القصة

في عام 1960 من ميلاد السيد المسيح عليه السلام، وفي ولاية كاليفورنيا الأمريكية، وتحديدًا في جامعة ليلند ستانفورد جونيور المعروفة بجامعة ستانفورد، قام الأستاذ وعالم النفس النمساوي الأصل الأمريكي الجنسية والتر ميشيل بدراسة نفسية اجتماعية مثيرة عن تأخير الرغبات والقدرة على التحكم في النفس.

تقوم الدراسة على تجربة بسيطة، هي تخيير الطفل بين أكل قطعة واحدة من المارشميلو فورًا (وأحيانًا الكعك أو البسكويت أو غيرها من حلوى الأطفال، ولكن الدراسة اشتُهرت باسم تجربة المارشميلو) أو الانتظار لفترة قصيرة من الوقت (حوالي ربع ساعة) ثم أخذ قطعتين بدلًا من قطعة واحدة، وفي دفعات أخرى من التجربة خُيِّر الأطفال بين أخذ قطعة حلوى ثمنها سنت (قرش) واحد، أو الانتظار لمدة أسبوع فقط وأخذ حلوى قيمتها 10 سنتات، أي أن الانتظار لـ 15 دقيقة في الحالة الأولى سيؤدي إلى مضاعفة الجائزة، والانتظار لأسبوع واحد في الحالة الثانية سيؤدي إلى مضاعفة الجائزة عشرة أضعاف، إنه لأمر مثير حقًّا، ولكم أحببت أن أكون جزءًا من هذه التجربة، وأن أواجه نفسي بهذا التحدي لأنظر ماذا ستختار.

النتيجة

أقيمت التجربة على 600 طفل وطفلة، وكانت نتيجة التجربة في غاية الإثارة، إذ اختار 200 طفل أن يأكلوا قطعة الحلوى فورًا، واختار 400 منهم الانتظار هذه الخمسة عشر دقيقة طمعًا في مضاعفة الجائزة، ولكن المفاجأة أنه بعد خروج الباحث من الغرفة وترك الطفل وحده مع قطعة الحلوى لم يستطع أكثر الأطفال الانتظار لأكثر من دقيقتين أو ثلاث، ثم بدأوا في تناول الحلوى، مما يعني فشلهم في إكمال المدة المتفق عليها مسبقًا، أو بعبارة أخرى أحبوا العاجلة وتركوا الآخرة كما قال ربنا سبحانه في كتابه الكريم: «كلا بل تحبون العاجلة * وتذرون الآخرة»[1].

لماذا؟

دائمًا ما يكون تحليل الظاهرة أصعب كثيرًا من مجرد رصدها، فأحداث التاريخ مثلًا قد لا يقع خلاف كبير حول حصول الواقعة التاريخية أو عدم حصولها، لكن الأسباب التي أدت إلى حدوث ما حدث هي التي تكون محل الخلاف غالبًا بين العلماء والمشتغلين بالدراسات التاريخية. وكذلك الأمر في هذه الدراسة التي معنا الآن (أعني دراسة القدرة على التحكم في النفس وتأخير الرغبات من خلال تجربة المارشميلو)، فقد وقع خلاف بين الباحثين في الأسباب التي أدت إلى قدرة ثلث الأطفال على انتظار المدة كاملة بينما فشل الثلثان الباقيان في فعل هذا.

فقيل إن الأمر يرجع إلى المستوى المادي والاجتماعي للطفل وأسرته، إذ لاحظ الباحثون أن الأطفال الذين استطاعوا الصبر والانتظار كانوا من مستوى مادي واجتماعي أعلى بشكل ملحوظ من باقي الأطفال، وأن الفقراء في الغالب كانوا أقل صبرًا، إذ إن تجاربهم مع اللذات السابقة أنها سريعة الزوال؛ لذلك كان أطفالهم أحرص على اقتناص الفرص فور إتاحتها، ولم يكن عندهم من الثقة في المستقبل ما يعطيهم أملًا في الانتظار طمعًا فيما هو أفضل.

وقيل إن الأمر (أي قدرة الأطفال على الانتظار) يرجع إلى دور الوالدين في دعم الأطفال، إذ لوحظ أن الأطفال الذين استطاعوا الصبر إلى آخر المدة كان أغلبهم يحظى بصحبة والديه معًا له إلى مقر إقامة التجربة، بينما لم يحظ كثير من الأطفال الآخرين بهذا، بل جاءوا بصحبة المشرفين الاجتماعيين في مدارسهم أو أحد الوالدين فقط دون الآخر.

وقيل غير ذلك من التفسيرات، لكن الذي يهمنا الآن هو ما كان من شأن هؤلاء الأطفال بعد عقد الدراسة بسنوات عديدة.

دراسات المتابعة

بعد إجراء الدراسة الأولى بسنوات أُعِيدت التجربة أكثر من مرة، ثم لمعت في ذهن الباحثين فكرة تقول: لماذا لا نتابع الأطفال الذين خاضوا التجربة بعد سنوات منها للنظر هل هناك علاقة بين القدرة على التحكم في النفس وتأجيل اللذة من ناحية، وبين الإنجاز والنجاح وتحقيق الأهداف من ناحية أخرى أم لا؟ والمفاجأة المتوقعة أن الإجابة على هذا السؤال كانت بالإيجاب، إذ بدا جليًا أن الأطفال الذين استطاعوا الصبر حتى انتهاء المدة كاملة في تجربة المارشميلو كانوا أكثر كفاءة في إنجاز واجباتهم الدراسية في مرحلة المراهقة، كما كانوا أكثر قدرة على التركيز في أعمالهم وإنجازها في وقت أقل من الآخرين الذين كانوا سريعي الملل بشكل واضح، وكانوا أكثر استجابة للمشتتات المختلفة وأقل صبرًا وقدرة على التركيز.

القدرة على قول: لا

خبراء إدارة الذات وتطوير المهارات يقولون إن من أهم مهارات الناجحين قدرتهم على قول لا، إذ تحميهم هذه المهارة من الوقوع في فخ التشتيت أو الاستجابة لرغبات الآخرين ودعواتهم المختلفة من غير أن يكون في ذلك نفع وفائدة، ولهذه المهارة تطبيقات كثيرة، منها في مجال العمل مثلًا قدرتك على قول لا لمديرك الذي يطلب منك العمل لساعات أكثر مما يؤدي إلى استهلاك صحتك ومجهودك بشكل يفوق قدرتك على التحمل، أو يؤثر على أسرتك وعلاقاتك الاجتماعية تأثيرًا سيئًا، ساعتها يجب أن تكون قادرًا على قول لا؛ لأن نعم لن تجعلك شهمًا لطيفًا كما تظن، بل ستؤدي إلى خسارتك للكثير مما لا أظنك ترغب في خسارته (بالمناسبة أرشح لك قراءة مقالة جميلة بعنوان «عن عملي الذي دمر حياتي» للكاتب براء أشرف رحمه الله).

أن تكون قادرًا على قول لا لأصدقاء يطالبونك بالتنزه معهم بينما أنت مشغول بمذاكرة ضرورية أو إنهاء أعمال عاجلة لا تقبل التأخير، فهذا نجاح مهم. أن تكون قادرًا على قول لا لصاحب سوء يدعوك لخوض تجربة التدخين أو شرب الكحوليات أو غيرها، فهنيئًا أنت من الناجحين. أن تكون قادرًا على قول لا لامرأة فاتنة ذات منصب رفيع، أو أن تقولي لا لرجل وسيم صاحب مال، فأنتم أحفاد النبي الكريم يوسف بن يعقوب، وقد بشركم النبي بأنكم من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله[2].

قدرتك عند اتباعك لنظام غذائي صحي على قول لا لقطعة بسبوسة ساخنة (أو باردة حسبما تفضلها وإن كنت شخصيًّا أحب الساخنة) هي قدرة مهمة، لولاها ستعاني كثيرًا من مشاكل زيادة الوزن التي يعرفها كثير منا، وستستمر بطنك في الترهل ولن ينفعك شيء.

قدرتك على قول لا تعد شرطًا أساسيًّا للفوز والإنجاز وتحقيق النجاح إذا أردت تحقيقه، وبدونها ستلهو بك الحياة والشهوات والملذات والمغريات ولن تصل إلى شيء أبدًا.

وإذا أردت تدريب نفسك على قول لا فستجد عددًا من الكتب والمقالات المهمة في شبكة الإنترنت بعنوان «القدرة على قول لا»، كما أنصح نفسي وإياك بتأمل الفريضة الرابعة من فرائض الإسلام، وهي فريضة الصيام.

الصيام عبادة ترك

إن الصيام هو مدرسة الصبر المباركة، التي تعطيك هذه القدرة وتدربك على هذه المهارة المهمة، إذ يجعلك الصيام قادرًا على أن ترى الطعام وأنت جائع فتقول له: لا، وترى الشراب البارد في اليوم شديد الحرارة وأنت عطشان فتقول له: لا، وترى زوجتك الجميلة وتراك هي وترغب في قربك كما ترغب في قربها وقد أباح الله لكل منكما الاستمتاع بوصال صاحبه غير أن كلًّا منكما يقول للآخر: لا.

إنه والله لأمر عجيب، عبادة لا تقوم على الفعل، بل على الترك، إذ ليس المطلوب فيها أن تفعل، بل المطلوب والواجب عليك ألا تفعل، فإن صبرت إلى وقت معين قدره ربنا سبحانه كانت لك فرحتان[3]، إحداهما بالفطر ساعة الفطر أو يوم الفطر، والأخرى يوم القيامة حين تجد ثواب ما وعدك ربك حقًّا.

وهذه من أجل الحكم والمعاني التي ينبغي على المسلم أن ينتبه لها في مدرسة الصيام، فيصبر قليلًا ليجد كثيرًا، إذ إن ربنا سبحانه وتعالى يقول: «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ»[4]، والصوم نصف الصبر كما جاء في الأثر، لذلك كان جزاء الصائمين على الله تعالى وحده كما في حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما يرويه عن رب العزة سبحانه وتعالى، قال: «كل عمل ابن آدم له إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لـخُلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه»[5]. وفي هذا الحديث كثير من الفوائد والمقاصد والمعاني التي نحاول الوقوف مع بعضها في حلقاتنا المقبلة من هذه السلسلة المباركة إن شاء الله تعالى.

المراجع
  1. سورة القيامة، آية:21 و 22.
  2. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ : الإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ». حديث صحيح متفق عليه، رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
  3. عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُ بِهِمَا، إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ».
  4. سورة الزمر، آية: 10.
  5. حديث صحيح، متفق عليه رواه البخاري ومسلم.