على رصيف مبنى مدرسته الثانوية، يجلس أحدهم بين أصدقائه -بحماس شديد– يسألهم الصبر قليلًا ليُسمِعهم أغنية جديدة سمعها بالأمس، يُخرِج هاتفه النوكيا مُشغلًا إياها، غير أن ردود أفعالهم لم تكن على ذات القدر من الحماس، غرابة الصوت -بالنسبة لهم- وقلة جودة التسجيل كانا كفيلين بإبداء رغبتهم لإيقافها قبل مقطعه المُحبَب، غير أن نظرة من أحدهم في نهاية الصف الجالس كانت كفيلة لتخبره –حينها– أنها رحلتنا الخاصة .. الخاصة جدًا.

وأما اتقطعت مني الساعة… وقع الوقت لقتني كبير.
مكعب سكر – ميدو زهير.

تغريد خارج السرب الغنائي، بعيدًا عن الكليشيه المتكرر من أزمات واشتياق الحبيب والحبيبة، جاء في هدوء شديد، وسلاسة موجهة يشوبها «الإخفاء» -والذي لا غرابة في اختياره اسمًا لمشروعه مع موريس لوقا وتامر أبو غزالة ومريم صالح- معبرًا عن أحجية راسخة في كتابات ميدو زهير.

قدّم ميدو زهير -في عموم كتاباته- مشروعًا فنيًا مدويًا بلا صخب، ممثلًا لجيلٍ ناقم تكتنفه الرقة. يصرخ… غير أن صرخته الأكبر وحدة تغتاله، واشتياق للرفقة ولعالمٍ بلا قيود، وطنٌ يشعر أنه ليس له، وحبٌ مفقود أوقعاه في بوتقة الاغتراب، اغترابٌ مُحقَّق شهد بيانًا للكلمات، واختفاءً لكاتبها، تسمعها فتعلم أن شيئًا ما يربطها، حتى ولو لم تعلم أنها لكاتب واحد.

ربما لم يكن الرابط في مشروعه مجرد شخصه، وإنما فلسفته. فمن الظلم البيّن اعتبار ميدو زهير شاعرًا غنائيًا فقط مهما تمايزت كتاباته، بل كانت في صميمها فلسفة إنسانية حائرة، وكاشفة في الآن ذاته، فالتعرّف الواضح على ما يكتبه ميدو زهير لم يكن راجعًا فقط إلى الأسلوب المميز، ولا الأفكار المتقاربة، وإنما ذلك الشعور بأن كل هذه الأغاني والكلمات يمكن ربطها بسهولة، وإن وضعت كلها بتسلسل معين ستشعر بتجانس مؤكد وإن اختلفت حدة بعضها، ولكن في المجمل ستكون لوحة موحدة شديدة الاتساع، قلبها قادر على لم شمل طرفيها.

فلسفته الإنسانية يمكن إيجازها في شكل دائري، ما بين التعبير الحقيقي الناقم في صورته الخاصة، والرقة المستمرة، وكأنه يستحضر بأشعاره جملة «تشاك بولانيك» الأشهر في رواية «نادي القتال»: «حربنا الكبرى حرب روحية»، في إشارة لحروبنا مع ذواتنا.

الرقة الناقمة

أنا لا أكتب الأشعار، فالأشعار تكتبني.
أحمد مطر.

وضعنا ميدو بأشعاره في مواجهة مشاعرنا الرقيقة، التي كثيرًا ما نخفيها، ونعتبرها نوعًا من أنواع الضعف، فهي مقلقة ومؤلمة. وضعها في صور بسيطة تحوي الكثير من المفارقات، وتكشف عما هو كائن فينا أصلًا، محتارًا مما قد نفعله بأنفسنا، وما تفعله وحدتنا فينا، في تبسيط موجز مكثف متدفق، تتلقاه بحزنٍ وإعجاب.

عندي طول الوقت رغبة في القعاد ع الأرض وحدي.
وحدي – ميدو زهير.

بمثابة تدوين يومي بسيط للمشاعر الإنسانية، حقيقتها وآثارها في نموذج شديد البساطة والتأثير، ورغم أنها قد لا تعدو معانٍ متكررة تتداولها ألسن أصحابها، إلا أنها قُدِمت بلسان حكّاء بارع في التحليل، أضفى عليها بعدًا شديد الدقة، والأسى والرقة، مغلفة في متسلسلة دائرية ذهابًا وإيابًا، في حوار ذاتي يتعمق كثيرًا كثيرًا للحالة الشعورية.

عندي طول الوقت وحدة، عندي جوه الوحدة وقت… عندي طول الوقت غربة، عندي جوه الغربة حلم.
وحدي – ميدو زهير.

ومن الملامح الواضحة لأسلوبه في تناول المشاعر فكرة الإخفاء بطريقة الإيجاز، والتي كانت تمنح كثيرًا من التجارب الشعورية لمحة عامة عن ذاتيتها عن طريق المعنى المبتسر الواضح رغم ذلك، حيث يكمله كل قارئ أو مستمع على ليلاه، فتسمح للمتلقي أن يكون في تلقيه عنصرًا فاعلًا.

والبداية والنهاية، والحكاية والرواية، الهواية والغواية، والدواية والمهم.
وحدي – ميدو زهير.

إن لوحاته الفنية المكتوبة، تتناول موضوعاتنا الذاتية الأشد حميمية ببساطة أكبر، وعمقٍ أشد، فكانت فكرة الصداقة أحد المحاور الجوهرية التي تكررت في كلمات ميدو زهير، بشكل متدرج ما بين اللوم الذاتي والأسى، إلى أعلى الدرجات الناقمة في وصف الصحبة بأغنية «تسكر تبكي».

حتى اللي بيّن حب ظاهر، اقتنعت إنه طاهر، فجأة بان له ألف ناب.
كل مرة – ميدو زهير.

وكان لتجارب الحب في مفهوم كتابات ميدو زهير تعقيد شديد الصعوبة، يقارب الألغاز الدائرية غير المنطوية على حلول، لكنه كان الشعور الأهم لديه، وإن لم يظهر بلفظه بشكل شديد الوضوح، إنما كان في الخطاب المستمر بالحوار.

ملقتش فيكي أي حل، ولا رد واحد بفهمه… ولأن بابك كان مقفول، دخلت من باب الخروج، فخرجت من باب الدخول.
الراوي – ميدو زهير.

وما بين الوحدة وخيبة المسعى للصداقة وتعقد الحب، سحب الحزن كرسيه مصطحبًا مشاعره الخاصة، في صور أصيلة أضفت طابعًا خاصًا وأصيلًا، لتناوله للخواء الذي خلّفته كل تلك المشاعر المنهكة، في بساطةٍ نسجها بطريقته الخاصة.

ادن بقى على روحك، احزن بقى على روحك، يمكن حاجات جواك تنطق تقول آمين.
غاوي بني آدمين – ميدو زهير.

أحد أكبر مناحي الفن أنه وسيلة الإنسان لنقد الحياة، ووسيلته الخاصة في الاعتراض على الحياة، كما وصفه «آلان دي بوتون» في كتابه «قلق السعي إلى المكانة» أنه أحد الحلول التي انتهجتها البشرية في خضم محاولاتها المستمرة للتخلص من ترتيب البشر. وكانت أوضح التساؤلات في الأشعار الغنائية لميدو زهير تدور حول رؤية الآخرين لنا، والذي أشار إليها في أكثر من موضع بفوارق لا بأس بها بكلمة «خايب» كما في أغنية «غاوي بني آدمين» لـ بلاك تيما:

يا حد خايب وجدًا، عرفت قبل ما تحزن، هتدي حضنك لمين؟

 وكذلك في «كنت رايح»، ضمن ألبوم «الإخفاء» لـ مريم صالح وموريس لوقا وتامر أبو غزالة وميدو زهير:

كان دافعني إني أحارب، كنت حاسب إني أطول، فجأة أعاني م الحبايب، فجأة يقفش رجلي غول، فجأة واقف فجأة غايب فجأة يمتنع الدخول، فأبدو ليهم إني خايب تبدو ليا مش أصول.

والغول –أو الخوف كما في مقصده– احتل مركز دائرته الفلسفية الخاصة بشأن مشاعر الإنسان من الوحدة والحزن والألم وعرقلة الطريق في أغنية «حزن الجنوب» لـ دينا الوديدي:

لو كان داخلنا اتغسّل بالراحة مش بالريح، لو كنا حوشنا العسل قبل العسل ما يسيح، لو كانوا سابوا الحاجات تصبح حاجات بصحيح، جايز مكانش القلق يملا العيون والقلوب.

ثم ينتقل منه لحوار مفترض ودائم مع الحبيبة التي تتناوب مفهوم الوطن حينًا والحبيبة حينًا:

حبيبتي ارضي سألتك والكف صارت يا دوب ازاي نلم الوجع ونخف حزن الجنوب.

فيضع الخوف، كجوهر كل المشاعر الإنسانية بدءًا من العيال، وهي صورة مشتركة للنشأة منذ الصغر، أو لساكني الوطن باختلاف صورة الحبيبة، كالحب المتعارف عليه، أم حب الوطن والأرض ذاته:

لو كانوا سابوا العيال تخلي الثمار من الخوف كنا اهتدينا يا ناس وفهمنا بالمعروف، وعرفنا من الأهوال، ازاي نبطل هروب؟ وازاي نلم الوجع ونخف حزن الجنوب.

غلّف الاغتراب الذاتي –والذي هو ظاهرة جماعية لجيل كامل– الدائرة الشعورية في فن ميدو زهير، فكل المشاعر السابقة تبادلت المقاعد في لعبة أشبه بالكراسي الموسيقية باعتبارها سببًا أم نتيجة، ولكن الاغتراب كان حاضرًا بشدة كجدار ليس صعبًا تجاوزه، لكن من المستحيل التخلص منه، كما في ألبوم «الإخفاء»:

نفسي في عقلي بتناكف،وقلبي في الهوا مخالف، وأنا مش صعب أتآلف، بحاول بس مش عارف.

الناقم الرقيق

دوشتنا الحكاوي يابا، خانتنا الخطاوي يابا، في بلاد العجايب يابا شوف… الصوت اللي ضاع واتحاش، والواد اللي راح ما لاقاش، والهم اللي داير يضحك، و النيل اللي غار ما سقاش.
في بلاد العجايب – ميدو زهير.

كانت رحلة أشعاره الذاتية في رؤيتها للوطن متوجة بتساؤل حول مسعاهما المتوّج بالهزائم، والمتناقضات، والحكاوي الخاسرة، غير أن في مركز كل هذه الحكايا، وفي خضم تلك الرقة، كان ناقمًا واعيًا، وناقدًا عبقريًا، وذلك في مجموعة من أشهر الأغاني التي احتلت مركزًا مرموقًا في الخيال السياسي ما قبل الثورة.

فثورة في قلب ميدو زهير كانت مشتعلة ضد «الأزرق» والتي اشتهرت بظهورها على لسان أحمد حلمي في مسلسل «الجماعة» وكذلك غنتها بلاك تيما، غير أن أسباب تلك الثورة أو مظاهرها التي عرضها في مجموعة أغاني قدمتها مريم صالح مثل «وطن العك» و«كشف أثري»، لم تكن هي جوهر فلسفة ميدو زهير، بل كانت فلسفته الخاصة تكمن في كيف نستمر رغم الهزائم؟ وكيف نطفو من مراكب غارقة؟

أمّا محاولته الأشهر في أغنية «زحمة»، فقد جاءت في صورة أشبه بدقات الشواكيش في رؤوسنا. جاءت كدقات قاصمة لا تستطيع دفعها أبدًا عن رأسك حتى تتخللك، وفيها عدّد الأسباب، ولكن -كعادته- في التصوير اليومي البسيط لا في التجميع الكلي، ثم وضع فيها سؤاله النهائي عن الاستمرار وجوهره:

اسأليني اشمعنى صابر ع المآسي الملهية… أقولك إني كنت واحد م الغلابة الأغبيا… اللي صبروا في انتظار المعجزات والأنبيا… واللي فاق من وهمه فجأة لقى كفر قوم عاد… لسه برضه قلبه طاير كعبه داير في البلاد.

الإخفاء

كما كان الإخفاء تقنية من تقنيات أسلوب ميدو زهير، فقد كان مسمى مشروعه الفني الأشهر -بصحبة تامر أبو غزالة وموريس لوقا ومريم صالح- والذي كتب في وصفه أنه مشروع فني طُبِخ على مِهَل على مدار ثلاث سنوات، وأربع إقامات إبداعية. وارب ميدو زهير الباب ليفتح وجهًا طال إخفاؤه، ليتمكن أخيرًا من طرح رؤى فنية لم يكن من الممكن طرحها سابقًا، فأصبح كاتبًا رائدًا حمل على عاتقه الكثير من الإنتاج الفني المصاحب لصعود فرق الأندرجراوند.

وبشكلٍ ما من الممكن اعتبار هذا المشروع انعكاسًا لسيرته غير أنه لا يمكن إيجازه فيه، حيث شهد مجموعة من الأغاني أشهرها «تسكر تبكي»، والتي أثارت جدلًا لمجموعة من الألفاظ الواردة فيها، ولكنها شهدت وضوحًا لأسلوب الحوار المفترض، والذي هو صورة ذهنية لحوار بين اللوم الذاتي والرد عليه في آن واحد، وهو انتقال من الأسلوب الدائري للحديث الذاتي.

تدور وترجع وجع واعتكاف… وتطبق عليك السنين العجاف… وأول ما حبك يقابلك يسيبك… وأول ما حبك يسيبك تخاف.
تدور وترجع – ميدو زهير.

ومن المؤكد أن طريقة التوزيع والغناء شهدت أثرًا بالغًا في وضوح الرؤية الفنية ما بين الحديث الذاتي، والحوار المفترض، والذي في كلاهما شهد حديثًا مقارنًا عن شعور الحب لديه ومكانتها.

كما شهد تجارب فنية تحمل رؤى مشابهة لأغاني سبق طرحها، لكنها أشد تفصيلًا وبصور أشد تركيبًا كما في أغنية «متحف فنون الغش»، وتميزت أغنية «الشهوة والسعار» عن غيرها بمجموعة من الجمل القصيرة المكثفة والتي جاءت كدفقات متوالية.

الاستمرار للنهاية

كما كان الاستمرار جوهر فلسفة ميدو زهير، كناقم رقيق للأوضاع، كان إنتاجه شديد الغزارة والانتشار لدرجة يصعب حصرها، وفي الوقت ذاته كان محافظًا على طريقته المميزة وفلسفته الخاصة، وكذلك صوره الأصيلة «الدمعة في عينك طوبة» و«جوعك قط بري»، وصور أخرى يصعب حصرها، والتي وضعته في مكانة مميزة.

صحيت الصبح م السهرة، لقيت الليل سرق وشي.
وشوش الليل، ألبوم الإخفاء.

ولكن برغم غزارة الإنتاج، وتكامل الرؤية الفنية، لم يشهد الشهرة المتناسبة مع أعماله، وهو الأمر الذي كان مُحيرًا، ربما لكيفية عمل الأمور، وعدم تصدر الشاعر الغنائي للمشهد، أو أن الكلمات لا تأخذ حقها في العملية الغنائية وإن كانت قلبها وصلبها.

وعلى كلٍ لم تكن أبدًا عائقه، وكما يتضح من فنه لم تكن أيضًا دافعه أو مبتغاه، إنما محاولاته الفنية المستمرة وبالغة الأثر كانت عنوانًا في كل منحى، إذ يصعب أن تجد شعورًا في هذه الدائرة لم يكن ضمن أغنية أو أكثر من أغانيه.

بتسأليني مت ليه؟ كنت بجري عايز أوصل.
عايز أوصل – ألبوم الإخفاء.
وجم قالوا البقاء لله، وشوش الليل ما بتعيشي.
وشوش الليل – ألبوم الإخفاء.

غير أن المؤكد أن كلماته ستعيش طويلًا بأثر متميز على الرغم من الليل الطويل، ووشوشه.