تتسق الماركسية مع نفسها نظريًا، ولكنها لا تتسق مع نفسها بالضرورة في الممارسة العملية. فالماركسية تزعم أن الإنسان نتاج بيئته سواء من حيث هو كائن بيولوجي أو كائن اجتماعي، وأن ظروفه الاجتماعية تحدد ضميره وليس العكس.

إن أفكار الإنسان ومعتقداته تعكس وضعه الاجتماعي، ولا تُنتج الأحداث التاريخية من الأفكار ولا من الأعمال الإرادية للناس، وإنما تصنعها ظروف موضوعية مستقلة عن الناس، وأن التاريخ يخضع لحتمية تاريخية لا ترحم، وأن العبودية لم يُقض عليها لأسباب أخلاقية، ولكن لأنها لم تعد تتناسب مع الاحتياجات الاقتصادية والمصالح. ولم يُقض على النظام الإقطاعي لأن فلانًا أراد هذا، وإنما قُضي عليه نتيجة لتطور الإنتاج؛ أي نتيجة تغير في الحقائق المادية والموضوعية بعيدًا عن تأثير الإنسان.

إن تطور الرأسمالية مجرد وظيفة للاحتياجات الاقتصادية وقُوى الإنتاج، وليس لها علاقة بالنظريات التي ألفها الفلاسفة أو الاقتصاديون أو القانونيون أو الأخلاقيون.

إنه من المنطقي بناءً على ذلك، أن نفترض أن قيام النظام الاشتراكي لا يعتمد على الأحزاب السياسية أو الرغبات أو الأفكار، ولكن على تطور قوى الإنتاج، والثورة الاجتماعية تظهر عندما يفوق نمو التطورات التقنية وجيش العمال الصناعيين العلاقات القائمة إلى درجة يتغير فيها التوازن بحيث لا يمكن تجنب الانقلاب.

هذا هو تفسير جميع الكتب المدرسية الماركسية.

في الحياة الواقعية شأن آخر، فكما أن المؤمنين لا يعتمدون كثيرًا على تدخل الرب، فإن الملحدين لا يؤمنون كثيرًا (بالتطور الطبيعي للأحداث). إنهم لا يتركون شيئًا لما يسمّونه (بالعوامل الموضوعية، إنما يمارسون ترويض البشر والأحداث وحيث لا تظهر الأيديولوجية الشيوعية (طبيعيًا) يقومون باستيرادها.

ومن ثم وجدنا الشيوعية تحكم في بلاد ليس فيها طبقة عُمالية، ورأينا الذين زعموا لنا بأن الأشخاص ليس لديهم دور في مجرى الأحداث التاريخية يخلقون زعماء معصومين من الخطأ (آلهة برؤوس أكبر من رؤوس الآخرين). علينا أن نثني على حكمتهم في كل شيء ابتداءً من الانتصارات في أرض المعارك إلى التطورات الثورية في علوم اللغة. وفقًا لجدول الأحداث الماركسي، يجب أن نتوقع الأحداث التالية: نمو الصناعة يؤدي إلى ظهور الطبقة العمالية والحزب السياسي، لكن الذي يجري في الواقع عكس ذلك تمامًا.

وهكذا، وجدنا في بعض الدول المتخلفة حكومات شيوعية تقرر إقامة صناعة ثم تظهر بعد ذلك طبقة صناعية؛ أي أن الكائن قد خلق بعملية واعية، وأن التاريخ صنعته السياسة، وأن (البنية الفوقية) هي التي صنعت القاعدة وليس العكس. وهكذا لم يبقَ من مشروع ماركس شيء سوى القوة السياسية (الرهيبة) للحزب الشيوعي، وحتى هذا الحزب لم يتألف من الطبقة العمالية وإنما كان مزيجًا من عناصر اجتماعية متباينة.

التطور عند ماركس تدريجي ولكنه حتمي عنيد لا يمكن إعاقته أو قهره. ومع ذلك فإن الماركسيين يصرون على فرض وصفة واحدة من النظام الاجتماعي والاقتصادي لجميع الدول، متجاهلين حقيقة أن التطور الاجتماعي والاقتصادي يختلف مستواه اختلافًا تامًا من دولة لأخرى، وهكذا وجدنا أن برنامج الحزب الشيوعي الإيطالي لا يختلف جوهريًا عن برنامج الحزب الشيوعي في كوستاريكا أو إندونيسيا، ويوجد أكثر من ٨٠ حزبًا شيوعيًا في العالم اليوم تعمل في ظروف اقتصادية واجتماعية مختلفة في دول تتراوح درجة تطورها من قبلية في أفريقيا إلى أكثر الدول الرأسمالية تقدمًا في أوروبا، ومع ذلك تبشر هذه الأحزاب جميعًا بالنماذج الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ذاتها: الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج، والمزارع الجماعية، نظام سياسي قاصر على حزب واحد، واحتكار الأفكار السياسية. فإذا كانت الأفكار الشيوعية المتعلقة بالقاعدة والبنية الفوقية صحيحة، فكيف يصح أن نقيم البنية الفوقية نفسها على قواعد مختلفة؟ وكيف يتسنى تطبيق الاشتراكية على هذه القواعد الاجتماعية – الاقتصادية المختلفة إن كانت افتراضات المادة التاريخية صحيحة؟

قد اعترف (إنجلز) في خطاب له إلى (كونراد سميث) في مايو ١٨٩٠، حيث أشار إلى أن النظرية الماركسية إن طبقت في مجال الاقتصاد تطبيقًا حرفيًا (فإن هُراء لا يصدق سينتج عنها). ويفند (إنجلز) دعوى (بول بارث) أن الماركسية ترفض كل تأثير للوعي على الاقتصاد. وقد نصح إنجلز بعدم الاستخدام شديد الضيق لنظرية الظروف الموضوعية، وكتب عن التأثير المضاد للأفكار «القاعدة» ولكنه تراجع في موقفه مباشرةً حيث أضاف قوله (باعتمادها العام على الظروف الاقتصادية) ومهما يكن الأمر، فسيبقى أمامنا واضحًا خاصية التأرجح والتراجع للمذهب المادي عندما يصطدم بحقائق الحياة الواقعية. وكان على الماركسية أن تعترف بكثير من هذه الحقائق على حساب ثباتها واتساقه.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.