في الشتاء، كان «السير تاتون سايكس Sir Tatton Sykes» يذهب في رحلات طويلة، هربًا من الشتاء الإنجليزي القارس، مصطحباً «مارك» ،ابنه الوحيد، في رحلات للشرق الأوسط و الدولة العثمانية. مارك الصغير أمضى طفولته ما بين أبيه و أمه المٌطَلَقين. ليدي «كريستينا سايكس» ،والدة مارك، كانت امرأة جانحة و مسرفة مما اضطر سير تاتون سايكس لنشر إعلان في الصحف يعلن فيه عن عدم مسؤوليته المستقبلية عن أية ديون تستدينها زوجته، و يعلن فيه أيضًا انفصاله رسميًا عن زوجته. لم تكن دراسة مارك الصغير منتظمة بما يكفي. كثيراً ما كان يٌترَك لحاله لفترات طويلة، مما جعله يقوم بتطوير ‌أدواته الخاصة لتثقيف نفسه إرضاءً لخياله الجامح.

في الخامسة و العشرين، كان «مارك سايكس Mark Sykes» قد نشر أربعة كتب من تأليفه. من ضمنها: تراث الخلفاء الأخير، تاريخ قصير للإمبراطورية العثمانية The Caliphs’ Last Heritage: A Short History of the Turkish Empire. النصف الأول منه هو لمحة موجزة عن الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط و الإمبراطورية العثمانية في حين أن النصف الثاني هو تدوينات عن رحلات المؤلف في آسيا الصغرى والشرق الأوسط بين عامي 1906 و 1913م. الرجل كان مغرمًا و مٌتَضَلعًا في موضوعه منذ بواكير شبابه.

أصر لورد كتشنر على تعيين سير مارك سايكس،عضو مجلس العموم عن حزب المحافظين، والخبير بالشؤون العثمانية، كممثل شخصي له في اللجنة

9 نوفمبر/تشرين الثاني، 1914م، بعد أربعة أيام من إعلان بريطانيا الحرب على الدولة العثمانية، بدأت مناقشة المسالة الصهيونية في مجلس الوزراء البريطاني. سير «هيربرت صمويل» ،الزعيم الصهيوني و عضو مجلس الوزراء، أجرى مناقشات مكثفة مع «لويد جورج» الذي تم تعيينه وزيراً للمالية و سير «أدوارد جراي» ،وزير الخارجية، حول الدولة اليهودية في فلسطين و حدودها و أهميتها لمصالح الإمبراطورية.

8 أبريل/نيسان،1915م أصدر «هيربرت أسكويث» رئيس الوزراء البريطاني قرارًا بتشكيل ما عُرِف بلجنة «دي بونسين» لإسداء المشورة لمجلس الوزراء فيما يتعلق بشؤون الشرق الأوسط و مستقبله بعد هزيمة الدولة العثمانية. اللجنة كانت مُشَكلة من أعضاء ممثلين لكل الوزارات المعنية بشؤون المنطقة. أصر لورد كتشنر على تعيين سير مارك سايكس،عضو مجلس العموم عن حزب المحافظين، والخبير بالشؤون العثمانية، كممثل شخصي له في اللجنة. لم يمض وقت طويل على بدء اجتماعات اللجنة، حتى أصبح مارك سايكس هو أكثر الأشخاص أهمية، و أكثرهم نفوذًا، نظراً لخبراته الممتدة بالمنطقة. كتشنر لم يكن ليترك لجنة وزارية مٌكَلَفة بتحديد مصير المنطقة ،التي يعتبر نفسه خبيراً في شؤونها كحاكم سابق لمصر قبل تعيينه وزيراً للحرب، خارج دائرة نفوذه. كان مارك سايكس الذي يتشارك هو وكتشنر وجهات النظر حول المنطقة، هو الأداة التي استخدمها كتشنر للسيطرة على أعمال اللجنة.

لم تر اللجنة بقيادة سايكس أنها ملتزمة بأية حدود إدارية بين ولايات الدولة العثمانية. ربما فعلًا لأنها كانت حدودًا إدارية، لا تشكل أساسا أصليًا لقيام دولة قومية مستقرة موحدة. و هم في الحقيقة، لم تكن لديهم فكرة واضحة عن ماهية الحدود التي تخلق كيانات قوميه مستقرة. اللجنة قامت بعمليات قص و لزق مكثفة لخريطة الشرق الأوسط. بل إنهم استخدموا تسميات لم تكن سائدة وقتها. مثلًا المنطقة الموجودة شمال الجزيرة العربية أطلقوا عليها «بلاد الرافدين Mesopotamia» وهي تسمية أطلقها مؤرخو العصر الهيليني (الهلينية: المرحلة المتأخرة من الحضارة الإغريقية حتى نهاية عصر الأسكندر الأكبر) منذ ما يزيد عن ألف سنة.

المنطقة الواقعة جنوب بلاد الشام سموها «فلسطين» و هي تسمية مشتقة من لفظة «فلستيا»، أي الشريط الساحلي الذي كان يحتله الفلسطينيون قبل ظهور المسيح بألف عام. اختاروا تجاهل ما يزيد عن ألف سنة من التراكمات التاريخية ولجأوا لكتابات مؤرخي العصر الهيليني. اقترحت اللجنة تأسيس خمس ولايات تتمتع بحكم ذاتي كبير داخل الإمبراطورية العثمانية التي ارتأوا تفكيكها. هذه الولايات هي، أرمينيا، الأناضول، سورية، فلسطين، العراق. كلها ستكون تحت الإشراف و الحماية البريطانية. لم يتم إدراج المسألة الصهيونية في تقرير لجنة «دي بونسين» حول التقسيم المقترح لممتلكات الدولة العثمانية في المشرق. لكن فلسطين ككيان مستقل عن سوريا كان حاضرة في التقرير. و هو ما فعله و أكد عليه سايكس مرة أخري خلال مفاوضات سايكس-بيكو.

قلة فقط هم من يعلمون أن أول رجل دولة أوروبي دعا لقيام دولة يهودية في فلسطين هو «نابليون بونابرت» أثناء قيادته للحملة الفرنسية على مصر قبل 118 عامًا من وعد بلفور. في ربيع 1799م أصدر نابليون منشوره ليهود آسيا و إفريقيا يدعوهم فيه للقتال تحت لوائه للعوده لأرضهم التاريخي و تأسيس مملكة القدس القديمة تحت الرعاية الفرنسية. البيان كان يخاطب اليهود بشكل مباشر على أنهم ورثة فلسطين الشرعيين.

لورد بالمرستون، وزير خارجية بريطانيا وقتها كان مٌصِراً علي حل ما يٌسمي بـ «المسألة الشرقية» من خلال قيام دولة يهودية في فلسطين تحت رعاية بريطانيا

«بيان نابليون اليهودي» كان بمثابة أول اعتراف بوجود قومي يهودي مستقل. هناك ملايين اليهود في أوروبا و آسيا و أفريقيا يجب عليهم جميعاً أن يهاجروا لتأسيس وطنهم القومي في فلسطين، لم يكن لبريطانيا وجود يذكر في الشرق الأوسط قبل حملة بونابرت التي كان من ضمن أهدافها قطع خطوط المواصلات بين بريطانيا و أغني مستعمراتها في الهند. مقارنةً بفرنسا التي كانت حاميةً للكاثوليك، و الروس الذين كانوا حماه للروم الأرثوذكس، لم يكن لبريطانيا من تشمله بحمايتها في المنطقة، تحت دعاوي الدين المشترك، حتي يكون مبرراً لها للتدخل في شؤون المنطقة.

كانت بريطانيا قلقة للغاية على وضعها في الشرق الأدنى في مواجهة فرنسا و روسيا اللتين كانتا تتلهفان لموت «رجل أوروبا المريض» و وراثة تركته. كانت الدولة اليهودية تحت الرعاية البريطانية هي الحل. لورد بالمرستون، وزير خارجية بريطانيا وقتها كان مٌصِراً علي حل ما يٌسمي بـ «المسألة الشرقية» (وراثة ممتلكات الدولة العثمانية في المنطقة) من خلال قيام دولة يهودية في فلسطين تحت رعاية بريطانيا. لورد بالمرستون و نابليون كانا من أوائل و أهم «الصهاينة غير اليهود».

المسالة الصهيونية كانت حاضرة للغايه و محل إجماع في الأوساط السياسية البريطانية. التفكير السائد بين النخبة السياسية البريطانية حيال فلسطين هو استخدامها كدولة حاجز تحت الرعاية البريطانية، كأداة في مواجهة أية طموحات تستهدف مصالح الإمبراطورية و خطوط مواصلاتها للهند. الدولة الحاجز ستكون بمثابة قاعدة للإمبراطورية، أي إمبراطورية بالمناسبة، في مواجهة أي حاكم محلي طموح من نوعية «محمد علي».

غالبية النخب السياسية في بريطانيا وقتها كانوا من «الصهاينة غير اليهود» المؤمنين للغاية بجدوي وجود دولة قومية في فلسطين تحت رعاية الإمبراطورية. و المرشح الوحيد للقيام بهذه المهمة من وجهة نظر النخب السياسية للإمبراطورية هم يهود أوروبا، يهود أوروبا، من وجهة نظر الصهاينة غير اليهود، هم العرق الشرق الأوسطي المطرود من أرضه التاريخي و الغريب و الغير القابل للاندماج في مجتمعات القارة. في بريطانيا تحديدًا اكتسبت الصهيونية الغير اليهودية زخمًا كبيرًا في صفوف النخب السياسية في بريطانيا. كلهم تقريباً كانوا من خلفيات بروتستانتية تؤمن بالتفسير الحرفي لنبوءات الكتاب المقدس و من أهمها عودة اليهود لفلسطين و تأسيس دولتهم. و إذا كانت مصالح الإمبراطورية تتفق مع تحقيق النبوءات التوراتية، فياله من أمرٍ رائع.

أواخر القرن التاسع عشر تغير وضع فلسطين في السياسة البريطانية. بريطانيا صارت متواجدة في المنطقة (مصر و قبرص). انتهجت بريطانيا سياسة شرقية جديدة مبدأها الأساسي هو تأمين «القاهرة البريطانية The British Cairo». لورد كتشنر، الحاكم البريطاني لمصر وقتها، كان أحد أكبر المؤيدين لسياسة بريطانيا الجديدة في المشرق. كتشنر دعا حكومته لتأمين فلسطين كحصن لبريطانيا في مصر و حلقة وصل برية مع المشرق. الصهيونية لم تعد متوافقة فقط مع خطط الإمبراطورية البريطانية في المنطقة، بل أصبحت جزءاً أساسياُ فيها. أصبح أشد الصهاينة حماسًا هم كبار صناع السياسة البريطانية في المنطقة. لورد كتشنر وزير الحرب ، لويد جورج وزير المالية و رئيس الوزراء بعد ذلك، لورد «أرثر بلفور» صاحب الوعد، سير «أدوارد جراي» وزير الخارجية، سير مارك سايكس عضو البرلمان المحافظ و المفاوض البريطاني في سايكس-بيكو، لورد ملنر…إلخ.

تحول مارك سايكس لصهيوني عندما التقى بالدكتور «موسي جاستر»، حاخام اليهود السفارديم، و علي حد تعبير سايكس نفسه: «هو الذي فتح عينيي على معنى الصهيونية»

مارك سايكس، تحديدًا، كان صهيونياً فريداً. لم يكن بروتستانياً كباقي الصهاينة غير اليهود، و لكنه كان كاثوليكيًا و هذا كان نادرا. تحول مارك سايكس لصهيوني عندما التقى بالدكتور «موسي جاستر» و هو حاخام اليهود السفارديم (الشرقيون) في لندن. التقي به سايكس في إحدى الجمعيات الشرقية في لندن خلال عام 1915م. و علي حد تعبير سايكس نفسه: «هو الذي فتح عينيي علي معنى الصهيونية».

في نهاية نفس العام، تم تعيين سايكس كأحد وكلاء الوزارة في مجلس وزراء الحرب. في فبراير/شباط 1916م، لعبت مذكرة تلقاها من سير «هيربرت صمويل» دورًا كبيرًا في زيادة معلوماته عن الصهيونية، كانت المذكرة المقدمة أساسًا لمجلس الوزراء و تلقى سايكس إحدى نسخها تدعو لحماية بريطانية على فلسطين، يتم من خلالها مساعدة اليهود على شراء الأرض و إنشاء مؤسسات تعليمية و صحية و دينية. تأثر الرجل للغاية بهذه المذكرة لأنها كانت تتناول بشكل مفصل إنشاء وطن قومي لقومية يهودية.

تحمس سايكس للصهيونية كجزء من افتتانه بفكرة الدول القومية ذاتها. و خصوصًا بعد تفسير صمويل للصهيونية كقومية داخل الاستعمار البريطاني الأكبر. سايكس كان هو المفاوض البريطاني في اتفاقية سايكس-بيكو التي تم توقيعها في عام 1916م. بالرغم من علمه الكامل بالمسألة اليهودية، إلا أنه لم يكن يرى علاقة بينها و بين المفاوضات الإنجليزية-الفرنسية. لم تنص اتفاقية سايكس-بيكو” على تأسيس دوله يهودية في فلسطين. و لكنها نصت على وضع فلسطين تحت الإدارة الدولية، الانتداب الإنجليزي فيما بعد. الاتفاقية كانت مرضية للغاية بالنسبة للصهاينة؛ لأن الاتفاقية نصت على فلسطين ككيان جغرافي مستقل عن سوريا. و هو ما كان مرغوبًا فيه للغاية.

يرى كاتب السيرة الذاتية لسير مارك سايكس أنه كان القوة المحركة للسياسة البريطانية في فلسطين التي أدت لوعد بلفور ثم الانتداب على فلسطين. الاتفاقية أيضًا حمت فلسطين من الوعود المعطاة لشريف مكة و أولاده بقيام دولة عربية واحدة، «فلسطين» طبقًا للاتفاقية تحت حماية دولية و خارج أية وعود، لم يمض وقت طويل منذ بداية الحرب العالمية الأولى حتى وصل الوضع العسكري على مسرح العمليات الأوروبي لحالة من الجمود العسكري الكامل فيما عُرِفَ وقتها بحرب الخنادق. سلسلة من الخنادق و التحصينات المحكمة التي امتدت من المحيط الأطلسي حتى جبال الألب. حالة كاملة و غير متوقعة من الجمود العسكري التي لم يجد كبار القادة العسكريين، على الجانبين، لها حلاً.

كل الوزراء في الحكومة البريطانية ‌توجهوا بتساؤلاتهم، حول كسر حالة الجمود العسكري في الجبهة الغربية، لحكيمهم العسكري و وزير حربهم فيلد مارشال كتشنر الذي مع الأسف لم تكن لديه حلول. كانت هناك عدة اقتراحات للخلاص من حالة الجمود العسكري في الجبهة الغربية، أهمها شن حملة عسكرية على تركيا للاستيلاء على مضائق الدردنيل و بعدها الاستيلاء علي استانبول و ضمان خروج تركيا من الحرب. كان تفكيراً جريئاً للغاية.

«ونستون تشرشل»، السياسي الشاب وقتها الذي كان يشغل منصب لورد البحرية الأول First Lord of Admiralty، كان أكثر أعضاء الحكومة حماسًا لهذه الخطة. «روسيا» كانت تتعرض لضغوط عسكرية شديدة من ألمانيا و تركيا. كانت القوات الروسية تتعرض لنقص شديد في الذخائر. خروج روسيا مهزومة من الحرب كان قاتلًا، من الناحية العسكرية، بالنسبة لفرنسا وبريطانيا لأنه سيتيح لألمانيا تركيز مجهوداتها على الجبهة الغربية. الحملة المُقتَرَحة كانت بمثابة هجوم تحويلي لتخفيف الضغط عن روسيا و ضمان إمدادها بالذخائر من خلال السيطرة على المضائق و هزيمة تركيا و إخراجها من الحرب.

كان مُقَدَرًا لحملة الدردنيل، أو معركة جاليبولي، أو جناق قلعة بالتركية، أن تغير مصائر ونستون تشرشل والحكومة البريطانية و الشرق الأوسط بأكمله. حملة الدردنيل كانت بداية انتقال الحرب للشرق الأوسط. كانت أول اشتباك كبير هناك. حالة من التفاؤل العظيم سادت في بريطانيا عند بداية الحملة. و لكن جاءت رياح المضائق بما لا تشتهي سفن الإمبراطورية.

بالرغم من فشل حملة الدردنيل احتفظ لورد كتشنر بسلطة صياغة سياسة الإمبراطورية في الشرق الأوسط. في نهاية صيف عام 1915م عاد سير مارك سايكس، مساعد لورد كتشنر من مهمة لجمع المعلومات في الشرق الأوسط. الرجل كان يحمل معلومات مثيرة للغايه عن أحد ولاة الدولة العثمانية المستعد للتحالف مع بريطانيا، و عن برنامج تم إعداده على أساس هذا التحالف. كان ذلك مهماً للغايه للمجهود الحربي البريطاني لتحويل تيار الحرب ضد الدولة العثمانية. خصوصاً، بعد الفشل الكارثي الذي منيت به حملة الدردنيل من الناحيتين العسكرية و السياسية.

و لكن هذه قصة أخري.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.