إذا كنت من محبي الجنرال «مدحت شلبي» فأنت على الأغلب تعرف القاعدة الأساسية للتحكيم، والتي تتلخص في أن الحكم الجيد هو هذا الذي لا نشعر به في الملعب. صحيح أن كل الحكام المصريين في نظر شلبي جيدون أما أصحاب الجنسيات الأخرى فينطبق عليهم قاعدة «عايز ايه يا عمنا، هي أوفسايد خلاص»، لكن قاعدة عدم الشعور بالحكم تلك تبدو منطقية بشكل كبير.

هذا ببساطة لأن الحكم دوره الأساسي أن يحقق العدالة على أرض الملعب، فتسير المباراة نحو الاستمتاع بلعب الكرة، بعيدًا عن العنف أو الإيذاء أو تضييع الوقت وادعاء الإصابة.

هذا لم يمنع ظهور بعض الحكام أصحاب الشخصيات الطاغية والكاريزما أمثال«كولينا» و«كلاتنبرج»، لكن في المقابل ظهر أيضًا حكام حاولوا أن يكونوا دومًا محور الاهتمام داخل الملعب عن طريق إصدار قرارات مثيرة أو تعمد إحداث بلبلة دون داعٍ.

نحن الآن رفقة رجل اتُّهم كثيرًا بأنه يحب سرقة الكاميرا من اللاعبين، بينما أنصفه البعض كونه رجلًا يحاول فرض سيطرته في ملاعب أصبحت تعج بمليارات على هيئة لاعبين. نحن رفقة الرجل الأكثر إثارة في عالم التحكيم خلال السنوات الأخيرة: السيد «ماتيو لاهوز».

لسنا بصدد الحكم على لاهوز الذي يفصله أيام عن وداع عالم التحكيم برمته، لكننا هنا لتناول مسيرة الرجل المميزة ومحاولة كشف السر وراء النمط الذي انتهجه لسنوات، والذي ألقى به داخل دائرة الإثارة قبل الإجادة.

سنبدأ دومًا الحديث بشيء يفعله لاهوز ثم نشرح الأمر من واقع مسيرة الرجل.

ابتسامة للسماء: للرجل الذي لم يشهد مجد لاهوز

في نهاية كل مباراة ينظر لاهوز إلى السماء بوجه يبدو عليه التأثر الشديد، اتهمه البعض بأنه يقوم بحركة لخطف الكاميرا، لكن الحقيقة أن ماتيو يرسل التحية لأبيه الراحل متمنيًا أن يكون فخورًا به فقط.

بدأ لاهوز مسيرته رفقة كرة القدم كلاعب محترف في صفوف أندية الدرجات الدنيا من الدوري الإسباني، لكن القدر خبأ له مصيرًا آخر. توفي والده وهو في الرابعة عشرة، وكان على الجميع في المنزل أن يشارك في جلب المال.

قرر حينئذٍ اللاعب الأعسر لاهوز أن يودع حلم احتراف كرة القدم، لكن أخاه الأكبر الذي كان يعمل حكمًا أبقاه بالقرب من اللعبة بعد أن ساعده ليحترف التحكيم هو الآخر.

أحاديث لا تنقطع

ظهر لاهوز في مباريات الليجا للمرة الأولى عام 2008، لكن الظهور الأهم كان من خلال قيادة نهائي دوري أبطال أوروبا للعام 2021، والذي فاز به تشيلسي الإنجليزي بعد تغلبه على السيتي. لم يفوت لاهوز الفرصة، توجه قبيل بدء المباراة للحديث مع توخيل المدير الفني لتشيلسي، وكذلك الطاقم الفني للسيتي، ثم كباتن الفريقين. وخلال المباراة لاحظت الكاميرا أنه يتحدث كثيرًا للاعبين دون وجود مبرر لذلك.

يرى لاهوز أن دراسة المباراة التي تسند إليه أمر ضروري، لذا فقد درس تكتيكات الفريقين وتفاجأ مثل الكثيرين بالتشكيل الذي بدأ به بيب، ولا عجب أنه كان يعرف قصة التنافس السابق بين توخيل وجوارديولا في ألمانيا بالطبع.

ربما هذا يفسر لك حديثه الدائم مع اللاعبين ومناداته لهم جميعًا بأسمائهم الأولى وكأنهم أصدقاء قدامى، فهو يملك من المعلومات ما يسمح له بذلك، حتى إنه أخبر كيفن دي بروين أن يلقي التحية على والديه؛ لأنه يعلم جيدًا مساعدتهم القيمة له في مشواره مع كرة القدم.

هل هناك مبرر تحكيمي لكل تلك الأحاديث؟ يعتقد لاهوز ذلك، لكن الرجل الوحيد الذي لم يتحدث له لاهوز خلال المباراة يملك سببًا آخر لسلوك ماتيو العجيب، هذا الرجل هو «بيب جوارديولا» بالطبع.

يملك بيب ذكرى سيئة رفقة لاهوز بعد أن طرده الأخير في مباراة الإياب ضد ليفربول عام 2018، حيث ودع السيتي البطولة بالهزيمة بخمسة أهداف مقابل هدف في مجموع المباراتين. يومها خرج بيب وأكد أنه يعرف لاهوز جيدًا من إسبانيا، ثم وصفه بأنه حكم يحب أن يشعر بأنه مميز، عندما يرى الجميع شيئًا ما واضحًا سيرى هو عكس ذلك.

تلك السمعة التي التصقت بلاهوز هي المبرر المنطقي لبيب والكثيرين لكثرة أحاديث وقرارات الرجل. والحقيقة أن لاهوز لا يتوقف عن الحديث إذا كانت المباراة سهلة له كحكم، أما إذا كانت مباراة متوترة فهو يفضل عدم الحديث والظهور في الكاميرا من خلال البطاقات.

مباراة متوترة: الكثير من البطاقات هو الحل

أُسند إلى لاهوز قيادة مباراة الأرجنتين ضد هولندا في ربع نهائي كأس العالم قطر 2022، لكنه فقد السيطرة على المباراة تمامًا، فقرر أن يعوض الأمر بالبطاقات الصفراء حتى إن المباراة سجلت في موسوعة جينيس كونها أكثر مباريات كأس العالم التي احتوت على عدد بطاقات صفراء وعددها 18 بطاقة.

كنا خائفين قبل المباراة لأننا عرفنا ما يمكن أن يحدث مع حكم مثل هذا. على الفيفا مراجعة الأمر، لا يمكن إسناد مباراة مهمة مثل هذه لحكم أقل من المستوى اللازم.
ليونيل ميسي منتقدًا لاهوز عقب مباراة الأرجنتين وهولندا

كان ميسي تحديدًا هو الخائف من لاهوز وليس أعضاء منتخب الأرجنتين. فقد خاض ميسي الكثير من المواجهات مع ماتيو لاهوز خلال أكثر من عقد في الدوري الإسباني رفقة برشلونة، لهذا عرف ميسي أن المباراة لن تمر مرور الكرام.

ربما تذكر ميسي ما حدث في أكتوبر 2019 ، عندما قرر لاهوز طرد لاعبين من برشلونة في دقيقة واحدة خلال مباراة ضد إشبيلية. كان الطرد الأول من نصيب أراوخو بسبب تدخل جدلي، لكن الطامة الكبرى كانت في البطاقة الثانية والتي وجهها لعثمان ديمبيلي للاعتراض بشكل غير لائق. التقطت الكاميرات ميسي وهو في حالة عدم تصديق متحدثًا للاهوز «كيف يمكنه ذلك؟ هو لا يستطيع التحدث الإسبانية من الأساس».

العجيب أن المباراة التالية للاهوز بعد مباراة الأرجنتين وهولندا المثيرة كانت مباراة ديربي كتالونيا التي تجمع بين برشلونة وإسبانيول، وكان لاهوز في الموعد، حيث أخرج البطاقة الصفراء 15 مرة، وطرد لاعبًا من كل فريق.

هل تسرب داخلك الشك أن لاهوز مشجع وفي لريال مدريد. حسنًا، جماهير مدريد لا تشاركك الرأي. تتهم جماهير الريال هي الأخرى لاهوز بأنه يتعمد عدم احتساب الأهداف للفريق، كما يمنح الريال الكثير من البطاقات دون منطق.

أنا عظيم

التقطت الكاميرات لاهوز يتحدث مع رودريجو دي بول خلال المباراة التي جمعت بين ريال بلد الوليد وأتلتيكو مدريد في الموسم الحالي معقبًا على اعتزاله في نهاية الموسم: «أنا رائع ولكني سأرحل، سيقومون بطردي في يونيو».

ربما هذا هو بيت القصيد. لاهوز حكم جيد بالطبع، وكثيرًا ما تلقى إشادات من شخصيات ذات مصالح متضاربة ويصعب إرضاؤها مثل «جوزيه مورينيو» و«تشافي» و«أنشيلوتي»، لكنه يرى نفسه عظيمًا، بل أغلب الظن أنه يرى في نفسه أكثر من حكم.

إنه يقوم بمجهود كبير ويريد الفرصة الكاملة لإظهار ذلك، يدرس اللاعبين ويتحكم في رتم المباراة ويفرض سطوته على الجميع. هل يفعل ذلك عن قصد ليدخل التاريخ أم أنه يفعل ذلك من دافع أنه يرى نفسه استثنائيًّا ولا يقل عن كل هؤلاء المحيطين به؟

لا يمكن لأحد أن يطلق حكمًا مؤكدًا، لكن الأكيد أنه باعتزال لاهوز سأفقد واحدًا من أحلامي الكروية، كنت أحلم بمباراة يحكمها لاهوز ويعلق عليها الجنرال الذي حتمًا كان سيصيح بعد البطاقة الخامسة: «لا ده أنت مش ناوي على خير أبدًا يا عم لاهوز».