شخص اجتمعت فيه حضارتان، حضارة الشرق بملامحها الروحانية الغامضة، مع بساطتها وتشعثها كصحراء مقفرة، وحضارة الغرب بتقدمها وصبغتها المادية. هكذا تتحدث رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» لـلطيب صالح.

تدور أحداث «موسم الهجرة إلى الشمال» حول إشكال العلاقة بين الشرق والغرب، علاقة التربص والحذر والرغبة الكامنة في الثأر من المستعمر الأوروبي لبلاد الشرق وجنوب المتوسط. وبنية الرواية تتكون من البطل الإشكالي مصطفى سعيد، والراوي المشارك وهو يشبه راوي السيرة أو الحكاية الشعبية، وهو يروي جزءًا من الحدث بضمير المتكلم أنا، ويروي جزءًا آخر بضمير الغائب هو، ويظهر صوت الراوي واضحًا من أول سطر في الرواية إلى آخرها.

تبدأ الرواية بشخص الراوي الذي كان مسافرًا في الخارج لاستكمال دراسته وبعد حصوله على الدكتوراه يعود إلى بلده ليرى شخصًا غريبًا عن أهل القرية، هو مصطفى سعيد، بطل الرواية.

يتزامن مولده مع دخول الاستعمار الإنجليزي لبلده عام 1898 ليترك لديه انطباعًا كامنًا للثأر لبلده مما لحق به من سحق للحركة الوطنية ونهب لمقدراتها، هذا الثأر الكامن هو الذي سيشكل أساس العلاقة بينه وبين البيئة الغربية بملامحها الباردة كحقل جليد، فمصطفى سعيد كان لشخصيته نقص أو خلل روحي، وهذا ما جعله يتواءم مع البيئة الغربية رغم قدومه من الشرق، لم يشعر يومًا بحب ولم تغبطه يومًا سعادة، حتى أنه لم يحزن لوفاة أمه وكانت آخر ما يمت له بصلة في هذه الحياة. نجده يتهافت على حانات تشلسي، وأندية هامستد، وبلومزبري، فتيات الخلاص، فقد فشلت أول علاقة له مع زميلة سرعان ما كرهته قائلة له: «أنت لست إنسانًا، أنت آلة صماء»، فرغم نبوغه العقلي الفذ كان عنده قصور وفتور عاطفي، ومع حله وترحاله لم يحنّ يومًا إلى شيء أو إلى مكان أو إلى وطن، عندما استقل القطار وترك بلده لم يلوح له أحد بيده ولم تنهمر دموعه على فراق أحد، عندما ضرب القطار في الصحراء فكر قليلًا في البلد الذي خلّفه وراءه، فكان مثل جبل ضرب خيمته عنده وفي الصباح الباكر قلع الأوتاد، وأسرج بعيره ورحل.

وعندما كانت تمور شرارات الاستعمار في الجنوب ذهب مصطفى سعيد إلى بلاد الغرب غازيًا، صارت مدن وقلاع الغرب كلها في جسد امرأة ينفث حمى ثأره فيها، ذلك كان غزوه. وكما كان الجسد الأرستقراطي للمرأة هو وسيلة للارتقاء الطبقي في رواية محفوظ «بداية ونهاية»، فقد تحول جسد المرأة الأوروبية ساحة للصراع والغزو، هذه إنجلترا التي احتلت بلاده عسكريًا ذهب ليغزوها جنسيًّا في عقر دارها، تدخل المرأة غرفة نومه بكرًا وتخرج منه تحمل جرثوم المرض في دمها، تموت دون أن تنبس ببنت شفة، يلبس لكل حالة ثوبها.

ظلت حياة مصطفى سعيد كصحراء الظمأ، ومتاهة للرغبات الجنوبية، ما إن يأخذ مراده من امرأة حتى يبحث عن فريسة غيرها يروي بها ظمأه، كان بحر غرائزه لا شاطئ له، يقول:

فأمسَكَت يدي وقالت لي: هل تدري أن أمي إسبانية، هذا إذًا يفسر كل شيء، يفسر لقاءنا صدفة، وتفاهمنا تلقائيًا، كأننا تعارفنا منذ قرون، لا بد أن جدي كان جنديًا في جيش طارق بن زياد، ولا بد أنه قابل جدتك وهي تجني العنب في بستان في إشبيلية، ولا بد أنه أحبها من أول نظرة وهي أيضًا أحبته، وعاش معها فترة ثم تركها وذهب إلى أفريقيا وهناك تزوج وخرجت أنا من سلالته في أفريقيا، وخرجت أنت من سلالته في إسبانيا، وتخيلت برهة لقاء الجنود العرب لإسبانيا، مثلي في هذه اللحظة، أجلس قبالة إيزابيلا سيمور، ظمأ جنوبي تبدد في شعاب التاريخ في الشمال، إنما أنا لا أطلب المجد فمثلي لا يطلب المجد.

كان ثأره من نساء الغرب إن لم يكن بسسب الاستعمار الغربي الحالي لبلاده فهو انتقام لضياع أندلس الماضي.

أحداث الرواية تسير في خطين متوازيين، عدسة مسلطة على حياة مصطفى سعيد في الغرب، وأخرى ترصد واقع بلده في الجنوب، وهنا تكمن ملاحظة مهمة تتعلق بتكنيك الرواية، وهي أن الراوي لم يجعل بطل الرواية يتذكر أو يسترجع ما حدث له في أوروبا إلا بعد أن عاد واستقر مرة أخرى في بلده، وهذا يعني هنا أن المكان في الرواية يقوم بدور بطولي، فكل الأحداث تتحرك في رحمه كما يتحرك الجنين في بطن الأم.

الرواية في مجملها تعتمد في الغالب على أسلوب السرد والتعبير، أما الحوار فهو محدد جدًّا، لذلك غلف أسلوب الرواية قدر من الشاعرية الرقيقة، وهي واقعية وذات أبعاد رمزية معبرة، ففي الوجه الآخر من الرواية في الجنوب نجد الراوي من خلال سرده للأحداث يقوم بثورة على واقع قريته؛ عاداتها ومعتقداتها، لكنها ليست ثورة مباشرة تهاجم كل ما هو قائم، مثل ثورة إسماعيل بطل رواية «قنديل أم هاشم»، لكننا نكشفها من خلال السرد ومضامين الكلام، فالراوي من خلال أسلوب المكاشفة وسرد الأحداث والمواقف التي حدثت في القرية، مثل زواج ود الريس من بنت محمود رغمًا عنها، كان ذلك ثورة لحقوق المرأة المسلوبة في بيئته، ثورة على بيروقراطية النظام الحاكم ونظام التعليم الذي يكمن غرضه فقط في إخراج موظفين لخدمة أغراض المستعمر.

تنتهي الرواية بموت البطل دون العثور على جثته، لعلها كانت هذه رغبته، فقد عاش على هامش الحياة يريد أن يرحل دون دموع ودون وداع، لم يرد أن يكون له قبر تزرف عليه الدموع، ذهب ليقابل أشباحًا جعلها تتجرع كأس سمومه في الحياة. وتتسلط الأضواء على الراوي الذي تتحول بؤرة التركيز عليه في النهاية، حيث تلخص أحداث الرواية كلها في هذا المشهد الختامي البديع:

ومضيت أسبح وأسبح وقد استقر عزمي على بلوغ الشاطئ الشمالي. هذا هو الهدف، كان الشاطئ أمامي يعلو ويهبط، والأصوات تنقطع كلية ثم تضج. وقليلًا قليلًا لم أعد أسمع سوى دوي النهر. ثم أصبحت كأنني في بهو واسع تتجاوب أصداؤه. الشاطئ يعلو ويهبط ودوي النهر يغور ويطفو. كنت أرى أمامي نصف دائرة ثم أصبحت بين العمى والبصر، كنت أعي ولا أعي، هل أنا نائم أم يقظان؟ هل أنا حي أم ميت؟ ومع ذلك كنت ما أزال ممسكًا بخيط هن حتى كاد ينقطع، ووصلت إلى نقطة أحسست فيها أن قوى النهر في القاع تشدني إليها.. وفجأة، وبقوة لا أدري من أين جاءتني، رفعت قامتي في الماء. تلفت يمنة ويسرة فإذا أنا في منتصف الطريق بين الشمال والجنوب. لن أستطيع المضي ولن أستطيع العودة. كنت أريد أن أبقى طافيًا على السطح، وكنت أحس بقوى النهر الهدامة تشدني إلى أسفل، وبالتيار يدفعني إلى الشاطئ. إن عاجلًا أو آجلًا ستشدني قوى النهر إلى القاع. وفي حالة بين الحياة والموت رأيت أسرابًا من طيور القطا متجهة شمالًا. هل نحن في موسم الشتاء أو الصيف؟ هل هي رحلة أم هجرة؟

هذه الرواية في الحقيقة تجسيد لتيار ما بعد الاستعمار، ومحاولة المستعمَر بالكتابة للرد على المستعمِر، وتبيان العلاقة بين التابع والمتبوع، تجسيد لجيل من الأدباء نشأ وترعرع في أحضان الاستعمار، عاش ويلاته وشهد تدمير أسس الهوية وتفتت جسد الوطن العربي.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.