في قصيدته «لاعب النرد» يقول محمود درويش «لو كنت غيري لصرت أنا مرة ثانية»، لكن كيف يمكن أن أعود إليّ أنا إن كنت منذ البداية أعيش حيوات مختلفة؟ هل سأكون صورتي التي أتخيلها عني أم سأصير إلى طِبق الأصل مني الآن مرة ثانية وهي الصورة التي لا أعرف عنها شيئًا؟! بهذه الطريقة يمكن قراءة «الحياة في مكان آخر» رواية للأديب التشيكي ميلان كونديرا والتي يقدم فيها تأملاته عن حياة «ياروميل» الشاعر وبطل الرواية. 

تسيطر على مريض الاكتئاب أفكار سلبية عن حياته من شأنها أن تؤدي به إلى الانتحار، أما عن مريض الذهان فقد تصل به الهلوسة إلى شم وتذوق ولمس أمور غير موجودة وليس سماع الأصوات فقط؛ هكذا يمكن أن نرى المرض النفسي حياة في مكان آخر. 

يعطينا المرض النفسي مقاربة نقدية لقراءة «الحياة في مكان آخر» حيث يتناول كونديرا في الرواية الهيمنة على الجسد من خلال الاعتناء والفحص حتى الرسم على الجسد، وهي أمور يختبرها من سبق له الاحتجاز في مشفى للأمراض النفسية كما سبق لي أن احتُجزت لأكثر من ثلاثة أسابيع في مشفى “الخانكة” للأمراض النفسية والعصبية.

كرد فعل على امتلاك الجسد كنا نهرع إلى رحابة الأحلام. كان لكلٍ منا بطلٌ بالخارج سيكمل الحياة حال خروجنا من هذه التجربة. هكذا أيضًا كان كزافييه بطل ياروميل وهو الآخر من ياروميل في كل شيء تقريبًا، لكن أن تهرب إلى الأحلام وأنت مصابٌ بالاكتئاب وتقبع بمشفى «المجانين» وسط أناسٍ يتكلمون مع الخيالات هي مغامرة خطرة للغاية!

يسيطر الممرضون -أو الأساتذة كما يحبون أن يطلقوا على أنفسهم- في مشفى الخانكة على أجساد المرضى بشكل كامل؛ فهناك مواعيد لتناول الطعام والاستحمام بميعاد وتغيير الملابس حين اتساخها باستئذان حتى السيجارة عليك أن تذهب إلى «حكمدار العنبر» لتشعلها. أما في حالات الطوارئ وهي لا تعني حالات اهتياج المريض لأنه في هذه الحالات غالبًا لا يلقى المريض أي اهتمام بدعوى أنه «يمثل»، حالات الطوارئ هي الحالات التي لا يلتزم فيها المريض بتعليمات الإدارة أو يفتعل المشاكل مع مريض آخر.

في هذه الحالة تصل السيطرة على جسد المريض ذروتها حين يُحقن المريض بمُضادات الذهان (حقن عضل هالوبيريدول و كلوبيكسول) -حتى ولو لم يكن مصابًا بالذهان- التي تتسبب في تيبس عضلات المريض وثقل باللسان وأحيانًا -إذا أضيفت للجرعة «الانتقامية» أكثر من نوع- تتسبب في تبول لا إرادي. وبمرور اليوم الثالث حين تكتمل كل هذه الأعراض ويدرك المريض فداحة خطئه! ويصير عبرة لزملائه يعطيه الممرضون أقراصًا لمكافحة وإيقاف هذه الأعراض (أقراص الكوجينتول).

 على الرغم من ذلك تبقى للأحلام شاعريتها -ما دامت أحلامًا- وعلى النقيض كان ياروميل الذي لم يكن يحلم بأنه سيصبح شاعرًا عظيمًا بل كان يرى أنه بالفعل (شاعرٌ عظيم يمتلك موهبةً شيطانية). 

من أين يأتي الشعر؟

تدور أحداث «الحياة في مكان آخر» -وغالب روايات كونديرا- في الفترة ما بين الحربين العالميتين وما بعد الحرب العالمية الثانية. عاش يا روميل في هذه الفترة التي أثرت في حياته وشكلت آراءه عن الفن الحديث والفن البرجوازي إلى آخره.

لكن ياروميل تحول شيئًا فشيئًا إلى معسكر الأعداء كما ستقرأ في الرواية. ياروميل الذي كان يكره وجهه ذا الملامح الطفولية لم يكن يرى أن كتابة الشعر عملاً حقيقيًا أو عملاً رجوليًا، لذلك حينما واتته الفرصة -حسب ما رأى- لأن يكون رجلاً ولأول مرة يؤثر في مُجريات الأمور كان ذلك عبر وشايته بأقرب الناس إليه ولم ير أي مانع من الاشتراك في أمسية شعرية تقام في نادي الشرطة.

أتذكر السياب … إن الشعرَ تجربةٌ ومنفى
توأمان ونحن لم نحلم بأكثر من 
حياةٍ كالحياة، أو أن نموت على طريقتنا

مرة أخرى نرجع إلى محمود درويش لكن هذه المرة مع قصيدته «أتذكر السياب» يقول درويش (إن الشعر تجربة ومنفى) لكن أحداث الرواية أو حياة ياروميل خلت تمامًا من المنفى أو المأساة التي تلهم الشاعر لذلك فإن شعره كان بحسب «الرسام» -معلم ياروميل- ينبع من اللا وعي، فهل يمكن اعتبار نصوص ياروميل بعيدة عن الشعر كبُعد شخبطات الأطفال عن الفن التجريدي؟ يختلف هذا اللا وعي عن قول درويش في قصيدة لاعب النرد. 

لا دَوْرَ لي في القصيدة
غيرُ امتثالي لإيقاعها:
حركاتِ الأحاسيس حسًّا يعدِّل حسًا
وحَدْسًا يُنَزِّلُ معنىً
وغيبوبة في صدى الكلمات
وصورة نفسي التي انتقلت
من أَنايَ إلى غيرها
واعتمادي على نَفَسِي
وحنيني إلى النبعِ/
لا دور لي في القصيدة إلا
إذا انقطع الوحيُ
والوحيُ حظُّ المهارة إذ تجتهدْ

إذ تلاحظ الكاتبة نسرين مغربي أن درويش هنا -خلافًا لياروميل- له دور الفاعل المؤثر في (وحاولت تعديلها) كما يمكن أن نلاحظ أيضًا مجهود لاعب النرد في القصيدة في (لا دور لي في القصيدة إلا إذا انقطع الوحي) ثم يورد تعريفه للوحي بصورة مربكة تجعل من الوحي فعلاً من أفعال الشاعر لأن الوحي هو (حظ المهارة) مهارة الشاعر (إذ تجتهد).

 ياروميل الأيقونة   

بحسب ميشال بوتور -أديب فرنسي- فإن الرواية تحمل معنىً للحقيقة يقدمه الروائي من خلال خلقه للأحداث. عادةً ما يستخدم الروائيون الضمائر، ضمير الغائب للبطل وضمير المتكلم للراوي لتوضيح العلاقات بين أشخاص الرواية. لكن كونديرا في «الحياة في مكان آخر» لا يستخدم ضمير الغائب في الحديث عن ياروميل إنما يتحدث عنه دائمًا باسمه أو بـ «الشاعر»، هنا تضفى على ياروميل رمزية الشخص المثال أو الأيقونة. 

ولتأكيد هذه الرمزية لم يختر كونديرا أسماءً لأي من الشخصيات الأخرى في الرواية إنما اكتفى بالإشارة إليهم بصفاتهم في حياة «الشاعر» (الأم، الرسام، النمشاء، ابن البواب ..) فيما عدا «ماغدا» الخادمة، ولعل كونديرا هنا يشير إلى أهميتها في الرواية حتى إن بدا الأمر غير هذا؛ بالإضافة إلى ذلك فإن الراوي في الرواية هو ذات الروائي أي أن كونديرا يُشعر القارئ بوجوده ويذكر القارئ أن الأحداث هي من إبداعه ويقدم تعليقه على الأحداث في صورة تأملات في حياة ياروميل. 

يشير كونديرا إلى نفسه بوضوح في الجزء السادس من روايته ويؤكد (أننا ننظر إلى ياروميل انطلاقًا من مرصد نصبناه هناك حيث يقع موته في تيار الزمن). يوضح كونديرا للقارئ أن أحداث الرواية هي نتاج تأملاته ومراقبته لحياة ياروميل من خلال «المرصد» الذي نصبه فوق حياة ياروميل.

لكن إلى أي شيء كان يرمز ياروميل؟ يجيب كونديرا نفسه عن هذا التساؤل فيقول عن زمن أحداث الرواية -فترة ما بين الحربين وما بعد الحرب العالمية الثانية (وإذا كنا قد اخترنا هذه السنوات فليس بغرض رسم صورة لها بل لأنها بدت لنا فخًا منقطع النظير منصوبًا للشعر وللشباب والرواية. أليست فخًا منصوبًا للبطل؟ ليذهب التصوير التشكيلي لهذا العصر إلى الجحيم! فما يعنينا نحن هو ذاك الشاب الذي ينظم القصائد لهذا ينبغي ألا نسهو أبدًا عن هذا الشاب الذي سميناه ياروميل).

كانت حياة ياروميل تشير إلى الحياة بوصفها فخًا وهكذا يرمّز كونديرا زمن الرواية أيضًا، فالزمن الروائي في «الحياة في مكان آخر» لا يمكن تقريبه أو الإشارة إليه بالسنوات إنما هو يشير إلى (الزمان المضطرب) بحسب تعبير «هاملت»، هنا تأخذ «الحياة في مكان آخر» مكانها في أدب كونديرا حيث إن كونديرا مسكون بأزمة الإنسان -أو الفخ منقطع النظير- في تاريخه الما بعد حداثي ولأن تاريخ البشرية يدور على نفسه تكتسب روايات كونديرا تلك الأهمية بين قارئيها (فالمدى الأساسي للرواية الواقعية ليس سفرًا فحسب بل دورانًا).

أخيرًا، فإن مشاعر القارئ بخصوص ياروميل ستتضارب ما بين التعاطف إلى الاشمئزاز إلى الغضب، يجمع كونديرا كل هذه المشاعر في سخريته من حياة بطله «التافهة» ويمكن لنا أن نرى «ياروميل» شخصًا مصابًا بالنرجسية، وسواء كان مرصد الروائي -أو مراصدنا نحن- هنا أو هناك فالحياة ستتشابه في أنها غير عادلة وغير حرة والحياة في مكان آخر غير ممكنة حتى تحتفظ الأحلام بشاعرية المستحيل، فكل ما يمكن أن نفعل إزاء أزمة الوجود هذه محاولة العيش بحرية، فبحسب كونديرا (الشيء الأسوأ ليس هو عدم كون العالم حرًا بل هو نسيان الإنسان حريته).