عندما تقترب مسيرة لاعب كرة قدم رفيع المستوى من الانتهاء، يكون عليه أن يتخذ قرارًا مهمًا: إما التقاعد، أو عودة رومانسية لناديه الذي منحه الظهور الأول، أو اغتنام الفرصة والذهاب لدوري أقل من مكانته كلاعب، بحثًا عن تعزيز حسابه البنكي.
دان شيلدون، كاتب ذي أثلتيك.

كانت هذه الافتتاحية جزءًا من مقال بعنوان «هل تصبح المملكة العربية السعودية مكبًا لأندية القمة الأوروبية؟». بالطبع يمكن استنتاج نية الكاتب من العنوان وحده؛ المتهم الرئيسي هو لاعب كرة القدم الجشع، والأندية السعودية كانت وسيلته لتأمين عقد خرافي جديد، أما أندية النخبة الأوروبية، ليست سوى طرف ثالث يسعى إلى التخلص من أشياء زائدة عن حاجته، وقد كان.

بالمناسبة يبدو هذا طرحًا منطقيًا بالفعل؛ لعبت العروض المالية السخية دورًا في انتقال نحو 40 لاعبًا من الدوريات الخمسة الكبرى مباشرة لدوري روشن، لكن كالعادة، هذه حقيقة ناقصة. فما القصة؟

ضربة البداية

في منتصف سبتمبر/أيلول 2023، اجتمع مسؤولو الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم بكل عناصر اللعبة، من أجل التصديق على قرار يتيح للحكام إجراء بعض التعديلات على طريقة احتساب الوقت بدل الضائع في مباريات الدوري الممتاز، أسوة بما تم تطبيقه في كأس العالم في قطر، بغرض إرساء المزيد من العدالة، ومنع التحايل وإضاعة الوقت.

يبدو هدفًا جيدًا بالفعل، لكنه تجاهل أمرًا مهمًا، وهو رأي اللاعبين أنفسهم. هذا بالضبط ما غرّد به رافاييل فاران، لاعب مانشستر يونايتد الإنجليزي، حيث أعرب عن ضيقه من التجاهل التام لرأي اللاعبين بهذه المسألة، التي على عكس ما قد تتوقع، لا تصب في صالحهم؛ لأن مزيدًا من الوقت المحتسب بدل الضائع يعني بداهة مباريات أطول وإجهادًا أكبر للاعبين الذين يعانون من جداول مباريات متخمة بالفعل.

قبل ذلك بشهرٍ واحد فقط، كان بيب جوارديولا، المدير الفني لمانشستر سيتي، يشتكي أيضًا من رزنامة مباريات كرة القدم المُزدحمة، حيث يتم دفع اللاعبين إلى جولات ترويجية في آسيا والولايات المُتحدة الأمريكية قبل انطلاق الموسم، ثم إلى منافسات شرسة بمُختلف البطولات الأوروبية، بينها رحلات سفر شاقة مع المنتخبات. وبينما يتساقط اللاعبون واحدًا تلو الآخر، يجب على العرض الكروي أن يستمر.

في الحقيقة، لجأ جوارديولا لعدد الإصابات الضخم بالرباط الصليبي للتدليل على أثر الإرهاق على لاعبي النُخبة. ولسوء الحظ، يرى المختصون أن إصابة الرباط الصليبي لا علاقة لها بالإجهاد، لكن في نفس الوقت، هذا لا ينفي العلاقة الوثيقة بين زيادة عدد المباريات وبين تعرُّض اللاعبين للإصابات العضلية وإصابات الأوتار.

عرض مستمر

نحن أمام لعبة مختلفة كليًا. بالسابق كان لاعب كرة القدم يسعى لأن يصبح رياضيًا، أما الآن نحتاج لرياضي بارع يمكنه أن يلعب كرة القدم.
دكتور آشلي جونز، المحاضر بكلية الصحة بجامعة ليدز بيكيت البريطانية.

كرة القدم الحالية أسرع من كرة القدم التي كانت تُلعب قبل 20 عامًا، بل إن اللاعبين أصبحوا مطالبين حاليًا بالركض بنسبة تتجاوز الـ30% عن التي كان يركضها لاعب كرة القدم في 2006. وهذا ما يعني ضغطًا بدنيًا وذهنيًا أكبر على اللاعبين، وبخاصة أنّ المباريات التنافسية تُلعب على مدار العام، دون أي فرصة لالتقاط الأنفاس.

في 2019، نشرت رابطة اللاعبين المحترفين «FIFPRO» تقريرًا بعنوان «At the limit»، يتحدَّث عن زيادة مستويات الإجهاد البدني والعاطفي لدى اللاعبين، وأوصى التقرير نهاية بضرورة إعادة هيكلة تقويم مباريات كرة القدم، ليشمل الحد الأدنى من فترات الراحة بين المباريات والتخفيف من السفر على المدى الطويل.

حاليًا، يشارك لاعب كرة القدم الذي يلعب بمستوى عالٍ في مباراة كل 3 أيام ونصف، وهو أقل بيوم ونصف من الوقت المطلوب لاستعادة الجسد لطاقته المهدرة، ومع توالي المنافسات يُدفع اللاعبون نحو الانهيار. وهذه ليست الأزمة كلها.

بينما يأمُل المشاهد في الحصول على تجربة مشاهدة عالية الجودة، تؤديها مجموعة من نُخبة الرياضيين حول العالم، يخبرنا «جيريمي سناب»، المتخصص في طب النفس الرياضي، أنّ الوضع الحالي، حيث فترات طويلة جدًا من التركيز العالي، يقلِّص من قدرات اللاعبين على إظهار أشياء مثل الإبداع، التناغُم، وتحمُّل المخاطر. بمعنى أوضح، يحاول لاعب كرة القدم الحالي التأقلم مع متطلبات اللعبة، بدلًا من التفوُّق فيها.

بالطبع، لاعب كرة القدم المحترف يتقاضى أموالًا ضخمة، بالتالي عليه أن يصمُت ويلعب. وهذه حُجة من لا حُجة له. على سبيل المثال، يتقاضى لاعبو كرة السلة الأمريكية أموالًا ضخمة أيضًا، لذا فهم مطالبون بلعب نحو 80 مباراة في تنافسية في ظرف 8 أشهر، لكن الفارق الوحيد هو أنّ لاعب كرة السلة الأمريكية لديه إجازة سنوية تمتد من 3 إلى 4 أشهر. وهذه رفاهية لا يحلُم لاعب كرة القدم أن يحظى بها قبل اعتزاله.

على كُل، لا يكترث المسؤولون، ولا تلقى أي من تلك المناشدات أي آذان صاغية. منافسات كرة القدم تزداد اتساعًا، عبر إجراء تعديلات على أنظمة المسابقات. فمثلًا، من الناحية النظرية، قد يضطر لاعب كرة القدم الذي يلعب بأحد الدوريات الكبرى في موسم 2024/2025 للعب 87 مباراة تنافسية، قد يُضاف إليها حاصل مشاركاته مع منتخب بلاده في بطولة أمم أوروبا.

ميسي لديه الإجابة

هل تتذكَّر مقال شيلدون الذي افتتحنا به حديثنا؟ نعم، ذلك الذي تعامل مع لاعبي كرة القدم «الكبار» كأشياء يجب التخلُّص منها. هذا بالضبط ما تقوم به أندية كرة القدم في الوقت الحالي. ولأننا أمام لعبة أسرع وأشد قسوة وتطلبًا من ذي قبل، لجأت الأندية الأوروبية إلى حل يبدو مثاليًا، ربما عن غير قصد.

في مقاله «كيف يؤثِّر التكتيك على الانتقالات»، أشار «ليام ثارمي»، محلل «ذي أثلتيك»، إلى حقيقة ارتفاع طلب الأندية الأوروبية على اللاعبين صغار السن، نظرًا لما تتطلبه اللعبة الحالية من قدرات بدنية هائلة.

طبقًا لأحد تقارير المركز الدولي للدراسات الرياضية، أنفقت أندية العالم عام 2021 نحو 54% من رسوم الانتقالات على لاعبين تقل أعمارهم عن 25 عامًا، وهي النسبة التي ترتفع عن المتوسط بنحو 7%. فيما كانت 8 من أغلى 10 صفقات انتقالات في موسم 2022/2023 للاعبين تقل أعمارهم عن 23 عامًا. وفي نفس الوقت، تراجع الاستثمار في اللاعبين الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و29 عامًا خلال الفترة ما بين 2018 و2023 بنسبة 9% عن المتوسط.

هذه الإحصائيات أعلاه، التي تبدو للوهلة الأولى جيدة، حيث تتجِّه كرة القدم لمنح صغار السن فرصًا حقيقية، ربما تعني أيضًا، تعريض شريحة جديدة، أصغر سنًا وأقل خبرة، لمسيرة كاملة من الضغط الجسدي والذهني. والسؤال الآن: كيف يمكننا أن نوقف هذه العجلة عن الدوران؟

الجهات المعنية بإدارة كرة القدم الأوروبية لا تسعى سوى لجني المزيد من الأموال والأندية الأوروبية نفسها وجدت لأنفسها حلولًا بديلة عبر تبديل المُسنين بمن هم أكثر شبابًا، حتى يسقطوا ويتم استبدالهم بغيرهم إلى ما لا نهاية.

لذلك، يُخبرنا جوارديولا أنّ أحدًا عليه أن يتحرَّك، ربما عن طريق «إضراب» اللاعبين عن اللعب. أو اللجوء لأكثر الحلول منطقية في الوقت الحالي، وهو الذهاب للعب في المملكة العربية السعودية أو الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كرة قدم أكثر هدوءًا، كما يصفها ليونيل ميسي.