لم يعرف التاريخ المصري حالة صراع داخل أوساط نخبة الحكم كالتي استحضرها المماليك منذ سيطرتهم على مقاليد الأمور في مصر، وخلال حكم الدولة المملوكية عاش عوام الشعب في بؤسٍ، لم ينج منه إلا التجار والمُعمّمين، بينما عاش المماليك أنفسهم حياة أرستقراطية ملؤها الترف، والحدث الأبرز فيها دائمًا هو الصراع من أجل عرش السلطنة.

ظلت شعلة المماليك متقدة حتى في ظل الاحتلال العثماني لمصر، إلى أن جاء محمد علي ليُطفئ وهج سلطتهم بمذبحة دامية في الأول من مارس/آذار 1811م، عدّها البعض نقطة سوداء في تاريخ الرجل الذي وضع مصر على طريق التحديث، في حين فسَّر البعض الآخر هذه الواقعة في إطار الضرورات التي تبيح المحظورات، فما الذي دفع «الباشا» إلى سفك دماء المماليك؟

دعونا نعود للحكاية من بدايتها لنرى كيف نمت جذور سلطة المماليك وتشعبت في تربة الحكم بمصر، إلى أن اقتلعها محمد علي، وإن بقي منها بعض الأثر في البيروقراطية المصرية والتراث الشعبي.


البذرة الأولى التي ترعرعت

بالعودة إلى الماضي بعيدًا، وقبل 10 قرون من مذبحة المماليك بالقاهرة، نجد أن حضور المماليك الأول في مصر يعود إلى تولية «أحمد بن طولون» من قبل الدولة العباسية على مصر، وكان العباسيون قد استعانوا بحاميات من غير العرب تعتمد في تكوينها على غلمان من البلاد الأعجمية التي كانت تحت سلطانهم في آسيا.

ولِدَ أحمد بن طولون لأبٍ تركي جيء به من مدينة بخارى إلى البلاط العباسي ليترقى فيه حتى ولّاه الخليفة «المأمون» رئاسة الحرس، ولَقَّبَه بـ«أمير الستر»، وقد ورث ابنه ما كان لأبيه من حظوة لدى العباسيين، فُأرسل نائبًا للقائد «بايكباك» التركي، والي مصر، واستطاع بعد صراعات طويلة أن يستقل بحكم مصر.

وقد ذُكر في كتاب «المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار» لـ«المقريزي» أن ابن طولون استجلَبَ في بداية تأسيس دولته 24 ألف مملوك من أصول تركية، ليعتمد عليهم في بناء جيشه، إضافة إلى 40 ألفًا من العبيد أصحاب البشرة السوداء، وقد سارت الدولة الإخشيدية فيما بعد على النهج نفسه.

فقد نقل «ابن تغري بردي» في كتابه «النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة» أن الإخشيديين استجلبوا 8 آلاف مملوك من الترك والديلم، واستعان أيضًا الفاطميون بالمماليك؛ حيث ضمت جيوشهم عددًا كبيرًا منهم، وبسقوط الدولة الفاطمية، وتأسيس الأيوبية، فُتح باب جديد أكثر رحابةً للمماليك نحو حكم مصر.


صراع الغلمان الممتد

الوزير السلجوقي, نظام المُلك, كتاب سياسة نامه, تاريخ
الوزير السلجوقي نظام المُلك مؤلف كتاب سياسة نامه

اعتمدت الدولة الجديدة عليهم بشكل كبير، فقد كان الأيوبيون -أكراد الأصل- يُربون مماليكهم على أساس النظام الإسلامي المملوكي الساماني الذي وضعه الوزير السلجوقي «نظام الملك» وفصّله في كتابه «سياسة نامه»، ثم يُدْخَلون في خدمة القصور السلطانية والدوائر الحكومية.

وقد برز دور المماليك السياسي لأول مرة في نهاية عهد الدولة الأيوبية حين أسهموا في تولية الملك «الصالح» الحكم، ثم تنامت سطوتهم بهزيمة «لويس التاسع»، ومن ثم تأسيس دولة المماليك بزواج «عز الدين أيبك» من «شجرة الدر» وتنازلها له عن السلطنة، ومن هنا بدأ الصراع الممتد لدولة المماليك على السلطة، فكل مملوك له جاه ومنصب اعتمد على جلب الغلمان وإحاطة نفسه بهم، ومن تكون له الغلبة يئول له حكم البلاد المنهكة.

وخلال حكم دولتي المماليك البحرية والمماليك البرجية تم تغيير عرش السلطنة خمسًا وخمسين مرة، بمتوسط تغيير كل خمس سنوات، في حين كان متوسط فترة الحكم في الدولة الفاطمية 18 عامًا، وكانت تتبع هذا التغيير عادة فترة من القلاقل والصراعات، وقد وصف المؤرخون دولة المماليك بأنها «إقطاعية حربية»؛ نظرًا لاعتماد نظامها السياسي على الغلبة، واستقطاع المماليك للجزء الأكبر من خير البلاد، ليصبح في حوزتهم.

مع سقوط دولة المماليك عام 1517 بالغزو العثماني لمصر لم تتأثر سلطتهم كثيرًا نظرًا لتشعبها، واعتماد الدولة العثمانية سياسة الاكتفاء بالسيادة العليا بإرسال والٍ يحكم البلاد ويقوم بجباية الضرائب، وترك السلطة المحلية لأهل البلاد، وقد قوَّضت الحملة الفرنسية قوة المماليك وسطوتهم، إلا أنها لم تستطع القضاء عليها تمامًا، وظل للمماليك شوكة تؤرق كل من يريد بسط نفوذه في مصر وسيطرته المطلقة على مقاليد الأمور.


المحاولة الأولى للخلاص من المماليك

برحيل الحملة الفرنسية عن مصر في شهر أكتوبر/تشرين الأول عام 1801، لم تعد سيادة مصر لأي من القوى الموجودة، العثمانيين والإنجليز أو حتى المماليك، وعمّت الفوضى البلاد وغاب النظام، فمعادلة الحكم التي وضعت منذ احتلال العثمانيين لمصر اختلت، فمنذ هزمَ «سليم الأول» المماليك في الريدانية والسلطة مقسمة بين والٍ عثماني يحكم ويجمع الضرائب كما أسلفنا وذكرنا، ومماليك يتقلدون المناصب المحلية بين عسكرية ومدنية.

ووفقًا لمعاهدة التحالف الموقعة بين العثمانيين والإنجليز عام 1799، سيقوم الإنجليز بتسليم مصر للعثمانيين ويرحلون، ولكنهم لم يقفوا على الحياد حتى النهاية، وبقي الصراع قائمًا بين المماليك من ناحية، حيث يريدون استعادة ما كان لهم من نفوذ قبل الغزو الفرنسي، وبين مسعى العثمانيين من جانب آخر للسيطرة التامة على السلطة.

في أثناء هذا الصراع حاول «خسرو باشا» الذي تقرر تعيينه واليًا على مصر من قبل العثمانيين الخلاص من المماليك، فيما عُرِفَ بـ «مذبحة أبي قير»، فاتفق خسرو مع القبطان باشا (أمير الأسطول) على تدبير فخ للإيقاع بـ«البايات» (قادة المماليك) الفارين إلى الصعيد، فأرسل إليهم القبطان باشا يستدعيهم ويقرأ عليهم فرمانًا مزعومًا من الباب العالي، يتضمن العفو عنهم وردَّ ممتلكاتهم وامتيازاتهم عليهم، ويدعوهم لزيارته للاحتفال بالعفو عنهم، وبمجرد إبحارهم أطلق عليهم النار فقتل خمسة من قيادات المماليك وجرح آخرين من بينهم قائدهم «البرديسي»، وأُسِرُوا.

من جانبه تكفل خسرو باشا بدعوة البايات المقيمين بجوار القاهرة ليقرأ عليهم الفرمان نفسه في مقره العسكري، وعند اجتماعهم ألقى القبض عليهم وأودعهم سجن القلعة، ولم تنجح محاولة خسرو باشا، إذ غضب «هتشنسون» القائد الأعلى للجيش الإنجليزي في مصر، وطالب بالإفراج عنهم بعد أن كان قد وعدهم بالحماية، كما طلب من خسرو باشا تسليم كل من نجا منهم، وبذلك باءت المحاولة الأولى للقضاء على المماليك بالفشل.


«الباشا» يمسك بالزمام

في خضم هذا الصراع كان محمد علي مقيمًا في القاهرة على رأس جنوده من الألبان، وشهد تولي خسرو باشا، وطاهر باشا الذي سرعان ما قُتِل بعد إطاحته بخسرو، وعلي باشا بوغول المعروف بالجزائري الذي قُتل أيضًا، ويقول «الجبرتي»:

بين هاتين القوتين أخذ محمد علي يستعد لإدارة معاركه الأخيرة قبل الانفراد بحكم مصر، وقد تحرك نحو هدفه بنفعية شديدة، سالكًا درب الأمير «ميكافيلي» كما وصفه «جيلبرت سينويه» في كتابه «فرعون مصر الأخير»، وقد ذهب العلماء والأعيان إلى محمد علي يطلبون موافقته على ولاية مصر بعدما عمت الفوضى العاصمة في أثناء فرض الضرائب الجائرة من قبل خورشيد باشا؛ حيث قام جنوده من طائفة الدلهية بالسلب والنهب، في حين أمر محمد علي جنوده بعدم إيذاء الناس، وبذلك خطب ودّ العلماء والأعيان وعوام الشعب.

في بادئ الأمر رفض طلبهم بتوليته، ثم تحت وطأة الضغط واستراتيجية المراوغة وافق محمد علي على الولاية، ثم سرعان ما بدأ يتخلص منهم بزرع الشقاق بينهم تارة، وسحب الامتيازات المادية تارةً أخرى، كما حدث عندما سحب الأوقاف من سلطة علماء الأزهر عام 1808م، وبعد أن أضعف مكانتهم نفى من تبقى منهم وله شوكة وبأس، حيث نفى نقيب الأشراف «عمر مكرم» إلى دمياط.


اليوم الموعود

إن محمد علي لعب دورًا ماكرًا ومهمًا في كل تلك الأحداث والاضطرابات إلى أن جاء عام 1804م، ووجد محمد علي الساحة خالية حوله من المنافسين، ولم يعد هناك سوى المماليك أصحاب الطموحات السلطوية التي لا تنتهي، إضافة إلى العلماء والأعيان بما لهم من سطوة ونفوذ روحي لدى العوام.

بالخلاص من العلماء والأعيان لم يتبق للباشا في طريقه نحو تحديث مصر غير عقبة المماليك، حيث كانوا سيقاومون أية محاولة للتغيير الجذري بكل تأكيد، لما سيترتب عليها من تغيير النظم المعمول بها، سواء في الحياة المدنية ودواوين الدولة أو في الجيش، وبالتأكيد كانت تجربة سليم الثالث مع جنوده الإنكشارية عندما حاول تحديث الجيش على النمط الأوروبي نُصب عينيه.

لذا رأى محمد علي أنه من الضروري قطع دابر المماليك، والخلاص من تطلعهم للسلطة والحكم، الذي سيعرقل أي إجراءات إصلاحية قد يهم بتنفيذها، لذا كانت دعوته لأمراء المماليك يوم 1 مارس/آذار 1811م لحضور حفل تنصيب ابنه «طوسون» قائدًا للحملة المتجهة لقمع المتمردين الوهابيين بشبه الجزيرة العربية – الفخ المنتظر وقوعهم فيه.

المماليك, مذبحة المماليك, مصر, تاريخ, تاريخ وحضارة
لوحة «مذبحة المماليك» للرسام الفرنسي «هوراس فيرنيه»
كان شديد العصبية، يروح ويجيء بخطوات مهزوزة، صامتًا بشكل يبعث على الخوف، لم تحدث هذه المجزرة دون أن تخلف في نفس محمد علي انفعالات عنيفة، وترك هذا الحدث في نفسه مرضًا عصبيًّا صحبه طول حياته.
رواية نقلها «كلو باي» عن انفعالات «محمد علي» أثناء المذبحة

حضر المماليك مرتدين حللهم الزاهية المنسوجة من الحرير والكشمير، وقد استُقبِلوا بحفاوة وترحاب كأحسن ما يكون الاستقبال، وعندما أوشك الحفل على الانتهاء، استأذن المماليك مضيفهم في الانصراف، وعندما تحرك الموكب، تقدمهم حرس الباشا، وخلفهم فرقة ثانية تضم الدلهيين.

يستمر الموكب في التحرك في الطريق المفضي من باب الوسطاني إلى باب العزب الذي يطل على ميدان الروميلة، وفي الطريق الضيق المنحدر الذي لا يسع سوى ثلاثة فرسان، نُصب الفخ، وبمجرد أن خرج آخر جندي من حرس الباشا من باب العزب أغلق الباب ودوى الرصاص الذي أُفرغ بلا رحمة في أجساد نحو 500 من قادة المماليك، ولم ينج منهم أحد تقريبًا، بالرغم من وجود بعض الأساطير غير المؤكدة عن نجاة البعض.

لم تكن هذه المذبحة الأفظع في تلك العصور، فقد قتل «نابليون بونابرت» 2500 سجين تحت أسوار يافا عام 1799م، وقتل السلطان «محمود الثالث» 6 آلاف من جنوده الإنكشارية عام 1826م، وقبل هؤلاء جميعًا حاول خسرو باشا والقبطان باشا الخلاص من المماليك أنفسهم كما ذكرنا من قبل، ويبقى الحكم على هذه الحادثة في سياقها التاريخي والسياسي.

لنتخيل شكل مصر في ظل حكم المماليك بالمقارنة بالوضع الذي كانت عليه قبل حكم محمد علي، وبعد حركة التحديث التي قادها، فما الحال الذي كانت ستئول إليه البلاد في ظل قبضة المماليك؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.