في حوار مع جريدة تركية سألني الصّحفيُّ، هل كان الرّومي متشرّعًا ويقدّم الكتاب والسُّنة على الذوق الصوفي؟ ولماذا كان اهتمامي بالرومي دون غيره من أعلام التصوف؟ أجبته على السؤال الأول مستهلاًّ بكلمة شهيرة لمولانا، جاء فيها: «أنا خادم القرآن وذرة تراب المصطفى» إذ تلخّص هذه الكلمة في وضوح وصراحة مكانة القرآن والسنة عند الرومي.

وثمّة وصف آخر يتردد على ألسنة المحبّين والمخاصمين، عن آثار مولانا جلال الدين، وبشكل خاص أثره القصصي الرائع «المثنوي المعنوي» الذي بسط فيه تعاليم الإسلام وشرحها شرحًا وافيًا معتمدًا على كافة المعارف الإنسانية، من غير أن يترك منبعًا من منابع الثقافة والحضارات السابقة امتلك ناصية معرفته دون أن يستفيد منه، فأصبح معروفًا لدى الكافة أن المثنوي هو (القرآن البهلوي) أو (القرآن في صورته الفارسية)، فما من قصة أو درس أو تعبيرات شعرية لا نلحظ فيها أثر القرآن، والمولوي دائم الاستحضار لتعاليم النبي وأقواله، وكثيرًا ما يجعل الرومي أبطال القصص في المثنوي من صحابة النبي، ومن يقرأ «أصحابي كالنّجوم بأيّهم اهتديتم اقتديم» سيدرك كيف رأى الرومي في الصحابة ظلالا من الصورة المحمدية التامة التي التمس كل واحد من صحابته جزءًا منها.

لماذا كان اهتمامي بمولانا جلال الدين الرومي والمولوية؟

يمكن تلخيص ذلك في النقاط التالية:

أولاً: نظرًا للمكانة المتميزة التي يحظى بها الرومي وطريقته الصوفية في الشرق والغرب جميعًا، وإن كان الاهتمام الغربي به أكبر وأعمق. ومن هنا فسوف نحاول التعرف على هذا الصوفي الكوني الذي استطاعت كلماته أن تخترق حجب المسافات وتقرب العوالم وتصبح جسرًا للحوار بين الحضارات ومادة خصبة للإبداع في فنونٍ شتى.

ثانيًا: العودة إلى صوفيٍّ فارسي مسلم من القرن السابع الهجري فيها التماس لمعاني الجمال والروحانيات التي زخرت بها الثقافة الإسلامية، ومحاولة للاقتراب من تراث الصوفية الفارسي الذي ظلّ مجهولاً فترة كبيرة عند المتلقي العربي، فما تُرجم من هذا التراث في بدايات القرن الفائت لم يعد يلقى اهتمامًا ودرسًا كما كان، فإذا قارنّا ما أنتجه أعلام الدراسات العربية بالأمس وما أنتج حاليًا وقفنا على هوة كبيرة في الاهتمام الأكاديمي العربي برموز العرفان الإسلامي.

ثالثًا: إعادة قراءة الرومي اليوم ومحاولة التعرف على حضوره العربي تجعلنا نعيد رسم خريطتنا المعرفية بشكل صائب، فإذا كان تقييم الرومي من المحبين يقتصر على ترديد أحكام العظمة والمبالغة في التبجيل، ومن المخاصمين يقتصرُ على القدح في مكانة الرومي، فإننا من خلال القراءة نستعيدُ موقعنا الثقافي من جديد.

رابعًا: من خلال قراءة النصوص المولوية نرى كيف يعيد الرومي بناء الذات وتأسيسها من خلال التقاطه لمظاهر الجمال والفن من صور الحياة اليومية ونشاطات أهل الحِرف والصّناعات والباعة والمهمّشين رادًّا إياها إلى أصولها الإلهية ومذكّرًا بالأصل الإنساني المغيب اليوم، فالغالب على أهل التدين ما يُنشر من صور العنف والانغلاق، لذا فإن استحضار نموذج الرومي يصبح ضرورة ملحة اليوم.

خامسًا: وإذ يجمع المفكرون والمحققون – كما يقول المخلصون لنقل تعاليم الرومي إلى العربية – على أن كتاب المثنوي يُعدُّ في طليعة المأثورات الأدبية العالمية، وقد علت مكانته، وذاعت شهرته في كلّ مكان، حتى لا تكاد تخلو لغة من اللغات الحية من ترجمة للمثنوي، وقد سيطرت ألوانه الفنية على القلوب منذ مئات السنين، وقد كان الرومي صورة مجسَّمة للعشق الإلهي من الرأس إلى القدم، وكلماته هي التعبير عن رسالة العشق من البداية إلى النهاية، وعلى حدِّ تعبيره: لو خلا قلب الإنسان من العشق لم يبق من آدميته، إلا صنم من لحم ودم بدل الحجارة، والشعب الخالي من العشق لا يعدو أن يكون أكواماً من التراب.

سادسًا: فقد قدَّم الرومي رسالته في صور من القصص والحكايات، وتناول معالجة الأسرار الخلقية، وحلَّ رموز التصوف الدقيقة، يقول العلامة شبلي النعماني في كتابه «سوانح مولانا روم»: إننا لو تصفحنا الآداب الفارسية منثورها ومنظومها، فإننا لا نجد مثيلاً لهذا الإبداع الذي استفاض به المثنوي في حل الرموز وكشف الأسرار، والإبانة عن الخفايا من الحكم والعظات البالغة.

من هنا رأينا أن نقدّم لقارئ العربية جملة من قصص مولانا التي لخّصت جملة من المعارف الدينية الإسلامية في صورة جمالية قلّ أن نجد لها نظيرًا في الكتابات القديمة أو المعاصرة، على أن يكون إنتخابنا لهذه القصص المعربّة من الترجمات المتاحة لدينا التي قدّمها أساتذة أجلاء بإخلاص وإتقان نادر وابتغوا الخير للإنسانية.


القصّة الأولى: الوشم والدعوى الجوفاء

كان أهل قزوين قد تعوّدوا أن ينقشوا بطريق الوشم صورًا لبعض الحيوانات على أجسامهم، وفي أحد الأيام توجَّه قزويني إلى حجّام لينقش له صورة الأسد على جسمه لكي يتخذ من تلك الصورة عنواناً لشجاعته وجرأته التي يتظاهر بها أمام الناس.

وسأل الحجّام أيَّ مناظر الأسد تريد أن أنقشه؟

قال: أريد صورةَ أسدٍ غضوب بادي الأنياب، علماً أن برج الأسد هو طالعي الذي ولدت فيه.

قال الحجّام: وأين تريد أن يكون موضع الصورة من جسمك؟

قال: اجعل النقش في ساعدي الأيمن ليظهر أمام الجميع، فأخذ الحجام إبرة الوشم وبدأ يرسم الصورة المطلوبة، فأحسّ القزويني ألماً موجعاً من وخز الإبرة وصاح في وجه الحجّام قائلاً: أيَّ صورة ترسم الآن؟

قال: أنقش صورة الأسد كما طلبت.

فسأل القزويني: ما الذي بدأت ترسمه من أعضاء جسم الأسد؟

قال له: إني بدأتُ بذيله.

القزويني: اترك يا عزيزي ذيل الأسد، وابدأ بغيره من أعضاء جسمه، لأن ذيله قد أجهدني، ولا ضير على الأسد أن يكون بغير ذيل.

وأخذ الحجَّام يصوِّر عضواً آخر غير الذيل، فصرخ القزويني متألماً، وقال: ما الذي تنقشه الآن من أعضاء الأسد اللعين؟

قال: إني أصوِّر أذنيه.

قال القزويني: إني أريد أسداً بلا أذنين، فإن ذلك لا يعيبه، ومضى الحجَّام للمرة الثالثة يواصل الوشم، فتململ القزويني، وقال: ما هذا الذي ترسمه أيّها الحجّام؟

قال: أرسمُ بطن الأسد.

القزويني – وهو يتلوَّى جزعاً: إن أسدي هذا ليس في حاجة إلى بطن، وليست به ضرورة إلى الطعام.

وحين طالت بهذا الحجَّام حيرته من هذا القزويني المصارع، رمى بإبرة الوشم على الأرض، وقال غاضباً للقزويني: أيها الشيء العجيب! لا أعلم أن الله تعالى خلق أسداً بغير ذيل وبغير رأس، وبغير بطن، ولم يشاهد أحدٌ مثل هذا الأسد، لا في الحقيقة ولا في الرسوم، وما دمتَ لا تحتمل وخز الإبرة فكيف تدعي شجاعة الأسود؟

إن الطاعات تحتاج إلى رياضة النفس على احتمال المكاره والمشاق، وقد حُفَّت الجنة بالمكاره، كما حُفَّت النار بالشهوات.