1. رسائل شوق

في زمن ما قبل مدريد، كانت الإذاعة الأردنية تبث برنامجًا اسمه «رسائل شوق». وكان البرنامج وعاء لتكثيف معاني الأمل والكآبة في آن معًا. الأمل، حين تتمكن حليمة في الزرقاء من إعلام أهلها في البيرة أنها أنجبت طفلًا اسمه إياد، والكآبة في أن الشعب الفلسطيني مضطر إلى مثل هذا التواصل عبر الأثير، بسبب همجية الاحتلال. لكن جاءت مدريد وانتهى البرنامج (على ذمة من سمع): «كانت النهاية على نحو سوريالي، بحلقة احتفالية اشترك فيها فريق البرنامج مع إعلاميين صهاينة. كأن القوم كانوا ممثلين في مسرحية «ريا وسكينة»، ويخرج المجرم حسب الله (عبدالمنعم مدبولي) لتحية الجمهور، ويده في يد الضابط المخدوع عبدالعال (أحمد بدير)».


2. الحارث بن عباد وحرب البسوس

كان الحارث بن عباد من حكماء قبيلة بكر وزعيمًا لإحدى عشائرها، وكان قد نأى بنفسه عن حرب البسوس المشهورة بين بكر وتغلب، والتي تفجرت إثر مقتل كليب بن وائل على يد جساس البكري. فلما قُتل جساس وهمام ابنا مرة (رأسا بكر وعلماها في الحرب مع تغلب) أرسل الحارث ابنه بجيرا في مهمة دبلوماسية غير تقليدية، إلى المهلهل شقيق كليب وزعيم تغلب، حاملًا له رسالة تقول:

فلما وقف المهلهل على كتاب الحارث أخذ بجيرا فقتله، وقال: «بؤ بشسع نعل كليب» (شسع النعل: ما يشد زمامها). فلما سمع الحارث بقتل ابنه ظن أنه قد قتل بكليب، ليصلح بين الحيين، فقال: «نعم القتيل قتيل أصلح بين ابني وائل» (جد تغلب وبكر معًا). فقيل له: «بل قُتل بشسع نعل كليب». فغضب عندها الحارث بن عباد غضبًا شديدًا، وحَمِيَ، فأتوه بفرسه النعامة (وقال قصيدة مشهورة عرفت باسم فرسه هذه) وولي أمر بكر، وشهد حربهم، وانتهت حرب البسوس بانتصار بكر بقيادة الحارث بن عباد انتصارًا كاسحًا، وسَحْق تغلب، وإذلال المهلهل.


3. في اللهفة على نتنياهو والتزلف للكيان

يحظى نتنياهو بإعجاب واهتمام رجال السياسة في الحزبين الأمريكيين (تحديدًا في الجناح المؤسسسي التقليدي في الحزب الديمقراطي، وفي كل الأجنحة والمعسكرات في الحزب الجمهوري)، ويمكن التدليل على هذا الإعجاب بوسائل شتى، أحدها كمي؛ ويتعلق بعدد مرات التصفيق وقوفًا لنتنياهو – حد مقاطعة الخطاب ووقفه – حين يخطب في الكونغرس. في حقيقة الأمر، يتحلى الزعيم الصهيوني ببلاغة سمسار عقارات مشبوه مشكوك في ذمته، أو فصاحة مقدم برنامج اجتماعي تافه، من البرامج التي تنتج لملء ساعات البث في الأوقات الهامشية، لكن يمكن لنتنياهو أن يكون واثقًا من تحصيل الـ Standing ovation ما أحب ذلك، لأن ساسة أمريكا في الإجمال خاضعون لقهر أموال المتبرعين الصهاينة، ويملكون من مخزون الاستقامة ما اصطلح على تعريفه في الرياضيات بالرقم: صفر.

ويبدو أن عدوى التقرب إلى نتنياهو زلفى – طمعًا في رضا الآلهة – قد استشرت في أوساط الأنظمة العربية. لا أتحدث هنا عن المؤامرات الظاهرة والباطنة، والقديمة والجديدة، للتواطؤ مع الصهاينة – فذلك موضوع يطول بحثه ولا جديد فيه – لكن أقصد استفحال ظاهرة التزلف للصهاينة، لتحقيق أغراض هذه الأنظمة الفاشلة والعاجزة. وكأي ظاهرة غريبة تفد للبلاد عندنا، فإن المعنيين الذين يصح فيهم قول الشاعر:

ذهب الذين يعاش في أكنافهم ** وبقيت في خلف كجلد الأجرب

المعنيون هؤلاء يحرصون على تبني ظاهرة حب نتنياهو والصهاينة بكل فجاجة، والانكباب عليه بأسلوب معيب لا تتسلل له المروءة من بين يديه ولا من خلفه، وعلى طريقة «إن سرقت فاسرق جملًا، وإن أردت استخدام تل أبيب جسرًا لحماية النظام، فاستخذ بلا حدود». هل عندك صاحب عرش لا وريث له، ويؤرق بلاطه وشلل المنتفعين والمرتزقة حولهم أن العهد لا ولي له، وأن المستقبل مظلم وحاله حالك بانتظار أن يزور ملك الموت البلاط العامر؟ عليك بنتنياهو ضيفًا، وأرسل من يزوره ويبذل له الود باسم صاحب الجلالة. ولا عليك لو افتضح أمر الرسول – كان الإعلاميون الصهاينة بانتظار وزير البلاط عند الباب السري الذي أراد أن يلج منه إلى مكتب الحبيب نتنياهو – فلا على العاشق من حرج، بل كل حرج يهون في سبيل تأمين مستقبل القصر. أليس في ذلك البلاط من رجل رشيد؟ ما من أحد فيه يهتدي للحل الخلاق الذي وصل له بلاط آخر في المغرب العربي، فيستمر صاحب البلاط (وشلته) في الحكم، حتى لو أكلت دابة الأرض منسأته بل حتى لو أكلت قدميه وساقيه؟ عجيب أمر مستشاري هذا البلاط المترهل الكسول العاجزين عن الإبداع.

أما إن كان عندك سياسيون انتهازيون، في نصف دولة تريد حكومتها أن تعتذر عن شبهة الشرف، وتحب أن تتنصل بطريقة عملية من تهمة الانسجام مع الإسلاميين والأشواق القومية للشعب العربي، فابعث من يحبس مجموعة من الفلسطينيين، وأوعز للقضاء – الشامخ النزيه بطبيعة الحال – ليأمر بإطالة سجنهم بتهمة الإرهاب، وأرسل الركبان إلى حيث يمكن لنتنياهو، وأصدقائه، أن يلاحظوا أن ليل القوم طويل، لأنهم مسهدون مذهولون في حب الصهاينة.

ثم هناك النشيد الوطني «الإسرائيلي»، والتولع الزائد بعزف موسيقاه وإنشاد كلماته في عواصم بعض القبائل العربية. كان يقال أن «دبلوماسية الرياضة» استخدمت – من خلال لعبة كرة الطاولة – لكسر الحواجز بين الصين والولايات المتحدة، لكن الحديث عن «دبلوماسية» وغير ذلك من المفاهيم المركبة، ونحن بصدد تفكيك وفهم سلوك أنظمة عربية تجاه الكيان الصهيوني هو من الحمق المحض، والتضليل الذاتي المتعمد، مع سابق الإصرار والترصد. اكتشفت هذه الأنظمة عشقًا متأخرًا للرياضة وتنظيم البطولات (مع تنافس داحسي-غبرائي في الظفر بتنظيمها بين أبناء العمومة من الأمراء) وترافق هذا الاكتشاف مع جندية فائقة في الحرص على عزف النشيد الوطني «الإسرائيلي» (يهيأ لي أنهم يتجاوزون الحد في تلفيق الأحداث، لضمان تأهل الفريق «الإسرائيلي»، ليقدروا على إرسال رسالة الشوق تلك لنتنياهو) ثم هم يتركون للقوة الناعمة – ونعني هنا الإعلاميين والمثقفين المسجلين على كشوف رواتب الأنظمة المعنية – مهمة المجاهرة بالمعصية والتبجح بها، أو التهوين منها وتبريرها ووضعها في سياق ما مقبول وعقلاني، على ما يهيئ لهؤلاء ضلالهم وخبالهم.


4. قصيدة الحارث بن عباد في إعلان الحرب ثأرًا لبجير

وكان مما قاله الحارث بن عباد معلنًا الحرب على تغلب ثأرًا لابنه بجير:

قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي ** لَقِحَت حَربُ وائِلٍ عَن حِيالِ[1] قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي ** لَيـسَ قَولي يرادُ لَكِن فعالي قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي ** جَـدَّ نَوحُ النِساءِ بِالإِعوالِ[2] قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي ** لِلسُّرى وَالغُـدُوِّ وَالآصالِ قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي ** طالَ لَيلي عَلى اللَيالي الطِوالِ قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي ** لِاِعتِناقِ الأَبـطالِ بِالأَبطالِ قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي ** وَاِعـدِلا عَن مَقالَةِ الجُهَّالِ قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي ** لَيسَ قَلبي عَنِ القِتالِ بِسالِ قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي ** كُلَّما هَبَّ ريحُ ذَيلِ الشَمالِ قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي ** لِبُجَيرٍ مُفَكِّكِ الأَغـلالِ قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي ** لِكَـريمٍ مُتَوَّجٍ بِالجَمـالِ قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي ** لِبُجَيرٍ فـداهُ عَمِّي وَخالي​ قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي ** لا نَبيعُ الرِجالَ بَيعَ النِعالِ

5. خاتمة

إنك قد أسرفت في القتل، وأدركت ثأرك سوى ما قتلت من بكر
وقد أرسلت ابني إليك، فإما قتلته بأخيك وأصلحت بين الحيين، وإما أطلقته وأصلحت ذات البين، فقد مضى من الحيين في هذه الحروب من كان بقاؤه خيرًا لنا ولكم.
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي ** لا نَبيعُ الرِجالَ بَيعَ النِعالِ

لن ينتهي التاريخ هكذا وفق سيناريو أعده الأوغاد ويمثل فيه السفلة. يومًا ما سيقول قائلون: «قَرِّبا مربط النعامة مني»، لعلها «تترفش» في بطون من باعوا الرجال والأطفال والنساء والأوطان والقدس والأقصى وفلسطين، بالنعال. وسيكون هؤلاء الأبطال فرسانًا صناديد يعربيين من جنس الحارث بن عباد. ولن تغني عن أصحاب العروش حينها الأموال والبطولات والأناشيد.


[1] استعارة بلاغية تشير إلى أنه قرر أخيرًا خوض الحرب – في صف بكر ضد تغلب – بعد سنوات من الامتناع عن الاشتراك فيها؛ فكأن الحرب ناقة تأخر حملها طويلًا، ثم هي في النهاية حملت.[2] إعوال: البكاء مع الصياح.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.