كتب إليّ مصطفى بن سليمان الرومي بعد نكبته:

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد. من خلق السماوات وزينها بالكواكب السايرة والنجوم الساهرة، وبسط الأرض وأتقنها بحكمته الباهرة. خلق الإنسان وسوَّاه وعدَّله، وبالعقل الفايق والذهن الرايق جمَّله. نحمده سبحانه على جليل نعمه حمدًا يليق بعزته ذات الجلالة، ما بزغ بدر وأشرقت غزالة[1]. والصلاة والسلام على صاحب النبوة والرسالة، وسلامي إليك وإلى الناس عندك.

وبعد،

خبَّر عني أني بخير. ما أصابني مكروه. نجوت بتدبير من الله، وإن كنت لأهلك نفسي ويُمحى اسمي ورسمي، لولا أن تغمدني الله برحمته، وأنعم عليّ بنعمته، فلم أنسخط حمارًا بذيلين متل ما زعموا، ولم أمت عطشان في الصحرا كيف ما تمنوا، ولم يلحقني بفضل الله أذى، اللهم إلا تدابير الفرار من هَل[2] مدينة وعسسها وناسها.

وما أمسكت عن الكتابة هَل مدة إلا لظروف السفر، فأول ما سنحت لي الفرصة قلت أطمئنك، وأحكي وقايع ما جرى، لأحفظها من دوران الأيام وتحريف الألسنة.

هذا، ولأبدأ حكايتي من الأول، واعذر شتات كلامي فإنني أكتب وما استقر بي المقام بعد.

ذكر نزولي مصر أواخر شعبان سنة ثلاث وعشرين ومائة وألف

دخلت مصر قادمًا من البحر في ثالث عشرينه، بهَل وقت كان والي باشا جديد إجا من حلب وتولى على مصر، وطلع القلعة لا يعرف كوعه من بوعه، والأمر والنهي للغز[3] والأجناد، وكل مملوك أعتقه سيده وطلعت لحيته سوى لروحه حزب ورفع لُو علم. يعني متل ما بيقولوا بجم بتحارب بجم.

المهم أني نزلت على صاحب لي الروح بالروح ساكن بنواحي الأزهر عرفته بالشام أيام الطلب، وهو رجل صالح على مذهبنا، وعنده دكان قرب الجامع فيه من الكتب النادرة ما لا عين رأت ولا خطر بعقل بشر، فقصدته لشراء كتب أرادها شيخي، فاستضافني معززًا مكرمًا في داره، وخلَّى صبيانه تنسخ ما اخترت من النوادر وأمهات الكتب.

وطوال هَل مدة كنت قاعد عنده كواحد من أهل البيت، يوم يصحبني إلى المؤيد وهو إمامه وخطيبه، ويوم نروح لدكانه أقرأ جنبه وهو ينسخ وبعد العشا نمشي لشط النيل نتسامر.

وفي يوم من الأيام كنا ماشيين بنواحي عمارة قايتباي، شفت خياما وصوواين ومطابخ، كان مولد لشيخ اسمه عبد الوهاب بن عبد السلام العفيفي، وهو رجل من أهل العلم والصلاح حسبما قال لي صديقي، كان مستجاب الدعوة، يعيش على الخبز اليابس والدقة، وكانت تجيه الأمرا فيردهم ويفر من صحبتهم. غير أنه بعدما مات أحدث له الناس هذا الموسم ويأتون كل عام من البلاد بحري وقبلي، يجتمع فيه الرجال والنساء وأرباب الملاهي والغوازي فيأكلون ويشربون ويزنون ويلوطون، ويجتمع معهم العلماء والفقها والأمرا والتجار، من غير زجر ولا إنكار، بل يظنون هذا الموسم قربة وعبادة.

ولقينا شيخ كبير من أولاد المتوفى، كان يتبرك بيه الناس، فلما تغافلنا عنه أجانا واحد من دراويشه ووقف قدامنا ويشاور على سيده ويشد على ادينا لنروح معه ونتبرك بسيده ونطوف بالمقام، وكنت من قبل أخفي عن الناس مذهبي متل ما تعلم، فلما ألح الرجل على هذه البدعة، ما ملكت عقلي، فأظهرت مذهب السنة؛ قلت له إن ما يعمله أهل مصر من بناء القباب والأضرحة على القبور والطواف بها كفر بواح يسري عليهم ما يسري على المرتد ولو أرادوا العودة للإسلام لهدَّموا هذه العمارات كلها توبة لله.

نظر إليّ الرجل كمن لدغته حية، وخاف صاحبي من علو صوتي وسحبني من كمي وكان بوده يحشي التراب بفمي وإلا يفتك بينا الدراويش، لكن أنت عارفني، عندما يطلع شي براسي ما أروح قبلما أعمله. وليتني ما عملت وما سرت ورا راسي المعطوبة.

المهم أن الدرويش ظل يعدد كرامات مولاه، وصاحبي مكتفني كالمصروع، قال إنه لما خطب الأئمة والفقها على المنابر إن يوم القيامة يوم الجمعة، ساد الهرج والمرج وداخل الناس الحزن والخوف، فراحوا يتحمموا بالنيل ويصلوا ويدعوا، ثم إن سيدهم عبد الوهاب هذا تشفع عند الله فأجل لهم الساعة. وأنه عرج إلى السماء واطلع على اللوح المحفوظ ويعلم ما فيه. وقتها غبت عن صاحبي وربنا أتاني قوة حليت نفسي منه، ورديت بكلام شيخي إنه اللوح المحفوظ عند الله تبارك وتعالى، وفيه مفاتح الغيب، فكيف يكون اللوح محفوظا ويطلع سيدكم عليه!

لو قلت لك ياخي كيف طقت عيونهم شرار لا تصدقني، لكن يكفي أقولك إن صاحبي حملني متل الصبيان وجرى بي وقال ممسوس ياخواننا ممسوس يا اخواننا، وأنا أرغي وأزبد وأسب الدراويش بالرومي ويسبوني بالعربي ويرموني بالحجارة حتى غبت عن ناظريهم وجرى بي صاحبي في الطرقات.

فصل فيما حدث ليلة عاشر رمضان بعد صلاة القيام

بت ليلتي وصاحبي يولول كيف النسوان على ما عملته مع الدراويش، وقال لي من يوم ورايح رجلي على رجلك من البيت للدكان ومن الدكان للبيت، لا لف ولا دوران خلال ما تنقضي المصلحة. فلم أملك إلا مجاراته خوفًا عليه من الأذى وقطع الأرزاق، وهو شيخ المؤيد وخطيبه والشيوخ والأمرا يشترون كتبهم من دكانه.

بعدها بيومين كنا نصلي العشا في المؤيد، لقاني رجل رومي لا أعرفه، سلَّم علي وقال إنه رآني يوم مولد سيدي عبد الوهاب، خفت منه يكون من الدراويش لكن الرجل قعد يسب في الدروشة والدراويش وأولاد العرب، وراح يسألني عن تفصيل مذهبي وما قلت للدرويش، فبينت له وفصلت، وصار يتمشى معي وصاحبي للبيت، وصاحبي مفارقنا بخطوتين حتى لا يحسبه أحد عليا لو حصل شي.

ليلتها أتاني الله فصاحة وبلاغة ياخي كأن شيخي يتحدث من خلالي، وما كنت عالم إن هَل بلاغة بتقصف الرقبة! لأنه بعدها بيوم بعدما صلينا القيام، اجاني الرومي ومعه أصحابه من رواق الأتراك في الأزهر ووقفوا يسألوني وأجيبهم فأظهرت غالب ما كنت أخفيه وأبنت عن مذهبي بعدما كنت أتلطف فيه.

وياليتني ما عملت هَل العملة، فكأن الرومي انجذب ولقيته يصفق بكفيه ثلاثا، فانتبه الناس، فنادى يا ناس اسمعوا لشيخ حكيم عارف من بلاد الروم، أجلسوني فوق شلتة وظهري مستند لعامود، فإذا بالناس يتوافدون. منهم من يطرح السلام ثم يقرفص، ومنهم من ينحني يلثم يدي احتراما فأزجره خجلا، والحلقة وراء الحلقة تتشكل. والقناديل منورة بالفناء الفسيح.

راحوا القوم يسألوني عن الولاية والأوليا وكل هَل سيرة، وأنا أجاوب. مرة أفصح ومرة يغلبني لساني، فيلمزني المعممون منهم، ثم يقولون رومي لكن ما أفصحه! فلما فرغت من الكلام وأجبتهم عن مسائلهم انصرفوا راضين مستبشرين، فكان آخر بشر ورضا وما كنت عارف يومها ياخي إن اللي أوله شتم آخره لطم!

فصل في بداية النازلة

ثاني يوم بالمؤيد وأنا داخل شفت وشوشا ما شفت متلها من قبل، عارف حين تنظر لواحد فتلقى مكتوب على جبينه «أنا بصاص»؟ البصاصون هنا بجم متل أهل البلد كلهم، سيماهم على وجوههم. وفوق البصاصين كان خلق كثير، ما وسعهم الجامع ففرشوا الشوارع.

أربكني خاطر أن هذه الخلق لم تأت لسماع صوت صاحبي الموجود دوما، وهو ياللي ادعى المرض وتوعك ببيته حتى لا يلزمه أحد بشي، وإنما إجو يسمعون الواعظ الرومي الجديد، وشردت طوال الصلاة أقلب الكلام براسي، وأتدبر ما أقول لهم.

لما جلست للوعظ سأل سائل: ما صحة قول الشعراني في طبقاته إن بعض الأولياء اطلعوا على اللوح المحفوظ؟

قلت: يعني كيف يكون محفوظًا ويكونوا اطلعوا عليه؟

فضحكوا، وسبحان الله أن الكلام اللي يضحك اليوم جابلي رمي الحجارة بالأمس، وهو ما شجعني وخلاني أطلق الكلام الذي أردت قوله، صواعق مرسلة، فزدت على ما قلته قبل أن ما يحدث عند باب زويلة في ليالي رمضان من وقوف الفقرا ضارعين طالبين المدد من غير الله هو كفر بواح، والجوخ والأكر المعلقة بالباب كلها رجس وشرك.

فلما فرغت من كلامي هذا لقيت وجوههم كواها الغضب، مسهم ما مس الرومي من يومين، وخرجوا من الجامع تيوس هايجة، فوقفوا عند باب زويلة قابضين على نبابيتهم وسلاحهم وصرفوا الفقرا الجالسين بصفع النبوت على الأرض، فلما هربوا قطعوا الجوخ والأكر وراحوا يدوسونها بأقدامهم وهم يكبرون، ويصرخون في الأولياء الغائبين أن يمنعوهم إن كانوا يقدرون، وأنا وسط كل هذا أتنقل كالممسوس وأزعق فيهم ليرموا السلاح وينصرفوا، وقلبي يملأه الرعب أن تقع فجيعة، أنا غلطان أني خطبت في هَل البجم، ياربي إيش ساويت بروحي؟

حاشية هي نص كلام كبار المشايخ والعلماء في قضية اللوح المحفوظ

(الحاشية فارغة فأحسب أن مصطفى أرجأ كتابتها لحين انتهائه من الرسالة ثم نسيها).

ذكر قيام الدنيا وقعودها في الأيام التالية

قبلما تبدأ جلسة الوعظ الثالثة قعد إلى جواري ثلاثة ممن حضروا الجلستين الفائتتين، وأبلغوني بما جرى بين عشية وضحاها.

بتفتكر لما قلت لك إن فيه بصاصين بين الناس؟ الكلام اللي قلته كله انتقل بالحرف لعلماء الغبرة بالأزهر، فكتبوا فتوى ردًا على كلامي تقطع بجهلي، وقالوا إن إنكاري على الأولياء كراماتهم، من اطلاع على اللوح وغيرها هو أمر لا يصح لرجل عالم، وأنه يجب على الحاكم زجري عن الوعظ وإفساد عقول الناس.

أنا طبعًا لما سمعت هذا تغير لوني، وغضبت غضبًا شديدًا، حتى أني هبدت كوب اللبن ونطرت صحن الفطور اللي جابوه الناس، فانكسر بصحن المسجد، فالتم الناس جزعين، فقلت لهم ما جرى، وركبني شعور أمير يخطب في جنده، فقلت: من أراد أن ينصر الحق فليتبعني إلى بيت قاضي العسكر!

قلت ذلك وأنا حتى ما أعرف وينه بيت قاضي العسكر هذا؟

لكن التيوس حملتني. ألف نفس أو يزيد، والناس في الشوارع لما رأوا هَل المنظر ركبهم الخوف وغلقوا الدكاكين والوكايل خوفًا مما يقع.

وصلنا بيت القاضي قرب العصر، ولم يطرق أحد الباب، بل دقوه بالقبضات دقة واحدة فانطرح، فإذا بنا بين القاضي ونسوانه وعياله، والكل مذهول.

لما أفاق القاضي من ذهوله استفسر عما يجري، فقلت له كل شي من أوله إلى آخره، فاستأذنني في الانصراف بحزبي كي لا تقع حوادث وخيمة، على أن يحضر هو أصحاب هذه الفتوى ويسوي الحكاية. فقال الرجال ما نروح من هنا حتى تحطلنا موعد يناظر فيه شيخنا الشيخ النفري والخلفاوي وتكتب لهم بيورلديا[4] بذلك وتختم عليه، فاصفر وجه الرجل الغلبان، وقال إن وقت العمل انقضى، والشهود اللازمين لهذه التدابير انصرفوا، فهاج الناس وأيقن القاضي بالهلاك لو بقى ففر مع حريمه من الدار، تاركا نائبه المسكين بيننا يوسعه الممسوسون ضربا، وقالوا نخليه يكتب لنا موعدا للمناظرة ويختم عليها بختم قاضيه، وأنا أسمعهم كأن غيري هو الذي حرض الناس في المؤيد وشق بهم البلد وهجم على بيت القاضي وطرده.

ووجدتني أقول: لا مناظرة ولا غيره، بل يكتب حجة ببطلان كلامهم من أصله، وبمنعهم من الخطابة في الناس لأنهم تيوس وعقولهم فارغة، فصاح الناس وكبروا. أنا مو فاكر فعلًا كيف عملت هَل العملة، وكيف أريد أن أقول الحاجة ثم أقول عكسها، يا ربي كيف ينقلب المرء من غير ما يدري؟

تتمة ما جرى في هذه الليلة

من نقل الكلام من الديوان قال إنه بينما الباشا قاعد صحبة كتخدا الينكجرية وكتخدا العزب وهم في حال من النقاش والتخطيط، دهمهم دخول قاضي العسكر في صورة مزرية، لابس لباس النوم، وشعره الأبيض منكوش فوق راسه. الباشا تعجب وقال: إيش جايبك في غير وقتك وأنت على هَل حال؟

فحكى القاضي ما جرى من أوله لآخره، ففكر الباشا قليلًا، ثم أرسل بيورلديا إلى قيطاس بك الدفتردار يخبره بما يقع من العامة، بينما أمر كتخدا[5] الينكجرية وكتخدا العزب بطلب جامع المؤيد ليسألوا الناس عن مرادهم.

في هَل وقت كنا قاعدين بباب الجامع نترقب، ونظرنا أمامنا فإذا بالرجال مقبلين، كتخدا الينجكرية فوق حصان أسود، وكتخدا العزب فوق واحد أبيض، والعساكر حولهم. أنا لا أخفي عنك يا صاحبي، قلبي كاد ينخلع، والمصائر السوداء تدور براسي، يعني بسببي أنا وحزبي الكتخدائين تاركين أشغالهم ونازلين يستطلعوا أمري؟ أنا ما عدت فاهم حاجة؟

والكتخدا صاح وشاربه المبروم يهتز فوق فمه: ما حكايتكم؟

فكأنما انسخطت الجيوش الجرارة حميرا تُركب، ارتجف الرجال، وقالوا إن مالهم طلب إلا أن يحضر الكتخدا الشيخ أحمد النفراوي والشيخ الخليفي، لأنهم أفتوا بقتل شيخنا الرومي الفهيم، ومرادهم أن يعرفوا سبب هذه الفتوى.

والله العظيم! يعني بعدما كنا سنغزوهم بسلاحنا ونقطع رؤوسهم فوق المنابر ونقول كلامنا، صاروا يريدون معرفة السبب قبلما تطير راسي؟

قال الكتخدا: وبعدما أحضرهم؟

لم ترد الحمير المسخوطة فظنها الكتخدا إصرارًا على المرابطة بالباب.

هز الكتخدا الثاني راسه وقال لكم ما تريدون، وأعطانا بيورلديا من الباشا على مرادنا، وانصرفوا.

فأول ما انصرفوا والغبار الكثيف في أعقابهم، ركبني هذا العفريت الذي يتحدث من خلالي ويجعلني غير واع لما أقول وأفعل، فقلت لهم إن الباشا هذا نعجة لا وزن لكلامه أو بيورديلاته، ولا أمان علينا ما دام القرار لم يطلع من قيطاس الدفتردار[6] وباقي الصناجق.

انتابهم جميعا القلق، وقالوا نكمن هنا ليلتنا هذه، وأول ما يطلع الصبح نطلب بيت القاضي ونعرض عليه البيورلدي ليرسل في إحضارهم.

أنا كنت عارف أن هَل موضوع أخرته سوداء، وحاولت أن أنبه العفريت الذي عليّ دونما جدوى، عفريت هذا أم تيس؟

المهم أنني شعرت بدوار بعدما انتصف الليل، فقلت أبيت عند صاحبي وأعود في الصباح. طبعًا أنت عارف أنه لولا دوار راسي ما مشيت ولا خليت إخواني وحدهم في قلب المعمعة، أنا لو علي أقعد معهم ويمشي عليّ ما يمشي عليهم، لكني لم أملك راسي، ورحت لصاحبي يطببني بالليل منشان أعود لحزبي بكير.

كيف لم يطلع صبح اليوم التالي من أصله؟

بكير يا صاحبي، لم تطلع الشمس. أو لو أنصفنا لم تطلع شمس على جامع المؤيد. أزيد من ألفين من الجاويشية[7] والأغا فوقهم، كانوا لابدين بالحارات طول الليل، فأول ما بلغتهم الإشارة طلعوا على المؤيد كلاب سعرانة ماسكين النبابيت، فكل من لاقوه بائتا بالجامع ضربوه وأعدموه العافية، ومن قاوم قبضوا عليه وأرسلوه إلى باب الأغا، فمن قاوم قتلوه أمام الناس بالشارع، فارتعد الخلق وفروا ولبدوا ببيوتهم وقفلوا عليهم الشبابيك والأبواب، وطُوق المؤيد بالعسكر فكل من قصده أمسكوه وأرسلوه إلى باب الأغا يعذبونه. يا ربي كل هذا بسبب التيس الذي ركبني؟ هل صارت التيوس تركب الناس بدل العفاريت؟

أما أنا فنجوت بفضل من الله وتدبير من صاحبي. لما بلغنا خبر ما يجري بالمؤيد استطلع صاحبي الحال حوالين البيت، ثم قال لي أنا آسف ياخي، ليس قدامنا غير هذا، فألبسني لباس حريمه وأنا مذهول، وطلعنا بالليل كل واحد فوق حمار، ثم دبر أمري مع جماعة مسافرين رحل ما سألوني عن شيء طوال الطريق.

أراض تنشال وأراض تنحط من تحتي لحتى خرجت بحول الله من بلدهم، وأنا في زي الحريم، تصور يا صاحبي؟ بعدما كنت الشيخ الحكيم الذي يستظل بهديه أهرب في البلاد في صورة مَرَة؟ حكمة الله وما عندي اعتراض والحمد لله الذي نجاني من القوم الظالمين.

أنا ما يكاد يشج راسي حاجة واحدة؛ بعدما هدأت الدنيا واتنست الحكاية، بلغني أن نفر من حزبي قالوا إنهم رأوني، في هذا اليوم المشئوم، وقد نبتت لي من فوق الكتفين أجنحة، وطرت فوق السحاب راجعًا إلى بلادي، وقيل إنني قتلت بسيف غادر، فلما واراني التراب طلع فوق قبري شجرة ظلها كأنه الجنة، ومن الناس من يزور الشجرة سرًا ويرويها تقربًا وطلبًا للعون!

يعني أنا كنت أعظ بقرا؟ طلع لي أجنحة وطلعت فوقي شجرة، وبقيت وليا؟ والله يا صاحبي أنا نادم على نزولي بهَل بلاد، ونادم على جلوسي للوعظ في تيوس لا فائدة من ورائهم. والحمد لله الذي نجاني، والسلام عليك.


[1] الشمس.[2] هذه المدينة بالعامية الشامية.[3] الترك.[4] الأمر المكتوب الصادر من الوالي.[5] لقب يطلقه الترك على الموظف أو المسئول الكبير، والينكجرية، أو الإنشكارية، والعزب من الفرق العسكرية السبعة التي رتبها العثمانيون للوجود في مصر.[6] الدفتردار هو المسئول عن الأمور المالية، والصنجق بمعنى لواء في التقسيم الإداري العثماني، ويراد بالصناجق هنا قادة هذه الألوية.[7] من الفرق العسكرية السبعة في مصر العثمانية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.