ألا لاَ يَمنَعَنَّ رجلًا هيبةُ الناسِ، أن يقولَ بحقٍّ إذا عَلِمَه.
حديث نبوي شريف.

هذا الكتاب هو أحد أهم الكتب الفكرية والثقافية التي أُنتجت في عصره، وهو للمؤلف العلّامة «محمود محمد شاكر»، الملقب بشيخ العربية. حيث صدر عام 1978، كمقدمة لكتابه «المتنبي» في طبعته الثالثة، والذي كان قد ألّفه في العشرينات من عمره.

يتميز هذا الكتاب الماتع، فضلًا عن جدارته بالقراءة لانتسابه فقط إلى الأستاذ محمود شاكر، بنظرته الفريدة والمتفحصة إلى واقع المجتمع المصري، بل والعربي والإسلامي. نظرة تحليلية وافرة للهُوية التي أصبح عليها العقل المصري المسلم، بعد عقود على خروج الحملة الفرنسية من مصر، ويسرد الأسباب التي أدت إلى الوصول إلى هذا الحد من الفساد الأدبي والثقافي على حد وصفه.

ففي 24 رسالة، مفهرسة في أعلى الصفحات، يقدم لنا محمود شاكر أحد أهم الكتب التي أثرَّت في الفكر العام في القرن العشرين. وقد نال هذا الكاتب ردود أفعال كبيرة داخل الوسط الثقافي والأدبي المصري وقت صدوره وحتى يومنا هذا، فكثرت المراجعات والمقالات التي تناقش وتعرض أفكار هذا الكتاب، ومنها ما يتفق مع آرائه ومنها ما يخالفها. ونال الأستاذ محمود شاكر جائزة الملك فيصل الدولية على تأليفه لهذا الكتاب، في عمر الـ 80.

ومن خلال قراءتنا للكتاب، نتبيّن الرفض التام للأستاذ محمود شاكر للثقافة المصرية السائدة حينئذ على العموم، فنجده يصر على أن واقع حياتنا الأدبية والثقافية والتعليمية، ما هو إلا نتاج لما يسمى الاستشراق الأوروبي؛ وهذا يبدو جليًا على سبيل المثال في حديث رسولنا صلى الله عليه وسلم، الذي يستشهد به المؤلف في بداية الكتاب: «ألا لاَ يَمنَعَنَّ رجلًا هيبةُ الناسِ، أن يقولَ بحقٍّ إذا عَلِمَه».

التذوق الأدبي في تحصيل الثقافة

يبدأ المؤلف الكتاب بالإشارة إلى منهجه في التذوق، وهو المنهج الذي اعتمد عليه في تكوين معارفه وثقافته، ويوضح كيفية اهتداءه إلى هذا المنهج عن طريق ما يُسميه بـ «ما قبل المنهج»، ويتكون من شطري: «جمع المادة» و«التطبيق»، ويعتبره المنهج الواجب اتباعه كما اتبعه المسلمون والعلماء من قبل. ثم يتناول مثالي الإمام «عبد القاهر الجرجاني» و«وسيبويه»، اللذين اعتمدا على هذا المنهج في تدوين كتبهم وعلومهم. بالإضافة إلى مجموعة من أئمة الإسلام على مدار العصور.

يروي المؤلف أنه رفض كل المناهج الأدبية السائدة وتثبّت من بطلانها، وذلك منذ عامه الأول في كلية الآداب، حيث اختلف مع أستاذه طه حسين، عميد كلية الآداب آنذاك، في قضية انتحال الشعر العربي وعدم ثبوت وجوده، بعدها دخل في عزلة علمية في بيته، وبدأ في سلوك منهجه الخاص الذي يراه هو الأوحد الجدير بالسلوك، فبدأ في قراءة كل ما يقع تحت يديه من الشعر العربي، ثم قراءة الإرث الإسلامي: من تفسير وفقه وأصول فقه وعلم الكلام والنحو والبلاغة، حتى الفلسفة والجغرافيا والطب وعلم الفراسة.

وبدأ في تطبيق منهجه في تذوق الكلام أثناء تحصيله لكل تلك العلوم. لكنه يُشدّد ويُحذِّر من أن هذا المنهج في التذوق بشطريه (جمع المادة والتطبيق) لا يتسنى له التحقق إلا بنمو اللغة والثقافة الخاصة بالإنسان، باعتبارهما وعاء المعارف وثمرتها. وهو ما لا يتحقق إلا عن طريق ثلاثة جوانب مطلوبة في كل مجتمع إنساني، وهي:

  • الإيمان بتلك الثقافة عن طريق القلب والعقل.
  • العمل بها والاعتياد عليها.
  • الانتماء إليها.

واعتبر أن هذين العاملين الأساسيين (اللغة والثقافة) -واللذين لا يتحققان إلا باستيفاء ثلاثة جوانب (الإيمان، والعمل، والانتماء)- هما بمثابة العواصم التي تعصم الإنسان قبل الشروع في مسيرة ما قبل المنهج بشطريه (المادة والتطبيق).

ثم يبدأ المؤلف بعد ذلك في شرح أسباب الخلاف بينه وبين تلك المناهج السائدة، والتي يرى أنها دخيلة على البلاد الإسلامية، بعد أن كان لديها منهج أدبي واحد سائد، مطبوع بالثقافة العربية الإسلامية. وينسب الأستاذ محمود شاكر ذلك إلى الاستشراق الأوروبي الذي توغل إلى البلاد الإسلامية وجردها وفرَّغ أبناءها من ثقافتهم الإسلامية العربية، وصبغهم بثقافته الأوروبية، وهو ما أدى إلى فساد حياتنا الأدبية.

الصراع بين المسيحية والإسلام

بدأت ظاهرة الاستشراق بالتزامن مع عصر اليقظة الأوروبية، وكانت نتيجة لتاريخ طويل من الصراع بين المسيحية الشمالية وديار الإسلام (الحروب الصليبية).

فبعد هزيمة الصليبيين فيما سُمي بالحملة الصليبية الرابعة عام 1291، ثم سقوط القسطنطينية عاصمة المسيحية على يد المسلمين الأتراك (العثمانيين) بقيادة السلطان محمد الفاتح عام 1435، وبعد أن أدرك قادة المسيحية في الشمال من الملوك والرهبان والعلماء أن للمسلمين قوة رادعة في ديارهم، وأن الحرب والسلاح لا تُجدي لهزيمتهم، وانتبهوا إلى أن سر قوة الحضارة الإسلامية يكمن في العلم؛ علم الدنيا والآخرة؛ فدينهم مقنع لكل البشر يدخلونه طوعاً واختياراً، وبلغوا من العلوم والمعارف تقدماً هائلاً، فهنا بدأت ظاهرة الاستشراق وقرر الأوروبيون تحصيل العلم والمعرفة من دار الإسلام وبدأوا بتعلم لسان العرب.

كانت تلك هي فترة اليقظة الأوروبية بعد أن كانت قابعة في الجهل والأمية. وفي المقابل بدأت تظهر الغفلة داخل ديار الإسلام، اغتراراً بهزيمة الصليبيين بعد فتح القسطنطينية، وهنا يُحمِّل الكاتب أبناء الإسلام جانباً من المسئولية على الفساد الذي نحن فيه، بسبب الغفلة والتقصير في العمل على استمرار نهضة حضارتهم الإسلامية.

النهضة الإسلامية

إذن، فالشمال الصليبي حدد هدفه وهو اختراق بلاد المسلمين، ولكن بوسائل غير التي اعتمدوا عليها في حروبهم السابقة وأثبتت فشلها، فتلك المرة ركزوا على الدهاء واستغلال المعارف الإسلامية وتنحية السلاح، عن طريق توغل المستشرقين داخل ديار الإسلام من المغرب وحتى الهند، وبدأت تزداد فاعلية هذه الظاهرة شيئاً فشيئاً، وشرعوا في كتابة الكتب لأبناء أوروبا مدافعين فيها عن أمتهم، ومشوهين لأمة الإسلام.

ووسط هذا الهدوء الذي يعمل فيه الصليبيون، وبعد مرور قرنين على فتح القسطنطينية -أي في القرن الـ 17- نشأ داخل بلاد المسلمين رجال عظماء أحسوا بتهديد على دولة الخلافة العثمانية، فهموا بإيقاظ المسلمين من غفلتهم، وسعوا إلى إصلاح الخلل الواضح في اللغة والعقيدة والثقافة والعلوم، وهو ما سمّاه شاكر بـ عصر النهضة، وقد حصر هؤلاء الرجال في 5 من الأعلام هم: «البغدادي» و«الجبرتي الكبير» في مصر، و«ابن عبد الوهاب» في جزيرة العرب، و«المرتضى الزبيدي» في الهند ومصر، و«الشوكاني» في اليمن. فبدأوا في محاربة البدع وإحياء التراث من لغة وعقيدة وعلوم وألّفوا العديد من الكتب للمسلمين.

ولما كان الاستشراق هو عين الاستعمار الصليبي المسيحي الشمالي، فقد أحسوا بخطر نمو اليقظة الإسلامية، فراحت كبرى دول المسيحية وأقواها آنذاك، إنجلترا وفرنسا، تغزو وتستعمر دول الإسلام، وبدأتها بالهند، فهي بعيدة عن دولة الخلافة (الدولة العثمانية)، والتي كانت مشغولة آنذاك بالحفاظ على مركزها وتماسكها، وأسست إنجلترا هناك شركة الهند البريطانية، ثم تبعتها فرنسا وأنشئت شركة الهند الفرنسية.

الحملة الفرنسية على مصر

أما مصر، فكان المستشرقون فيها عيوناً للاستعمار، حيث حذروا أمتهم من اليقظة الإسلامية، التي بدأت بوادرها بفضل دور الشيخين الزبيدي والبغدادي، فضلًا عن وجود منارة العلم والعلماء آنذاك الجامع الأزهر وأيضًا جامع عمرو بن العاص، فقرر القائد العسكري الفرنسي «نابليون بونابارت» أن يحرك جيشه نحو مصر، مصطحباً معه المستشرقين، ودخلوا الإسكندرية وبدأوا بالتدمير والتخريب؛ وقضوا على المماليك المصرية، وعثوا في الأرض فاسدين، ودخلوا الجامع الأزهر بخيولهم، وعبثوا بالكتب والمجلدات العلمية.

وأبى علماء الازهر أن يقبلوا بمحاولات نابليون في دفعهم إلى جانبه. وبعد رحيل نابليون حلّ محله القائد «كليبر»، الذي لم يقل فساداً وتخريباً عن سابقه، حتى اغتاله شاب أزهري هو «سليمان الحلبي» بطعنة خنجر. ثم خلفه «المنافق الأكبر مينو»، الذي أنصت لنصائح المستشرقين، وأعلن إسلامه تقرباً إلى المصريين. ثم ما لبث أن رحل الفرنسيون عن مصر عام 1801، ورحل معهم المستشرقون، بعد أن كان هدفها -كما يقول المؤلف- وأد اليقظة في عقر دارها، وسرقة الكتب العلمية النفيسة للمسلمين.

الاستشراق وفساد حياتنا الأدبية

لكن «جهاز الاستشراق» -كما يسميه المؤلف- والمتمثل في علماء الحملة الفرنسية، كان هو الجيش الحقيقي للاستعمار، وقد أحدث صدمة ثقافية وحضارية عند الشعب المصري، كان أولها هو إنشاء حكومة من المصريين، واختيار رؤسائها من الأعيان الذين لديهم هيبة عند جموع الشعب، وكان هذا من تدبير كبير المستشرقين «فانتور».

تم إحباط هذه الفكرة، حيث لم ينخدع بها المشايخ ولا أبناء الشعب، بل وردوا عليهم باحتجاجات وثورات، مما أربك الأمور بالنسبة إلى الفرنسيين، وذلك تزامناً مع هزيمتهم في سوريا وطردهم من عكا بواسطة الجيش السوري، فكتب «نابليون» رسالة إلى «كليبر» مفادها أنه سيرسل إليه سفن فرنسية على الشواطئ المصرية لجلاء الحملة الفرنسية، وأمره أن يجمع الآلاف من المماليك المصريين ومن المشايخ كي يعيشون معهم في فرنسا لمدة عام أو اثنين ليتعرّفوا على اللغة والتقاليد الفرنسية، وحينما يعودون إلى مصر يكونوا رأس حربة النفوذ الفرنسي في البلاد.

ويقارن المؤلف في هذا الصدد، بين النص الأصلي لتلك الرسالة التي وصلت إلى كليبر، وبين النص الذي كتبه المؤرخ «عبد الرحمن الرافعي» في كتابه فتح مصر الحديث، ويعيب على الرافعي عبثه وتلاعبه بالرسالة وبألفاظها وبدلالتها بما يخدم أهداف الاستشراق. ويستدل بذلك على حقيقة فساد حياتنا الأدبية.

ويشير شاكر إلى أنه قبل مجيء الحملة، عمل المستشرقون التوغل داخل ديار الإسلام، ليتعرفوا على كل خصائصها ومعالمها، مستغلين في ذلك غفلة أبنائها، والسقوط المفاجئ لهيبة المشايخ عند الأمراء المماليك، حيث ثار المصريون ضد بطش المماليك، وشاركهم في ذلك بعض المشايخ. كل ذلك كان يحدث على مرأى ومسمع المستشرقين الذين سارعوا بتنبيه ساستهم في الشمال إلى ضرورة غزو مصر. ثم بدأوا يقنعون الشعب المصري بأن قدوم الحملة سبّبه تخليص المصريين من بطش وظلم المماليك، ووضع أمور البلاد في أيدي المشايخ والعلماء.

ولمّا جاء نابليون، ألقى منشوره على المصريين، الذي كتبه المستشرقان «فانتور» و«مارسل»، وقضى على المماليك، وهو ما دفع بعض المشايخ لقبول دعوته للعمل في «الديوان» خوفاً على مصير القاهرة التي أصبحت بلا حاكم. فكانت هذه أول زلاتهم. ولكن بعد أن هاج الشعب المصري ضدهم بالثورات والاحتجاجات، وبعد أن أرسل نابليون رسالته إلى كليبر ليأمره بجلاء الحملة وحمل الآلاف من المصريين معه، اختار المشايخ وعلى رأسهم نقيب الأشراف «عمر مكرم» إسناد ولاية مصر إلى محمد علي.

وجد المشايخ أن محمد علي يميل إلى إغراءات المستشرقين وإلى التعاون معهم، فحذروه من ذلك، فبدأ في التخلص منهم ونفى عمر مكرم إلى دمياط، ووعد المستشرقون محمد علي بأن يساعدوه على استقرار حكمه مقابل تنفيذ أهدافهم، فطلبوا منه أن يذهب لقتال الوهابيين فلباهم في الحال، بعد أن كان رفض تنفيذ الطلب نفسه عندما أمرته به الدولة العثمانية.

استغل المستشرقون تلك الفرصة وسعوا إلى تحقيق أهدافهم على يد مسلمين يتم توجيههم؛ فجاءت فكرة البعثات العلمية من جانب عضو المجمع العلمي الفرنسي «مسيو جومار»، والتي رأى شاكر أنها تجسيد لفكرة نابليون في الغزو العلمي والثقافي.

خرجت أولى البعثات إلى فرنسا عام 1826، وتكونت من 44 تلميذاً، وخرج معهم الإمام «رفاعة الطهطاوي» ليؤمهم في الصلوات، وقد كان ذا تربية دينية أزهرية وإماماً واعظاً، فتعلم الفرنسية ودرس العلوم والآداب هناك، ولكن سرعان ما تم استغلاله بواسطة المستشرق المشهور «سلفستر دي ساسي»، وحينما عاد إلى مصر أوعز إلى محمد علي بفكرة إنشاء «مدرسة الألسن»، التي هي فكرة الاستشراق في الأصل، كما يقول المؤلف.

ولم يكن هناك من المصريين من هو أهلاً لتدريس مناهجهها، ولا حتى رفاعة نفسه، فاستقدم المعلمين الأجانب والمستشرقون لتدريسها. وتولوا تعليم وتثقيف 150 تلميذاً، وبدأ هذا الأمر يتفاقم، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه الآن من نقص في ثقافتنا الإسلامية.

وذهب محمد علي، وجاء من بعده أبناؤه، ومع الزمن، انقسم التعليم إلى قسمين، المدراس العامة، والمعاهد الأزهرية، وبدأت الفجوة بينهما تتسع، ومناهجهما تختلف، حتى تم تفريغ المصريين من ثقافتهم الإسلامية تدريجيًا. ثم جاء بعد ذلك الاحتلال الإنجليز، وبدأ الاستشراق الإنجليزي يدمر كل ما أنشأه الفرنسيون، وسعى للتحكم في التعليم المصري، لتحقيق الهدف نفسه وهو تفريغ المصريين المسلمين من ثقافتهم، فأسند أمر وزارة التعليم إلى القسيس «دنلوب» وأصبح السكرتير العام لوزارة المعارف. فبدأ في تفريغ تلاميذ المداس من ثقافتهم الإسلامية، عن طريق مناهج التاريخ واللغات والعلوم الخاصة بالغُزاة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.