في محاولة بائسة جدًا، حاول الاتحاد الأرجنتيني لكرة القدم جمع كافة أطياف الشعب خلف منتخب بلاده، دون النظر للمقارنات غير المفيدة بالمرة. تم تعيين المدير الفني -عديم الخبرة- «مارادونا» على رأس الجهاز الفني للفريق الذي يعتمد قوامه بالكامل على النجم «ليونيل ميسي»، تحديدًا في عام 2008. عاش من حينها المدرب أوقات مليئة بالمرح في التدريبات بشكل يكسر نمط الرسمية المعتاد في المحافل الدولية.

في يوم 4 نوفمبر من عام 2008، أصبح مارادونا مدرب الأرجنتين الجديد. لقد نال العديد من التدريبات الشيقة والمثيرة للاهتمام.

قبل لقاء الافتتاح لكأس العالم عام 2010، توسلت بنات المدير الفني لوالدهن من أجل التخلي عن أسلوبه المُعتاد: بملابسه الرياضية، وهيئته غير المنمقة، وشعره غير المُرتب المضاف إلى لحية شعثاء. فَالحدث استثنائي: الأرجنتينيين في المقدمة، ومن خلفهم العالم أجمع، ينتظرون ليشاهدوا الثنائية الأبرز في تاريخ الأرجنتين فوق أرض واحدة، حتى لو فصل بينهما خط التماس، لكن كليهما يسعى لأن تحمل أيديهما كأس العالم مرة أخرى، بعد تلك التي ساعدت فيها «يد الإله»، لذا استمع «دييجو» للنصيحة، وَوضع ربطة عنق على بدلة مكتملة الأجزاء. 

من الرؤية الأولى للمشهد، ستشعر أن مارادونا يبدو كالأبله، الذي يقوم بشيء لن يمكنه فعله أبدًا. ولم يكن ذلك السبب الوحيد في أن تفشل الحيلة التي سعى لها الاتحاد الأرجنتيني مع معظم الجماهير، حيث لم يروا في ميسي ذلك البطل الذي سيقود بلادهم نحو اللقب، بل مال أغلبهم لوضع آخرين في ذلك الدور، كـ«كارلوس تيفيز»، بدلًا منه.

اهتمت صحيفة «نيويورك تايمز» بمعرفة السبب وراء ذلك، فأجابهم «كريستيان سكاربيتا»، وهو مشجع أرجنتيني تواجد في جنوب أفريقيا خلف منتخبه في كأس العالم: «ميسي جيد، لكن الأمر يستلزم روح تيفيز ليجلب المجد للمجموعة بالكامل»، يكمن الأمر كله في الروح.

براءة مارادونا

قد يبدو للوهلة الأولى أن اختيار ذلك المشجع لتيفيز اختيار عشوائي فردي غير قائم على أساس، لكن الحقيقة بالكامل تكمن في أن جماهير الأرجنتين تفضل أي لاعب عاش معاناتهم، عن ميسي. أي شخص بالمعنى الحرفي، عاش في الظروف المعدومة غير الآدمية التي عاشها معظمهم، يرونه أفضل من ميسي كقائد ومحب لمنتخب بلاده، حتى لو استمر ليونيل في التسجيل لمئة مباراة متتالية.

يتحدث الجميع عن الشخصية القيادية وليس الأداء، ينظر كل أرجنتيني إلى نجمهم القائم في كتالونيا بعين الفخر، طالما يرتدي زي برشلونة، لكن بمجرد تحول ذلك الزي إلى قميص التانجو، يبدأ الشعور بالاختلاف. يعتقد بعضهم أن ذلك بسبب كونه ليس أرجنتينيًا بالكامل -نصف إسباني ونصف أرجنتيني.

ضرب «سيباستيان م. سايج»، العالم السياسي الأرجنتيني بجامعة كاليفورنيا، مثلًا في تلك المُعضلة، بحب مواطنيه لشخصيات مثل «إيفا بيرون» و«تشي جيفارا» بكل ما فيهما من تقلبات واضطرابات نفسية وشخصية. وحسب وصف «سايج»، فإن تقلبات مارادونا الشخصية بالتحديد، تعكس بطريقة ما الاضطرابات السياسية والاقتصادية في بلاده، والتي عاشها خلال حياته، وهو ما لم يُظهره ميسي على الإطلاق.

قبل بطولة كأس العالم 2010، والتي كان دييجو على رأس الجهاز الفني فيها، أعلن أنه لو فاز بتلك البطولة سيتخلى عن ربطة العنق والزي الرسمي، وسيركض عاريًا في شوارع «بوينس آيرس»، من ورائه أكد «سيباستيان» أن أحدًا لن يلوم مارادونا لو فعل ذلك، وفي حال قام بذلك التصرف الجنوني، فإن الكثير من المشجعين سيتبعونه، السؤال الحقيقي الآن: هل سيكون ميسي ضمن هؤلاء الراكضين دون ملابس؟

بعيدًا عن كرة القدم

أجرت مجلة «Business Insider» بحثًا حول ماهية الأسباب التي تجعل أمريكا اللاتينية تحتوي على النسبة الأكبر من العنف حول العالم. كان أحد هذه الأسباب، والتي تلخصت في 10 أسباب، هو عيش معظم سكان تلك القارة في مجموعات غير متحضرة بالمرة، فمن غير الطبيعي شعورهم بالانتماء لأي شخص لا يشاركهم نفس الطبيعة الحياتية.

يقول «آرثر آرون»، عالم النفس الذي درس العلاقات الشخصية لعقود من الزمان، أنه إذا قمنا برسم دماغ أحد المشجعين أثناء مشاهدتهم لفريقهم أو لاعبهم المفضل، فإننا نتوقع أن نجد استجابة مماثلة لتلك التي ستظهر إذا كان المشجع ينظر إلى صورة لقرينه المتطابق تمامًا.

وبعيدًا عن داء الإدمان الذي قد أصاب مارادونا، وأن في ذلك تشابهًا قد يُفضله نوع معين من الجماهير هُناك، لشعورهم بطبيعية سقوط النجم الكبير في الخطأ مثلهم تمامًا، إن كانوا يرون ذلك خطأ في الأساس، فإن لنجم كأس العالم 1986 وقائع أخرى تُشير إلى مدى تقارب فكره مع بني جلدته.

فمن ينسى واقعة إطلاقه النار على بعض المراسلين الصحفيين أثناء كان لاعبًا؟ أو حينما دهس أحد المراسلين بسيارته ثم وجه له اللعنات؟ كانت الواقعة الأخيرة في سن ليست صغيرة بالنسبة لمارادونا، أي كان عاقلًا ما يفعل فعلًا.

مضافًا إلى ذلك، أن الجماهير الأرجنتينية تعتقد أن ميسي ليس قويًا بدنيًا بالشكل الكافي، يعتقدون أن مارادونا كان يتحمل ضربات أكثر من أجل الوصول لهدف. لا تروق لهم الكرة في شكلها الحديث بالكامل، حيث يعتقدون أن الحكام الآن يحمون اللاعبين من أشياء يُفضلونها هم جدًا.

عقب واقعة العُنف التي تأجل على إثرها نهائي بطولة «كوبا ليبرتادورس» عام 2018، بين أكبر ناديين في الأرجنتين، ريفر بليت وبوكا جونيورز، قال عضو جمعية «دعونا ننقذ كرة القدم – Salvemos al Futbol» لوكالة «فرانس 24 برس» إن ما يتم تجاهله هو أن هناك ثقافة كرة قدم مختلفة في الأرجنتين، يعتبر فيها العنف شرعيًا، ليس فقط من قبل مثيري الشغب من الجماهير، لكن من قبل جميع القطاعات المشاركة في اللعبة.

ميسي يوجه اللكمات

في الولايات المتحدة الأمريكية كاتب يُدعى «تشاك بولانيك»، كتب في روايته «نادي القتال»، عن نوع مُعين من العنف موجود تقريبًا داخل شخصية كل الذكور . وهنا العنف ناتج عن قتال بغير هدف ممارسة الإيذاء العلني أو البلطجة في الشوارع، لكن العنف في الرواية يُعاد تعريفه بشكل مختلف.

قدم الأديب الأمريكي بطل روايته بدون اسم، من أجل تعميم الحالة على مجتمع الذكور بالكامل. وقد رسم شخصيته مصابًا بالأرق والوحدة، وتمكن بشكل درامي نادر أن يربط بين الحالة النفسية والضغوطات المُجتمعية من جهة، وبين العنف والقتال ومفهوم الذكورية من جهة أخرى.

أنت رجل فعليك أن تخوض معارك، ابتعد عن المعارك الحياتية الخاسرة، المعارك يجب أن تكون جسدية بالأساس.
رواية نادي القتال للكاتب «تشاك بولانيك».

يقول بولانيك إن ما يحدث داخل النادي الافتراضي الذي صنعه في خيال روايته، يساعد الرجال على المُضي قُدمًا في حيواتهم الطبيعية، إعمالًا بقاعدة يرى الكاتب أنها حقيقية في مُجتمع الذُكور ألا وهي: خُض معاركك وكُن رجلًا.

يمكن ربط الحالة النفسية الناتجة عن ضغوط المجتمع والتي خاضها بطل رواية بولانيك، وبين الحالة التي عاشها ليونيل ميسي نتيجة مقارنته بمارادونا. أكد ليو مرارًا أن تلك المقارنة قد عرضته للضغط النفسي وأرهقته.

لم يكن البرغوث ضمن الظروف الحياتية التي عاشها مارادونا أو أغلب المواطنين في الأرجنتين، وفي الغالب هم لا يطالبون بأن يعود الزمن للوراء من أجل عيش نفس الحالة من جديد، لأنه في الواقع في حال حدوث ذلك فلن يكون ميسي على حالته الفنية المعهودة الآن، دون رحلته إلى إسبانيا والتي ساعدت في تشكيل أدائه طوال حياته.

في فيلم نادي القتال المأخوذ عن الرواية المذكورة، وقام ببطولته كل من براد بيت وإدوارد نورتون، ظهر العنف الموجود في شخصية البطل بظهور شخص آخر مختلف، يحمل طباعًا يتمنى البطل لو كانت فيه.

الآن يمكن تخيل وجود شخص آخر مُختلف عن ليونيل ميسي يروق كثيرًا للجماهير في الأرجنتين. يمكن تخيل بداية ذلك التحول من اللحظة التي دخل فيها قائد المنتخب الأرجنتيني في مشاحنة مع جاري ميديل، لاعب منتخب تشيلي، وهي مشاحنة جسدية بالمعنى الكامل، التي تلقى على إثرها البطاقة الحمراء. وبعد ذلك، خرج ليتهم اللجنة المنظمة لكوبا أمريكا بالفساد والرشوة ووزع اتهاماته ضد الحكام والمنتخب البرازيلي.

لم تجد اللجنة بعد ذلك مفرًا من إيقافه لمدة 3 أشهر ومعاقبته بمبلغ مالي. عاد ليو في التوقف الدولي بشهر نوفمبر محتفظًا بنفس الشخصية، دخل في مشاحنة جسدية جديدة هذه المرة مع النجم الأوروغوايني إديسون كافاني، لكنها كانت بعيدًا عن الكاميرات ولم يظهر إلا رده القاطع في الشوط الثاني على عرض نجم باريس سان جيرمان للدخول في قتال، ليخبره ميسي بأنه جاهز: وقتما يُريد.

اتبع تلك الأحداث إلى مشهد الاشتباك اللفظي الذي جمعه مع مدرب المنتخب البرازيلي في نفس الشهر، ليعطينا احتمال تواجد شخص مختلف عن ليو، شخص يجد في العنف الذكوري حلاً لمعضلة الجماهير في الأرجنتين، يقوم باحتفالات تثير جماهير الخصم داخل ملاعبهم، شخص يمتلك لحية كتلك التي كانت عند مارادونا وبررت الجماهير وجودها بأنها تُغطي الندبات.

لا يهم الآن متى ظهرت تلك الشخصية ولا حتى تحليل أسباب ظهورها، الأهم الآن أنها تروق للجماهير هُناك بشكل جعلهم يصفون ميسي بأنه Spicy أو مُلتهب، وأن طباعه مارادونية، وحسب الصحف الأرجنتينية، فهم لا يطيقون انتظار عودة التوقف الدولي ليروا ميسي بقميص منتخب بلاده مرة أخرى.