسوف يستمر، على استدعاء الدين نحو العملية السياسية ونحو صناديق الانتخابات، وهو ما أعتقد أنه يمثل ضربة قاسية لادعاء مدنية الدولة، وسوف يعيد إنتاج معركة «وقالت الصناديق للدين نعم!» التي أعتقد أنه يجب أن نتخطاها إذا كنا فعلًا نريد دولة مدنية حديثة.

لكن ومع التسليم بصحة الطرح القائل بأن أي حراك شعبوي في الشارع يجب أن يجيب على «معضلة الإخوان»، لا يمكن أن تكون الإجابة هي تلك التي قدمها «ملتقى الحوار الوطني»، التي تمثلت في كلام عام يؤكد على مدنية الدولة ولا يمنع حتى -من قبيل الانتصار لتلك المدنية، ولو نظريا– تأسيس الأحزاب على أسس دينية. فلا يمكن أن تكون الإجابة هي مجرد تسكين للمشكلة وإعادة إنتاج نموذج العرس الديمقراطي في 2011م.

في رأيي، تبقى الإجابة الواقعية المرتبطة بتلك المعضلة هي الإجابة التي يقدمها صانعو المعضلة أنفسهم –أقصد الإسلام السياسي– وتلك الإجابة لن تكون على هيئة مراجعات فكرية أو أي شيء من قبيل ذلك، لكن إجابة تحددها ممارساتهم في العملية الديمقراطية المتخيلة.


إشكالية البديل

مع التسليم بصحة الطرح القائل بأن أي حراك شعبوي في الشارع يجب أن يجيب على «معضلة الإخوان»، لا يمكن أن تكون الإجابة هي تلك التي قدمها «ملتقى الحوار الوطني»

«عندك بديل»، جملة ترددت على أسماعنا في السنوات الخمس الماضية أكثر من تكرار مآذن المساجد للأذان، وتبدو تلك الإشكالية حقيقة ومعبرة فعلا عن حالة جوهرية في أصل الصراع السياسي المصري فيما تلا ثورة 25 يناير/كانون الثاني، لكنها مضللة في الوقت ذاته.. كيف يكون ذلك؟

ترتبط الإشكالية السابقة في أذهان الكثيرين بإحالات هي أبعد ما يكون عن جوهر السؤال ذاته؛ إحالات على شاكلة رؤية البديل في تيار سياسي معين أو أشخاص بعينهم، وهو ما يضعنا مرة أخرى في خانة «اليك»، خانة البحث عن منقذ ومخلص، وإعادة إنتاج لنفس الخطاب السلطوي الذي تستخدمه السلطة، الذي يتمحور حول القائد الزعيم المخلص الذي سوف ينقذ البلاد ليعم الرخاء ربوعها ويفرح الأطفال في بطون الحوامل.

فالبديل الذي، في اعتقادي، يجب البحث عنه، هو وعى الجماهير في الحراك بمصالحها، وليس قائد الحراك كائنًا من كان. ومن هنا تكون الإجابة عن ماهية البديل؟

البديل هو وعي الجماهير بمصالحها، هو مؤسسات مجتمعية قادرة على تقديم خطاب بديل مضاد لخطاب السلطة، ليس ظاهريًا، وإنما جوهريًا. البديل هو الناس، وليس أشخاص.

وعلى سؤال الوعي، يرتكز الكثير مما نحن فيه الآن من تعثرات، وعليه أيضًا يرتكز الكثير من مكتسبات ثورة يناير، فوعي الناس الذي أنتج (عيش – حرية – عدالة اجتماعية) قادر على أن يزيح السلطة العسكرية ويرجعهم لثكناتهم، وليست تلك المؤتمرات هي القادرة على ذلك بالطبع.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.