فجأة انقطعت العلاقة بين الرئيس جمال عبد الناصر ومصطفى أمين، وأصبح محمد حسنين هيكل هو الصحفي الأوحد والأهم لدى الرئيس، ثم قام عبد الناصر بتعيين خالد محيي الدين في «أخبار اليوم»، ليقوم هو الآخر- في الوقت الذي كانت الدولة تتجه فيه نحو الإفراج عن الشيوعيين وإخراجهم من السجون- بتعيين عدد كبير منهم في «أخبار اليوم».

تصاعدت التحديات أمام التوأم علي ومصطفى أمين، فلم يجد الأول أمامه سوى السفر للعمل مُراسلاً للأهرام في لندن بمساعدة من هيكل، بينما قرّر مصطفى أمين تهريب أمواله للخارج.

علاقة مصطفى أمين بالمخابرات الأمريكية

لأن مصطفى أمين وهيكل كانا في السابق رسولي جمال عبد الناصر لدى الأمريكان، اكتسب أمين علاقة وثيقة برجال السفارة الأمريكية في القاهرة، فكان أثناء فترة علاقته الجيدة بالرئيس يقدم إليه المعلومات والأخبار المهمة التي يستقيها من الأمريكان.

فكّر مصطفى أمين أنه قد يتمكّن من استعادة علاقته بجمال عبد الناصر عن طريق لعب دوره القديم، لكن هذه المرة بشكل تطوعي، ودون علم الرئيس، فقرّر بعد نجاحه في فتح قناة اتصال مع أحد رجال المخابرات الأمريكية، ممّن يعملون في سفارة القاهرة، أن يستغل هذه الصلة للحصول على أخبار مهمة يقدمها لعبد الناصر، وبالقطع كان في المقابل مُضطرًا لأن يُقدم إليه أخبارًا ادّعى أنه حصل عليها من الرئيس شخصيًا. في هذا الوقت لم يكن هناك همّ للمخابرات الأمريكية سوى الإطاحة بعبد الناصر، اعتمادًا على عناصر من النظام القديم من إقطاعيين ورجال صناعة وغيرهم من كارهي عبد الناصر.

لسوء حظ مصطفى أمين، لم يدرك أن المخابرات المصرية تراقب رجل السفارة، وأنهم اكتشفوا تردده على عمارة بعينها في الزمالك، وبمزيد من التدقيق والتحري اكتشفوا أن وجهته هي شقة مصطفى أمين نفسه، فلم يكن من «صلاح نصر» سوى أن حمل تسجيلات اللقاءات بين مصطفى أمين ورجل السفارة إلى عبد الناصر، الذي أصدر أوامره باستمرار المراقبة.

وهكذا بدأت المخابرات في طلب رأس مصطفى أمين، بضوء أخضر من الرئيس شخصيًا، فتم إلقاء القبض عليه، وتسارعت الأحداث ليحصل على حكم بالأشغال الشاقة المؤبدة بعد محاكمة عسكرية سريعة. وعلى الأغلب كانت تهمته الحقيقية الوحيدة هي تحريض الأمريكان على سياسة جمال عبد الناصر المتحالفة مع الشيوعية.

وعلى الرغم من إصرار مصطفى أمين أن هيكل هو من دبّر له هذه المكيدة، بخاصة بعد الحملة التي شنها في الأهرام مُستنكرًا جريمة مصطفى أمين، فإن هيكل في الحقيقة كان معذورًا، فلم يكن خافيًا على أحد اللقاء الأسبوعي الذي كان يحرص عليه هيكل-بعد تعيينه في الأهرام- للغذاء مع مصطفى أمين بشقته في الزمالك، وبالتأكيد كانت المخابرات ترصد وتُسجِّل هذه اللقاءات بدورها، ولأن هيكل كان مرعوبًا من أن تأتي قدمه في القضية، لم يجد أمامه سوى شن هذا الهجوم على مصطفى أمين، والذي لم يتوقف سوى بعد أن اطمأن أنه بعيد تمامًا عن مرمى الاتهام.

ورغم المقالات الثمانية التي كتبها مصطفى أمين في صفحة واحدة بالأخبار، قبل القبض عليه، ودعا فيها لإعادة انتخاب جمال عبد الناصر باسم الحرية والديموقراطية والشباب والعمال، فإنها لم تشفع له، ولم تقِه من غياهب السجن. كذلك لم تنجح وساطة الصحفي الكبير «سعيد أمين» ورئيس حكومة السودان «محمد محجوب»، لدى جمال عبد الناصر في الإفراج عنه.

مصطفى أمين والسادات

يتجدد الأمل في الإفراج عن مصطفى أمين بعد وفاة جمال عبد الناصر وتولي الرئيس السادات مقاليد الحكم.

في البداية رفض السادات، ثم وعد- ذات مرة- الأمير «طلال بن عبد العزيز» بالإفراج عنه. واستمرت المحاولات لكنها لم تسفر إلا عن سماح السادات بعودة علي أمين إلى مصر، حتى أتت اللحظة المناسبة ذات ليلة عام 1974، في الرابعة صباحًا، وبعد أن انتهى فرح كريمة السادات، فأحاط بالرئيس كل من «موسى صبري» و«علي الجمال» و«أحمد رجب» و«محسن محمد» ومعهم الفنان «عبد الحليم حافظ»، ليلحوا عليه جميعًا من أجل الإفراج عن مصطفى أمين، وسط صمت من الرئيس وتأييد حار من زوجته السيدة جيهان.

وعند ظهر اليوم التالي فُوجئ موسى صبري باتصال من السادات ليخبره أنه قرر الإفراج عن مصطفى أمين، بل وأعطى تعليمات بإعفائه من الإجراءات حتى يكون بمنزله في نفس اليوم.

لم يكد موسى صبري يسمع الخبر حتى أسرع يحمله في سيارته الصغيرة إلى قصر العيني، وهناك رأى مصطفى أمين لأول مرة منذ القبض عليه، تلّفه بطانية فوق سرير صغير، فأبلغه بخبر الإفراج واحتضنه ليبكيا معًا.

كان كل همّ مصطفى أمين حينئذ أن يُسرع موسى صبري إلى علي أمين في مكتبه بدار الصيّاد في ميدان التحرير، كي يبلغه بالخبر ويمنعه من تلبية موعده مع هيكل في الأهرام وطلب وساطته للإفراج عن مصطفى أمين، حتى لا يدّعي هيكل فيما بعد أنه هو منْ أفرج عنه، وبالفعل نجح موسى صبري في الوصول لعلي أمين في الوقت المناسب وإبلاغه بالخبر.

لم تنفرج الأزمة فقط بخروج مصطفى أمين من السجن، فبعد أن كان كل طلب علي أمين أن يعمل فقط مع الدكتور حاتم الذي عيّنه السادات رئيسًا لمجلس إدارة الأهرام خلفًا لهيكل، قرر السادات تعيين علي أمين مديرًا لتحرير الأهرام، قائلاً: «هو علي أمين مش عارف قيمته ولا إيه!». كذلك وافق السادات على عودة مصطفى أمين للعمل بـ«أخبار اليوم»، والذي كان كل طلبه هو الآخر غرفة صغيرة يستقبل بها زواره هناك.

حتى إحسان عبد القدوس الذي اشترط كتابة مقاله في يسار الصفحة الأولى بأخبار اليوم ليترك لمقال مصطفى أمين النصف الأيمن، لم تفلح محاولته لتعديل أول مقال كتبه مصطفى أمين، ولم يتراجع فقط عن قراره، بل ترك «أخبار اليوم» بأكملها لمصطفى أمين بعد أن رأى مدى التفاف أبنائها حوله، فنقله السادات للأهرام، وأعاد علي أمين للعمل مع توأمه بالأخبار.

الخلاف بين الرئيس والصحفي

ودارت الأيام… واقترب علي أمين جدًا من السادات، فأصبح يصحبه في رحلاته الخارجية، ويمده بالأخبار، بينما يكتب مصطفى أمين بحرارة مُؤيدًا للسادات.

ولكن تبدلت الأحوال، وأتت البداية على يد وزير الإعلام «كمال أبو المجد» الذي أثّر على قرار الرئيس، فرفض فكرة مؤتمر صحفي- مُذاع تليفزيونيًا- رغب التوأم في عقده في حضور مُمثلي الصحف الأجنبية من أجل إعلان نتيجة تحقيقات المدعي العام الاشتراكي، والذي قرر محو جريمة التخابر الخاصة بمصطفى أمين قبل أن يُصدِر السادات قرارًا بالعفو عنه ورفع الحراسة.

ثم انطلقت حملة عنيفة ضد التوأم في مجلة أسبوعية تُطبع في الأهرام، فسّر البعض أنها كانت بمباركة السادات، بعد هجوم علي أمين على الوزير كمال أبو المجد والمشادة التي وقعت بينهما، والتي فقد خلالها أمين أعصابه وقال للوزير عبارات قاسية.

كتب التوأم مقالات تحمل هجومًا شرسًا على جمال عبد الناصر، مما وضع السادات في موقف مُحرج، وقد فسّر البعض أن مقالات التوأم كُتبت برضا السادات، حتى صحف المعارضة اتهمته باستخدام التوأم و«جلال الحمامصي» في تشويه جمال عبد الناصر، فعزل السادات الحمامصي ولم يعده مرة أخرى للكتابة إلا بعد توسط موسى صبري، وذلك قبل أن يُخرِجه من رئاسة التحرير هو والتوأم ومعهم «حسين فهمي»، وقام بتعيين موسى صبري مديرًا للتحرير بجانب منصبه كرئيس لمجلس إدارة أخبار اليوم، فحملت ترويسة الصفحة الأولى لأخبار اليوم اسم موسى صبري فقط، بعد أن كانت تحمل اسم الأربعة.

بدأ مصطفى أمين ينتهج سياسة المعارضة وكذلك الحمامصي، فكتب «مرحبًا بالوفد الجديد»، وذلك بعد أن سمح السادات بتكوين الأحزاب، واستشاط الرئيس غضبًا لدرجة أنه اتصل بموسى صبري قائلاً:

لقد عرفنا فساد الوفد من مقالات مصطفى أمين في أخبار اليوم… الآن يكتب مرحبًا بالوفد الجديد؟ سبحان الله!

ولم يتوقف مصطفى أمين، فهاجم الحزب الوطني بعد دعوة السادات لتأليفه، ووضع الرئيس في موقف محرج أمام النواب الذين يؤيدونه، فقام السادات بمنع مصطفى أمين بعدها من الكتابة لثلاثة أسابيع كاملة، استمرت حتى عودته من كامب ديفيد، ثم وجّه له دعوة لحضور حفل زفاف نجله جمال، فأقنعه أحمد رجب وموسى صبري بقبولها، ليُفاجأ الجميع بمدى الترحاب والحفاوة التي استقبل بها الرئيس وأسرته مصطفى أمين، وتمر سحابة الخلاف بسلام.

نكأ قبول مصطفى أمين الكتابة في جريدة الشرق الأوسط السعودية- المعروفة بمهاجمة سياسة السادات- الجرح القديم بينه وبين الرئيس، ولم تفلح توسلات موسى صبري وأحمد رجب وسعيد سنبل لإثناء أمين عن قراره، فما كان من السادات سوى أن قام بتعيين «إبراهيم سعدة» رئيسًا لتحرير «أخبار اليوم»، كي يُلقّن مصطفى أمين درسًا.

مات السادات، ورفض موسى صبري نشر كلمة واحدة من مصطفى أمين تهين ذكراه، فكان ينشر مقالاته مع حذف العبارات المُسيئة للرئيس الراحل، حتى بعد لقاء الرئيس مبارك لموسى صبري ومصطفى أمين والحمامصي وأحمد أبو الفتح في قصر العروبة، والذي طلب فيه عدم إهالة التراب على زعماء مصر قائلاً: «أنتم شيوخ الصحافة… وأرجو ألّا يثور بينكم أي خلاف»، لم يتوقف لا مصطفى أمين ولا الحمامصي عن مهاجمة السادات.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.