باتفاقات عسكرية متوالية تريد قطر -الدولة الصغيرة وسط جيرانها وإخوتها- تأمين نفسها ونظامها من محاولات الإطاحة به أو إخضاعها لسياسات معينة. كشف عن هذا الخوف؛ توقيعها في يوم تلو الآخر، خلال شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، لاتفاقين عسكريين.

الأول؛ مع حلف شمال الأطلنطي، الذي يبحث عن ممول له، والثاني مع بريطانيا التي ودعت الاتحاد الأوروبي، وتحلم بإعادة بناء أمجاد إمبراطوريتها السابقة. كل ذلك يدفع في اتجاه المزيد من عسكرة المنطقة العربية، ورهنها بإرادات خارجية أكثر مما تعانيه.


تحالفات قطر العسكرية منذ الحصار

في يوم الخامس من يونيو/ حزيران 2017 -الموافق لذكرى النكسة العربية- أعلنت أربع دول عربية مقاطعتها لقطر دبلوماسيًا واقتصاديًا، إلى جانب فرض حصار بري وجوي بحري خانق، دفعها إلى البحث عن بديل لجيرانها العرب وأشقائها الخليجيين. كانت البدائل في البداية البحث عن شركاء تجاريين واقتصاديين، لتوفير احتياجاتها الغذائية العاجلة.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ حيث استشعر النظام القطري، وجود محاولات عسكرية للإطاحة بنظامه، خاصةً من قبل الإمارات والسعودية، دفعه ذلك إلى البحث عن داعمين عسكريين. القواعد الأمريكية ليست ضمانًا كافيًا، قد تشتريها أموال أبو ظبي والرياض وقت اندلاع الأزمة.

أدرك الأمير «تميم بن حمد» هذا الأمر، ليسارع إلى تفعيل الاتفاقيات العسكرية مع تركيا، التي طالبت دول الرباعية العربية بوقفها ضمن قائمة المطالب الـ13.

لم يعبأ النظام القطري بقائمة المطالب، ليطالب أنقرة بتفعيل الاتفاق العسكري. وعلى الفورصوت البرلمان التركي بعد قرار المقاطعة بيومين على قرار يسمح بنشر قوات تركية في قطر، تطبيقًا للاتفاقية الموقعة بين البلدين في 2014.

بدأت تركيا إرسال قواتها وماكيناتها العسكرية، إلى قاعدتها الثانية بالدوحة، بخلاف الأولى في الصومال. فالنظام التركي لن يجد حليفًا عربيًا وخليجيًا مثل الدوحة، التي أتاحت له موطئ قدم في أهم منطقة بالشرق الأوسط، ليزاحم القواعد الغربية في المنطقة.

استمر الخوف القطري من إقدام خصومها على أي عمل يهدد استقرارها، لتتجه إلى إيران العدو الأول لأشقائها. لكنها اكتفت بتوقيع اتفاقيات اقتصادية، واستخدمت المجال الجوي والبحري لها.

وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، وقعت الدوحة وطهران وأنقرة اتفاقية تسهيل العبور ونقل الأفراد بين البلدان الثلاثة. فإيران لن تجد فرصة أفضل من هذا لاختراق دول الخليج، مستغلةً الخوف والحصار الخليجي لقطر الدولة الصغيرة.

لم تكن الاتفاقيات مع تركيا وإيران كافية لطمأنة قطر، لأنها بحاجة إلى غطاء عسكري وسياسي من قوى كبرى. وجدت ضالتها في حلف الناتو الذي يبحث عن ممول له، خاصة بعد مطالبة ترامب له بتحمل أعباء النفقات العسكرية.

وقعت الدوحة سريعًا في 17 يناير/ كانون الثاني الماضي اتفاقية للتعاون الأمني مع الناتو، قيل إن الاتفاق وضع قاعدة لحماية عملية تبادل المعلومات السرية، لكن قطر لن يفيدها اتفاق كهذا كثيرًا، إنما أرادت توجيه رسالة لدول الرباعية العربية بأنها لن تقف وحيدة وسط تزايد التهديدات العسكرية لها.

أما دول الناتو، من جانبها، كغيرها من الدول فأرادت الحصول على حصتها من الأزمة الخليجية، ولتقدم نفسها غطاءً لقطر، وذلك لمعالجة الأزمة المالية، متبعةً في ذلك مفهوم «الدفاع الذكي» الذي يسعى إلى تعزيز ميزانيات الدفاع الخاصة بها عبر التعاون مع دول ثرية، تحت غطاء مبادرة «إسطنبول للتعاون الاستراتيجي» التي وضعها الحلف في عام 2004، لضم شركاء من دول الشرق الأوسط له، لاسيما الخليج.

لم تكتفِ قطر بالناتو لأن تعدد أعضائه قد يعيق اتخاذ قرار لصالحها مستقبلًا، لتوقع اتفاقًا، في توقيت اتفاق الناتو نفسه مع بريطانيا؛ نص على تأسيس أسطول عمليات مشترك.

قال وزير الدولة لشئون الدفاع القطري «خالد العطية» إنه جاء لضمان الجاهزية القتالية للبلدين، والتعاون في مكافحة الإرهاب وتطوير الجهود الاستراتيجية لتحقيق الاستقرار في الإقليم وخارجه، بجانب حماية أجواء قطر خلال فعاليات بطولة كأس العالم 2022.

بريطانيا تبحث عن وجود عسكري في الخارج، خاصة في الشرق الأوسط. بدأت الخطوة بتوقيع اتفاقٍ في 2014 مع البحرين، لبناء قاعدة عسكرية تتحمل المنامة تكلفة بنائها. تعليقًا على هذه العودة قال وزير الخارجية البريطاني وقتها «فيلب هاموند» إن القاعدة الجديدة تؤكد التزام بريطانيا بـ«وجود مستمر شرقي السويس»، مستخدمًا هذا المصطلح ذي الصبغة الاستعمارية قبل انسحاب بريطانيا بجيوشها من المنطقة، والآن تعود إليها بناءً على طلب أصحاب المنطقة بتفاهماتٍ خلقتها انقسامات الجيران.

لم تكن كل هذه الاتفاقيات كافية لطمأنة قطر، لتعلن قبل انقضاء الشهر الماضي بساعات، توقيع اتفاق مع الولايات المتحدة للتعاون الأمني الإقليمي، يتضمن التزام أمريكا بالتصدي لأي تهديدات خارجية تتعرض لها قطر. تأتي هذه الاتفاقات في ظل الوجود العسكري الأمريكي الدائم في قطر، في قاعدتي العديد والسيلية، لتوضح حجم القلق القطري من تحركات الجيران الثلاثة ومعهم مصر.

اقرأ أيضًا:القواعد الأمريكية في الخليج العربي: احتلال أم حماية؟


مجبر أخاك لا بطل

لم تفعّل قطر الاتفاقات العسكرية الموقعة مع تركيا، أو تهرول لعقد المزيد منها مع الدول الغربية الحليفة، الاستعمارية سابقًا، إلا بعد استشعار وجود خطر حقيقي يهدد نظامها.

بعد خطوة الرباعي العربي، كثرت التسريبات والتصريحات القطرية بوجود تحركات عسكرية تم وقفها ضد قطر. ظل الأمر مجرد إشاعات، وعدم الثقة في رواية المسئولين القطريين، إلى أن جاءت الحقيقة على لسان أمير الكويت في شهر سبتمبر/ أيلول الماضي لتكشف الكثير وتحرج الدول العربية.

كشف رجل الوساطة الأول في الأزمة، الأمير «صباح الأحمد الصباح»، خلال لقائه بترامب في واشنطن، عن نجاح الوساطة الكويتية في وقف تدخل عسكري ضد قطر عقب اندلاع الأزمة، مشددًا على استبعاد هذا الخيار العسكري ورفضه.

وضع التصريح دول الرباعي في حرج، لتخرج في بيان لها معربة عن أسفها لكلام من ارتضوه حكمًا، قائلين إن الخيار العسكري، لم ولن يكون مطروحًا، مكررين اتهامهم للدوحة بدعم الإرهاب.

تأكد الأمر للدولة الصغيرة، التي خشيت من تكرار سيناريو الغزو العراقي للكويت، التي تدمرت بسبب سياسة الرئيس الراحل «صدام حسين»، ولجأت بعد نجاح القوى الدولية في دحر صدام إلى الاستعانة بالرجل الغربي لحمايتها من أي عدوان مجددًا.

وَعَت قطر الدرس وبدأته من نهايته، وهو إحضار الحامي قبل وقوع الاعتداء، مقابل دفع أموال باهظة تمثلت في صفقات عسكرية واتفاقات مع الدول الأوروبية نظير حمايتها.


الجندي الغربي يعود بطلب العرب

ظنت دول الرباعية العربية أنها يمكن أن تطيح بنظام قطر، متناسية أن الغرب خاصة أمريكا لن يسمح بظهور «صدام حسين» جديد

تسببت خطيئة «صدام حسين» في الكويت في خوف الدول الخليجية الصغيرة، لتعلن عن فتح بلادها لأقدام الجنود الأمريكيين وغيرهم، مما جعل المنطقة رهن إرادتهم، فلا صوت يعلو فوق صوت السلاح.

ارتدت خطيئة صدام على صدره، لتستعين أمريكا بقواعدها في الخليج في الإجهاز عليه واحتلال بلاده في 2003، وتخطّ نهاية قصته بإعدامه صبيحة الثلاثين من ديسمبر/ كانون الأول 2006. قائلة للعرب شكرًا على «حسن تعاونكم معنا». كان الهجوم إعمالًا لمبدأ «من ليس معنا فهو ضدنا» الذي أعلنه الرئيس الأسبق «جورج بوش».

استغل التاجر الأمريكي «ترامب» بذكاء معادلة «الخوف والاحتياج» في الخليج. فقطر بحاجة إلى مظلة حماية أكثر. قدم لها اتفاقًا أشبه بالوصاية، مقابل زيادة الاستثمارات في الاقتصاد الأمريكي، التي قدرها وزير الخارجية القطري «محمد بن عبد الرحمن آل ثاني» بـ 100 مليار دولار، خلال فعاليات الحوار الاستراتيجي القطري – الأمريكي في واشنطن، نهاية الشهر الماضي، متعهدًا بضخ المزيد، خلاف الصفقات العسكرية الموقعة عقب الأزمة بأيام، مثل اتفاق شراء طائرات «إف 15» بقيمة 12 مليار دولار بجانب صفقات أخرى.

ومثلما حصل ترامب على أموال قطر، فاز أيضًا بحصة أكبر من ولي العهد السعودي في اتفاقيات فاقت قيمتها 400 مليار دولار، خلال زيارته للرياض، وتشابه الأمر مع الإمارات والبحرين. وحذرت فرنسا وبريطانيا ومعهما الناتو وغيره حذو أمريكا، لتدخل منطقة الشرق الأوسط في دوامة جديدة من «العسكرة»، أكثر مما هي عليه؛ ما جعلها ساحة ومنطلقًا لحروب الوكالة، والبحث عن النفوذ.

فأمريكا ستنافسها قوى جديدة في المنطقة، بحثًا وراء المصلحة، واستعدادًا لمواجهات مع الدب الروسي ذي الأقدام القوية في سوريا، الذي فتح جبهة جديدة مع الغرب بخلاف أوكرانيا والقرم.

أخطأت الدول العربية في الضغط اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا على قطر، وستجني معها ثمار هذا الخطأ الذي ارتكبه «صدام حسين» من قبل، بإحضار المحتل الغربي للمنطقة بطلب من قادتها. فالكل سيخنع أمام أصوات الطائرات التي ستحوم في الأفق، وأمام فوهات المدافع، ولن يجني أحد ثمار خطأ القادة سوى الشعوب، التي تُنتهك حقوقها وحريتها وتستنزف أموالها، إرضاءً لمن طردوهم في الأمس بجثثهم ودماء آبائهم وأجدادهم.