في الوقت الذي يقود فيه المدرب الجزائري جمال بلماضي، تدريب فريقه عقب مباراة سيراليون، والتي استهلت بها الجزائر مشاركتها في أمم أفريقيا، كان أحدهم يجلس خلف شاشة حاسوبه لا يجد ما يفعله.

وأثناء تصفحه المعتاد عبر منصات التواصل، تفاجأ بصور للاعبي الجزائر وعلى رأسهم القائد رياض محرز، في سيارة ميكروباص تقلهم إلى مقر الإقامة، بعد قرار من بلماضي بعودة اللاعبين المشاركين في المباراة الأولى.

هنا وجد الفتى، والذي يدير إحدى أكبر الصفحات عبر فيسبوك، فرصته لصناعة الخبر الأبرز على مدار أسبوع، حين قرر من وحي خياله، بأن اللاعبين اضطروا لاستخدام الميكروباص بعد سرقة حافلة المنتخب، ولكي يضيف بعدًا مصداقيًا للقصة، فقام بنسبها إلى صحيفة النهار الجزائرية.

الأمر يبدو بسيطًا إذا توقف عند حد الفتى وصفحته فقط، بل إن القصة تصدرت وسائل الإعلام العربية، وبرامج التوك شو، دون أي محاولة للتأكد من صحتها، ورغم نفي صحيفة النهار نفسها.

اللافت أن قصة «ميكروباص الجزائر»، جاءت بعد أيام قليلة من تداول تصريحات عنترية نُسبت إلى رئيس الاتحاد الكاميروني، صامويل إيتو، والتعامل معها لم يختلف كثيرًا، ليبقى السؤال: كيف يخدعنا الإعلام مرتين؟

صناعة الخدعة

صناعة الأخبار الكاذبة لا تعد بالأمر السهل إطلاقًا بل أحيانًا يكون أكثر صعوبة من نقل الخبر الحقيقي، حيث يتوجب على صانعه إقناع القارئ بشيء لم يحدث من الأساس، بل ويدفعه لنشره وتداوله بشكل سريع.

وفقًا لكلية «The Evergreen State» بواشنطن، فإن صناعة القصة الزائفة تكمن في عدة خطوات هي: إدخال بعض الكلمات المضحكة على قصة حقيقية، ثم صياغة قصة تحاكي حدثًا حقيقيًا، ووضع عنوان ساخن وصورة تتناسب مع النص الجديد، إلى جانب استخدام اسم شخص مشهور يضيف ثقلًا لها.

أما الخطوة الثالثة، فهي نشر القصة عبر الإنترنت من خلال مواقع ويب تتصدر عمليات البحث، أو من خلال منصات التواصل، وتكتمل الصورة باستخدام القصة في الحملات الإعلانية المختلفة، ومشاركتها مع المؤسسات والمشاهير المهتمين بها.

وبالنظر إلى طبيعة التواجد الرقمي حاليًا، سنجد أن البيئة خصبة للغاية لخلق تلك القصص، دون الحاجة حتى إلى تنفيذ كل الخطوات المذكورة، فوفقًا لدراسة أجراها مركز «بيو» للأبحاث في فبراير/شباط 2017، فإن 35% من الشعب الأمريكي يحصل على الأخبار من منصات التواصل، في حين 36% يعتمد على المؤسسات الإخبارية.

 

التريند يحكم

وفي نفس الصدد، أظهرت دراسة أجراها نيك نيومان، الباحث المشارك في معهد وكالة رويترز، التغيرات التي طرأت على المحتوى الإعلامي في الفترة ما بين 2012 وحتى 2017.

والتي أظهرت تفوقًا واضحًا للمحتوى الصحفي عبر الإنترنت إذا ما قورن بمحتوى التلفاز، في المقابل شهدت بداية عام 2014 صعودًا كبيرًا للمحتوى الرقمي عبر منصات التواصل، بالمقارنة مع الصحافة الورقية.

 

وبالتزامن مع تغير شكل الإعلام، ازدادت نسب التواجد عبر منصات التواصل في الدول النامية أيضًا، حيث أظهرت نتائج دراسة للباحث «يعقوب بوشر« في 2016، أن 86% من سكان منطقة الشرق الأوسط يستخدمون السوشيال ميديا، كأعلى منطقة استخدامًا في العالم.

تلك الأرقام المذكورة، من المفترض أن تفسر لك السبب وراء لهث الكثيرين، لتناول أخبار التريندات، بشكل يجعله لا ينتظر حتى التحقق من صحتها، لا لشيء سوى أن يضع نفسه ضمن كعكة الأكثر تداولًا، والذي يعد الإنجاز الأكبر بالطبع.

لماذا نصدق؟

بحسب باحثين في جامعة «Syracuse» في نيويورك، فإن معتقدات الإنسان تتحكم بشكل كبير في مدى قبول أو رفض المعلومات لديه، وذلك بغض النظر عن مدى صحتها، أو درجة التحقق منها.

بشكل مبسط، فإنه لو هناك مشجع لفريق «X»، قرأ خبرًا عن إصابة أهم لاعب في فريق «Y»، والذي سيواجهه في المباراة المقبلة، فإن درجة قبول الخبر لدى المشجع الأول قطعًا ستكون أقوى من الثاني والعكس صحيح.

قابلية الأفراد للتأثر بالمعلومات الخاطئة إلى أنظمة معتقداتهم وعاداتهم القبلية، وهي حالة تصبح فيها هوية المجموعة أكثر أهمية من هوية الفرد.
جوش إنتيرون الأستاذ المساعد لدراسة المعلومات بـ«Syracuse».

الأمر تم توضحيه بشكل تشريحي أكبر، خلال تحقيق تعاوني نشره موقع «disinfobservatory»، بعنوان:«لماذا نؤمن بالأخبار الكاذبة؟ رحلة في الطبقات الإدراكية للتضليل»، والذي تناول انتقال المعلومات الخاطئة خلال الخلايا العصبية بالمخ.

إن علم الأعصاب هو الأساس التشريحي لكل ما نقوم به إلى حد كبير، حيث تتفاعل بلايين الخلايا العصبية في دماغنا باستمرار مع بعضها البعض لتوجيه مواد كيميائية مختلفة ونقل المحفزات والمعلومات.
موقع «disinfobservatory»

وبعيدًا عن الديناميكية المعقدة لتلك الخلايا، فإن الأمر أشبه بشبكة أسلاك، تنتقل خلالها المعلومات المختلفة، حيث تميل المعلومات المكررة والمتوافقة مع معتقد المتلقي إلى سلك طريق أسرع داخل الدماغ، وهنا يتضح الدور الذي يلعبه تكرار الأخبار الزائفة وانتشارها في تصديقها والاقتناع بها.

في الجانب الآخر، تسلك المعلومات والأخبار الحقيقية، ولكنها لا تتناسب مع المعتقد، والتي قد يتعرض لها المتلقي للمرة الأولى، طرقًا أطول داخل المخ، حتى أنه يمكن التخلص منها بغير وعي، وبالتالي عملية التصديق بها تصبح أكثر صعوبة.

برافو عليك

لا يتبقى الآن سوى سؤال أخير، ألا وهو: كيف ننجو إذن من الخدعة؟ إجابة هذا السؤال، كانت عند «محمد الزعانين»، الصحفي المتخصص في الرصد والتحقق الإخباري عبر المصادر المفتوحة.

وقال الزعانين في حديثه لـ «إضاءات»: «التحقق من الأخبار الخادعة عبر منصات التواصل، هي مسؤولية مشتركة بين الصحفي والمستخدم، باعتباره أيضًا مصدرًا لنشر المعلومة عبر حساباته الشخصية في الوقت الحالي».

وأوضح أن على الصحفي أن يكون ملمًا بأدوات التحقق، والأمور الفنية المتعلقة بهذا الأمر، باعتبارها من واجباته الأساسية في الوظيفة، في المقابل يتوقف دور التحقق على المستخدم في انتقاء مصادر معلوماته، والبحث عبر المواقع الموثوقة قبل نشر المعلومة.

الدائرة تبدو مغلقة، يتشارك فيها الجميع بدءًا من الفرد الذي يقضي أوقات فراغه عبر السوشيال ميديا، مرورًا بالصحفي الرقمي عبر تلك المنصات، ووصولًا لنوافذ الإعلام المرئية، والمسموعة، والمقروءة.

في النهاية، قد يكون توخي الحذر قبل استقبال أي معلومة عبر الفضاء الإلكتروني، ومن ثم تداولها ومساعدتها على الانتشار، حلًا في ألا يخدعك الإعلام مرتين وربما أكثر، وقتها ستستحق كلمة الجنرال مدحت شلبي الشهيرة «برافو عليك».