أزمات داخلية وخارجية، وحملة انتخابية تمضي بصعوبة، وأيام قليلة تفصل بين إيمانويل ماكرون، المنتهية ولايته، وبين الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية.

لكن في تلك الأيام القليلة ظهرت فضيحة ماكنزي لتجعل الأيام الأخيرة للحملة الانتخابية في مأزق شديد الصعوبة. وبات كل من في الحملة مشغولًا بتقديم تبريرات للرأي العام وللسياسيين حول الأسباب التي دفعت ماكرون للجوء إلى شركة ماكنزي للاستشارات ودفع مبالغ ضخمة لها.

تأزمت الأمور حين نشر مجلس الشيوخ الفرنسي تقريرًا كشف فيه اعتماد ماكرون، والعديد من الوزارات الفرنسية، على شركة ماكنزي للاستشارات، في حين يوجد بدائل محلية ومتخصصون فرنسيون، لكن لم يلجأ لهم أحد. بجانب ذلك فإن التقرير يُظهر أن الشركة لم تدفع كامل الضرائب المفروضة عليها نظير المبالغ التي تلقتها، ما يعني أن هناك محاباة قد حصلت عليها الشركة.

خصوصًا أن الأرقام التي حصلت عليها الشركة تجاوزت 500 مليون يورو. فظهر في تقرير المجلس الفرنسي أن الميزانية المخصصة للاستشارات ارتفعت من 379 مليون يورو عام 2018 إلى قرابة 900 مليون يورو عام 2021. ليس الرقم الذي حصلت عليه الشركة وحده هو ما أزعج الفرنسيين لكن الحديث عن أن قيادات ماكنزي هى التي تدير الإليزيه. صحيفة بوليتيكو هى أول من استقصى خلف الشركة في فرنسا، ونشرت اكتشافاتها في مقال بعنوان كيف تولى مستشارو ماكنزي السيطرة على فرنسا.

الترقيّ أو الطرد

لم يقتصر دور مستشاري الشركة على النصح أو تقديم الأوراق البحثية فحسب، بل أصبحوا يوجدون داخل أروقة الإليزيه للمساهمة في اتخاذ القرارات. وكانت الشركة صاحبة القرار في التوجه الفرنسي لمحاربة تغير المناخ برصد مبالغ ضخمة لذلك الهدف. وتتواجد الشركة في مكتبين في فرنسا، واحد في ليون وواحد في باريس.

المعارضة الفرنسية لم تفوّت الفرصة لتوجيه أشد الانتقادات لماكرون، خصوصًا أنها ترى أن استشارات ماكنزي ليست مفيدة، ولا تقدم شيئًا يمكن أن يعود بالنفع على الاقتصاد الفرنسي. وبمزيد من التقصي خلف الشركة كشفت المعارضة أن الشركة لم تدفع يورو واحد كضرائب على مدار عشرين عامًا من وجودها في فرنسا، 2011 إلى 2021، رغم أن بها أكثر من 600 موظف، وتُدر دخلًا سنويًا يقدر بـ100 مليون يورو.

من جهتها رفضت ماكنزي تلك الاتهامات، وقالت إنها احترمت القواعد الضريبية والاجتماعية المعمول بها في فرنسا. وإنها دفعت ضرائب عن السنوات التي كسبت فيها أرباحًا. لكن مجلس الشيوخ الفرنسي رفض ذلك التصريح وقرر رفع دعوى قضائية ضد الشركة بتهمة التزوير.

المفاجأة التي تكشفت لاحقًا أن عددًا كبيرًا من مستشاري الشركة كانوا قد عملوا، مجانًا، في الحملة الانتخابية السابقة لماكرون عام 2017. لكن بعد فوزه حصلوا جميعًا على مناصب إدارية وحكومية مختلفة. وهو مبدأ تدعمه الشركة فماكنزي تأسست عام 1926، بعد أن شاهد مؤسسها جيمس ماكينزي، عدم كفاءة المورديين العسكريين أثناء فترة خدمته في قسم الأجهزة العسكرية في الجيش الأمريكي.

تطارد الحكام العرب

تُعتبر هى أول شركة تعتمد على تعيين حديثي التخرج بدلًا من ذوي الخبرة، وتتبنى سياسة الترقي أو الخروج، فكل من لا يتم ترقيته يتم طرده، ولهذا تبقى الشركة في حالة تجدد مستمر. لكنها أيضًا شركة ملاحقة بالسمعة السيئة في العديد من الدول، ففي الولايات المتحدة طاردتها دعاوى قضائية بأنها قدمت لإحدى شركات الأدوية نصائح باستهداف الأطباء الذي يفرطون في كتابة الوصفات الطبية من أجل زيادة مبيعات عقار جديد مخدر.

كما أن ماكنزي تطارد الحكام العرب، وحكام الخليج تحديدًا، وهى صاحبة التصورات عن 2030، وقامت ببيعها لعدد من الدول منها السعودية والإمارات والبحرين. وكانت ماكينزي شريكًا في تسهيل عمليات اعتقال عدد من المعارضين لمختلف الأنظمة، بسبب توليها متابعة ردود الأفعال عن السياسات التقشفية أو الجديدة التي ينتهجها القادة. ومن ثم تقدم أسماء المعارضين ورودود أفعالهم للمسئولين.

ماكرون حاول إنهاء الجدل بخصوص الشركة قائلًا إن ما قام به أمر معمول به منذ زمن، ولا يخرج من إطار الشرعية والقانون. وإن استعانة الوزارات المختلفة بشركات استشارية أمر غير صادم، بل ومعتاد. لكن يبدو أن ماكرون لم ينجح في تهدئة الوضع، بل تحولت الأمور إلى السخرية والتهكم من قبل المعارضة في كثير من الأحيان. ومع كل اقتراح يقدمه ماكرون يتساءل الناخبون، هل أتى من ماكنزي؟

وبالطبع لم تترك ماري لوبان، المنافس اليميني لماكرون، الفرصة. وغردّت أكثر من مرة بأنه مع وجود ماكرون في السلطة سوف يستمر وجود شركة ماكنزي التي كلفت الدولة مليار يورو، لتقوم بمهام غامضة، ولتجني المزيد والمزيد من المال العام من دون أن تدفع الضرائب.

حظوظ ماكرون تتداعى

كان الحديث عن هزيمة ماكرون مستبعدًا في الأيام القليلة الماضية، فقد كان متقدمًا عن منافسيه بـ12 نقطة كاملة. رغم أن حالة من السخط الشعبي كانت تتراكم بسبب غياب ماكرون عن المناظرات السياسية أو الحديث مع المرشحين الآخرين. حتى الإعلانات التلفزيونية فقد استخدمها ماكرون للحديث كرئيس لا كمرشح محتمل ما أثار غضب فئة كبيرة من الفرنسيين تأخذ الحملات الانتخابية على محمل الجد.

لكن بعد قضية ماكنزي، والتي باتت تُعرف باسم فضيحة ماكنزي، ماكنزي جيت، اهتزت القاعدة الانتخابية لماكرون، وباتت حظوظه في الوصول للإليزيه مرة ثانية موضع شك. خصوصًا مع تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على فرنسا، والتي يتوقع أن تؤدي لارتفاع تكلفة المعيشة في فرنسا.

ومع بروز قضية ماكنزي تبرز الجملة الأشهر التي قالها أصحاب السترات الصفراء منذ عامين، بأن ماكرون هو رئيس الأثرياء فحسب. كونه كان مصرفيًا سابقًا في روتشيلد. أما حظوظ لوبان فبدأت تزداد قوة واكتسبت لوبان نقطتين بمجرد ظهور فضيحة ماكينزي.  خصوصًا أن لوبان تلعب على هذا الوتر جيدًا، فصرّحت بأنها كانت في الشارع منذ 6 أشهر تتواصل مع الناخبين، بينما اختار الآخرون بما فيهم رئيس الجمهورية عدم البدء في حملة انتخابية.

وصول لوبان للسلطة سيشكل أزمة عميقة لأوروبا وللناتو في لحظة مفصلية تقف فيها أوروبا في مواجهة روسيا. لأن ماري لوبان حليف قوي، ومعجبة شديدة، بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ومن شأن وجودها أن يضعف جبهة الاتحاد الأوروبي في مواجهة روسيا.