يحب الغربيون عادة القصص الملهمة، وفي زمن تتعقد فيه مسارات الأمة الأوروبية فهم بحاجة لبعث جديد لعله ينقذ أوروبا من أزماتها، وهنا يأتي مارتن شولتز.ولمن لا يعرفه، فشولتز هو المرشح المنافس الآن على منصب المستشارية الألمانية لأنجيلا ميركل، والذي بدأ حياته سكيرًا على شفير الهاوية حتى وصل لرئاسة البرلمان الأوروبي، وهو الآن مرشح الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وتزداد يومًا بعد يوم فرصه في الحصول على المنصب الأهم في ألمانيا.وقبل عدة أشهر من إعلان شولتز ترشحه لمنصب المستشارية الألمانية، كانت نسب الموافقة على انتخاب الحزب الاشتراكي لا تتعدى 20% وقفزت بعد ترشيح شولتز لما يتعدى 30%. أعاد شولتز إذن الروح إلى جسد الحزب الاشتراكي الديمقراطي، فهل يستيطع بعث الروح الألمانية من بين صدأ بيروقراطية ميركل؟


بدايات متعثرة

ولد مارتن شولتز في 20 من ديسمبر/كانون الأول 1955 بهيهلرات في ألمانيا الغربية، عمل والده شرطيًا، في حين نشطت والدته في الاتحاد الديمقراطي المسيحي. كان يحلم بأن يصبح لاعبًا محترفًا لكرة قدم، لكن حلمه لم يتحقق بعد أن حالت إصابته بقطع في الرباط الصليبي من احترافه كرة القدم. بعد أن ابتعد مجبرًا عن كرة القدم، ترك المدرسة وأدمن الكحول، و لاحقًا أصيب بالاكتئاب وكان لأخيه الطبيب دور كبير في مساعدته على تخطي تلك الأزمة.نجح في إعادة نفسه من حافة الهاوية بعد علاجه من الإدمان والاكتئاب، وعمل في مستهل شبابه في عدد من دور النشر والمكتبات حتى أسس بمدينة فورزلين دار نشر خاصة، ظل أحد ملاكها إلى عام 1994، وعرف عن شولتز شغفه الشديد بالقراءة. فاز عام 1984 بعضوية مجلس مدينة فورزلين عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي، ثم انتخب عام 1987 عمدة للمدينة نفسها.لاحقًا بدأ شولتز مسيرته في أروقة البرلمان الأوروبي، حيث انتخب عضوًا به لأول مرة في 1994، ونتيجة لامتلاكه مهارات بناء التحالفات، نجح في الصعود السريع في أروقة المؤسسات الأوروبية في بروكسل إلى أن وصل إلى رئاسة برلمان الاتحاد الأوروبي، ففي 17 يناير/كانون الثاني 2012 انتخب أعضاء البرلمان الأوروبي مارتين شولتز رئيسًا لهم، وفي مطلع يوليو/تموز 2014 أعيد انتخابه لدورة جديدة.أسهم خلاف علني بين شولتز ورئيس الوزراء الإيطالي السابق سلفيو بيرلسكوني في تسليط الضوء على شخصية الرجل، عندما هاجم شولتز بيرلسكوني وحقيقة توليه مناصب رسمية قد تتعارض مع شبكته الإعلامية المتضخمة، مما يفتح بابًا لتضارب المصالح. كما تبنى شولتز أثناء مسيرته في الاتحاد الأوروبي مواقف حاسمة ضد حركات اليمين المتطرف، واصفًا حزب البديل لأجل ألمانيا بأنه «عارٌ على الجمهورية»، وكما هاجم البركسيت هاجم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في سياق سياساته العنصرية ضد الأقليات.وفي خطابه الأخير أمام أعضاء البرلمان الأوروبي قال شولتز: الديمقراطية الأوروبية (أو العابرة للقوميات كما سماها) في خطر كبير، ففي كل مكان من القارة الأوروبية هناك انقسامات وانتشار متسارع للأحزاب القومية المتشددة التي تزرع الشقاق بين الناس. وأضاف شولتز، أنه سيحارب «الحقد الشعبوي» حيثما كان.


الحنين للديار وخلافة المخضرمة

http://gty.im/454379132

في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2016؛ قال شولتز إنه لن يسعى لإعادة انتخابه داخل الاتحاد، وقرر الاتجاه إلى السياسة الداخلية الألمانية، ولكن ظل الشك غير محسوم حول هوية الشخص الذي سوف يرشحه الحزب الاشتراكي أمام ميركل إلى أن قرر زيغمار غابرييل الانسحاب من المشهد تاركًا المجال لشولتز صاحب الحظوظ الأكبر في الفوز.وفي 19 من مارس/ آذار الماضي، انتخب مارتن شولتز رئيسًا للحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني بنسبة 100% من الأصوات، وهي نسبة غير مسبوقة في تاريخ الحزب، وفي حين كانت وسائل الإعلام تتوقع حصوله على أكثر من 90% من الأصوات، تجاوز شولتز الرقم التاريخي (99,71 بالمائة) الذي كان قد حصل عليه في 1984 كورت شوماخر. ونال شولتز مجمل الأصوات الـ605.

اقرأ أيضًا:أنجيلا ميركل: مستشارة الترحيل! يقدم شولتز نفسه على أنه «رجل الشعب»، وضامن النموذج الاشتراكي الديمقراطي الألماني في مرحلة بالغة الصعوبة، وبعد الإعلان عن ترشحه قال شولتز، إن ألمانيا في مرحلة حرجة تحتاج فيها إلى قيادة جديدة ببرنامج انتخابي يركز على القضايا المركزية، وبمقدمتها العدالة الاجتماعية التي تميز الحزب فيها.ويرى مراقبون أن مسيرة شولتز سواءٌ منذ بدايته في الحكم الداخلي الألماني وإلى دوره في البرلمان الأوروبي مسيرة جذابة للغاية، وقادرة أيضًا على منافسة المستشارة الألمانية ميركل. كما يمتلك شولتز نوعًا من الحرية في انتقاد أو هدم السياسات الألمانية التي انتهجتها ميركل، والتي جلبت عليها غضبًا شعبيًا شديدًا، وفي مقدمتها أزمة المهاجرين، خاصة وأن شولتز ليس عضوًا في الحكومة ولم يكن جزءًا من تلك السياسات.


هل يمكن لشولتز حقًا أن يزيح ميركل؟

يمتلك شولتز شبكة واسعة من العلاقات الدولية، يتقن إضافة للغته الأم خمس لغات أوروبية، رغم عدم حصوله على الشهادة الثانوية أو إكماله دراسته، إلا أن شخصيته الكاريزمية وحضوره الواسع وقدراته الخطابية الواسعة يمنحانه مساحة كبيرة للمنافسة. فإذا ما استطاع شولتز مخاطبة المخاوف الأساسية للناخب الألماني وعلى رأسها تهديد موجات الهجرة لفرص العمل والأمن الداخلي والهوية الثقافية والاستقرار بألمانيا، فإنه سيكون قادرًا على حشد الكثير من الأصوات لصالحه.بترشحه أمام ميركل فإنه يمنح حزبه فرصة كبيرة للخروج من ظل الحزب المسيحي الديمقراطي، ورغم أن فرصه أمام ميركل تبدو ضئيلة إلا أن وجود شولتز في المنافسة يستطيع أن يجذب الكثير من الأصوات التي كانت ستصب في النهاية في صالح اليمين المتطرف. في استفتاء نُشرت نتائجه مؤخرًا سُئل عدد من الألمان عمّن سوف يختارون إذا كان بإمكانهم الاختيار مباشرة بين شولتز وميركل لمنصب المستشارية الألمانية، وكانت النتيجة مفاجئة حقيقية إذ وضع الاستفتاء ميركل وشولتز رأسا برأس بنسبة بلغت 41%!مر الشعب الألماني بأزمات متتالية كعضو في الاتحاد الأوروبي وأقوى دوله اقتصاديًا، ورأى الشعب أمواله تذهب لإنقاذ الاقتصاد اليوناني أو الإسباني كما رأى حدوده تفتح في وجه مئات الآلاف من اللاجئين، لم يتمكن الألمان من استيعاب هذا الأمر أو التسامح مع قرارات ميركل تجاهه وهاتين النقطتين تحديدًا هما ما يمكن أن يطيحا بفرص ميركل ويحملا شولتز إلى السلطة.اقرأ أيضًا: الانتخابات الألمانية: يوم أسود للمستشارة ميركل صحيح أن شولتز ليس معاديًا للمهاجرين أو للاتحاد الأوروبي، ولكنه من خلال انتقادات محسوبة لسياسات ميركل مع وعود بالعودة لمسار دولة الرفاه لكل أبنائها، يستطيع شولتز أن يستميل نسبة لا بأس بها من الأصوات لصالحه ليكون هو المستشار الألماني القادم، لكن الأمور لن تكون بهذه السهولة. فأولًا؛ يواجه شولتز الكثير من الانتقادات المتعلقة بخبرته في السياسة الداخلية الألمانية، خاصةً وأن تركيزه السياسي مؤخرًا كان منصبًا في الاتحاد الأوروبي. ثانيًا؛ وهو الأهم أن الانتخابات الألمانية لا تتم بنظام الانتخاب المباشر، بل ينتخب المستشار الألماني من البرلمان، لذا سوف يكون على شولتز أن يحشد الأصوات لحزبه أولًا. وثانيا،أن ينسج شبكة تحالفات قوية قادرة على حمله لمنصب المستشارية، وفي هذه اللحظة فليس أمامه إلا تحالف ثلاثي مع حزب الخضر والحزب اليساري الألماني.