ابتداءً من 1952م إلى هذه السنة 2019م، بلغ عدد وزراء الأوقاف 22 وزيرًا في الحكومات المصرية التي تعاقبت في خلال تلك المدة وهي 67 عامًا، بمتوسط ثلاث سنوات لكل منهم، كان أولهم الشيخ أحمد حسن الباقوري، وآخرهم الدكتور محمد مختار جمعة، ومن جملتهم 16 وزيرًا أزهريًا، وواحد مهندس مدني، وثلاثة من أساتذة الجامعات المصرية، واثنان من ضباط الجيش. بينما بلغ عدد وزراء أوقاف مصر في العهد الملكي الليبرالي (1341هـ/ 1923م ــ 1371هـ/1952م)، 30 وزيرًا، تعاقبوا على هذه الوزارة في 30 عامًا تقريبًا، بمتوسط سنة واحدة لكل منهم في الوزارة؛ أي ثلث متوسط مدة الواحد من نظرائهم فيما بعد سنة 1952م إلى اليوم. ويلفت النظر في شأن وزراء أوقاف العهد الملكي، الآتي:

أولاً: أنه لم يكن منهم إلا أزهريان اثنان هما: الشيخ مصطفى عبد الرازق، شيخ الأزهر في عهد الملك فاروق، وصاحب كتاب: «تمهيد في الفلسفة الإسلامية»، والشيخ علي عبد الرازق، صاحب الكتاب المثير للجدل: «الإسلام وأصول الحكم». أما الباقون وهم ثمانية وعشرون وزيرًا فقد كانوا من ذوي الثقافة الحديثة والباشاوات خريجي المدارس المدنية، وبعضهم كان من خريجي الجامعات الأوربية. وقد شهدت وزارة الأوقاف في عهد أول الوزراء الثلاثين ازدهارًا مؤسسيًا، وفاعلية في الأداء والاستقلالية في خدمة المجتمع، بما لا يقارن بما آلت إليه أحوال هذه الوزارة بعد 23 يوليو 1952م.

ثانيًا: أن ثمانية من أولئك الوزراء في العهد الملكي، قاموا في أوقات مختلفة، قبل توليهم الوزارة أو أثنائها أو بعدها، بتحويل ممتلكاتهم الشخصية، أو أجزاء منها، إلى وقفيات خيرية وأهلية، أو مشتركة بين الخيرية والأهلية. وكل أولئك الوزراء -كما سيأتي- هم من ذوي الثقافة الغربية الحديثة، ومن حملة المؤهلات القانونية من المعاهد والجامعات المدنية العالية. ولم تسجل سجلات الوزارة وقفًا للشيخين الأزهريين مصطفى عبد الرازق، وعلي عبد الرازق، وهما ينتميان لعائلة كبيرة ذات ملكيات زراعية واسعة. كما لم تُسجل أية أوقاف، لأيٍ من وزراء ما بعد سنة 1952م وأغلبيتهم من الأزهريين.

ثالثًا: أن أولئك الوزراء الثمانية من ذوي الخلفيات التعليمية المدنية الحديثة والفكر الليبرالي في العهد الملكي -وهم الآتي أسماؤهم بعد قليل- قد ركزوا إنفاق ريع وقفياتهم على «مؤسسات» الرعاية الاجتماعية، والمساجد، وعلى التعليم الأزهري، والمدارس الإسلامية الخيرية، والمكتبات العامة مثل دار الكتب.

وظاهرة عناية النخبة الليبرالية المصرية ذات الثقافة الحديثة، تحديدًا، بشؤون الثقافة الإسلامية والتعليم الأزهري والمدارس الإسلامية عمومًا، كانت قد لفتتْ نظري قبل ذلك وأنا أبحث في إحدى وقفيات محمد توفيق نسيم باشا رئيس الوزراء ووزير الأوقاف في العهد الملكي، وهي وقفية مكتبته المنزلية على جامعتي القاهرة والأزهر، حيث جمع فيها بين الاهتمام بالثقافتين الحديثة والتراثية، ولم يتنكر لانتمائه الإسلامي، مثلما حدث بعد ذلك، وفي أيامنا هذه من مدعي الثقافة والحداثة والليبرالية. وما وجدناه عند نسيم باشا، وجدناه أيضًا لدى عدد كبير من النخبة الثقافية والسياسية الليبرالية في العهد الملكي، وفي مقدتهم زعماء الوفد التاريخيين: سعد زغلول، وعلي شعراوي، وعبد العزيز فهمي، ومنهم أيضًا هؤلاء الوزراء الثمانية الذين تولوا وزارة الأوقاف. وهناك اثنان آخران توليا وزارة الأوقاف قبل ذلك في العهد الخديوي، فيكون عددهم عشرة وزراء للأوقاف؛ كانت لهم أوقاف ذات قيمة اقتصادية كبيرة، وذات أثر ثقافي وتعليمي واجتماعي مستمر إلى اليوم في كثير من مؤسسات المجتمع المدني والعمل الخيري عمومًا، وهم:

1. محمد توفيق نسيم باشا، وقد تولى وزارة الأوقاف من 21 مايو/أيار 1919 إلى 20 نوفمبر/تشرين الثاني 1919، وتولى رئاسة الوزارء مرتين، كانت الثانية من سنة 1934 إلى 1936م. وقد وقف أملاكه في عامي 1934 و1935 خلال توليه منصب رئاسة الوزراء بموجب أربع حجج من محكمة مصر الشرعية الكبرى: الأولى بتاريخ 16 مارس/أذار 1934، والثانية بتاريخ 27 إبريل/نيسان 1934، والثالثة بتاريخ 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1934، والرابعة بتاريخ 1 إبريل/نيسان 1935. وشملت وقفياته من الأراضي الزراعية 457 فدانًا، و14 قيراطًا، و20 سهمًا، كما وقف 500 سهم كان يملكها من أسهم شركة مياه العاصمة (القاهرة) إضافة إلى وديعة نقدية قيمتها 15000 جم (خمسة عشر ألف جنيه مصري)، وهو يعتبر أول من وقف النقود وأسهم الشركات في التاريخ الحديث للعالم الإسلامي، ووقف أيضًا مكتبته المنزلية وعدد كتبها 678 كتابًا عربيًا وإفرنكيًا على مكتبتي جامعة القاهرة وجامعة الأزهر. وخصص ريع هذه الوقفيات لإنشاء وتمويل ثلاثة مستوصفات خيرية، وجمعية المواساة الإسلامية، وجمعية الإسعاف العمومية، ومستوصف الليدي كرومر بمصر، وخيرات أخرى للفقراء والمساكين.

2. أحمد مدحت يكن، وهو الذي تولى وزراة الأوقاف في الفترة من 28 يناير/كانون الثاني 1924 إلى 31 مارس/اذار 1924، وكان قد وقف مساحة 39 فدانًا و15 قيراطًا وسهمين اثنين، بموجب حجة من محكمة مصر الشرعية الكبرى بتاريخ 7 مايو/أيار 1918، وخصص ريعها لعمل خيرات متنوعة للفقراء والمساكين، وطعام وطبخ لحوم للتصدق بها في المواسم والأعياد. وقد سجل وقفياته بموجب حجة من محكمة مصر الشرعية بتاريخ 4 يونيو/حزيران 1912، وسجلها باسمه وبأسماء شقيقاته الستات: عديلة، ودويدار، وعائشة، وأمينة.

3.أحمد مظلوم باشا، وقد تولى وزارة الأوقاف في وزارة سعد زغلول الأولى. وبلغت مساحة الأراضي التي وقفها 742 فدانًا، و10 قراريط، و4 أسهم، إضافة إلى قطعة أرض فضاء بالقاهرة مساحتها 341 مترًا مربعًا، و33 ديسيمتر، وذلك بموجب حجة من محكمة الإسكندرية الشرعية بتاريخ 8 أكتوبر/تشرين الأول 1905، وحجة ثانية من المحكمة ذاتها بتاريخ 7 مايو/أيار 1908. وخصَّصَ ريع هذا الوقف للإنفاق منه على جمعية العروة الوثقى بالإسكندرية، ومن بعدها للجمعية الخيرية الإسلامية بالقاهرة، وقسم الريع إلى تسعة أقسام، أحدها لجمعية العروة الوثقى الإسلامية، والباقي لأولاده، وذريتهم إلى انقراضهم، ثم يؤول إلى الجمعية. وقد اشترط أن يتم إنشاء معهد للأبحاث الطبية في حالة تعذر الإنفاق على الجمعية المذكورة.

4. محمد علي بك، ابن الشيخ محمد سليمان باشا، وقد تولى وزارة الأوقاف من 13 فبراير/شباط 1925 إلى 12 سبتمبر/أيلول 1925. وقام بوقف منزل وحديقة بمسطح مساحته 4531 ذراعًا، و73% من الذراع، كما وقف 42 فدانًا، و16 قيراطًا، و6 أسهم، وذلك بموجب ثلاث حجج من محكمة الإسكندرية الشرعية: الأولى بتاريخ 16 يونيو/حزيران 1926، والثانية بتاريخ 7 يوليو/تموز 1931، والثالثة بتاريخ 6 يونيو/حزيران 1938. وقد خصص ريع هذه الوقفيات على نفسه وعلى بنت أخيه وأولادها، فإذا أقرضوا، يلحق -كل ما وقفه- بوقف والده الشيخ محمد سليمان، ويصير حكمه كحمه، وشرطه كشرطه في الإنفاق على وجوه البر والخيرات والمنافع العامة.

5. علي المنزلاوي بك، وقد تولى وزارة الأوقاف من 13 مارس/أذار 1933 إلى 27 سبتمبر/أيلول 1933. ولم أستدل على حجة وقفياته، التي خصص منها حصة للإنفاق «على دار الكتب المصرية»، وعثرت فحسب على «ملف التولية» الخاص بوقفياته وهو برقم (7063). ومن المحتمل أن تكون شروط وقفياته قد تضمنت الإنفاق على جهات خيرية أخرى إلى جانب «الكتبخانة المصرية».

6. عبد العزيز محمد بك، وقد تولى وزارة الأوقاف من 15 نوفمبر/تشرين الثاني 1934 إلى 30 يناير/كانون الثاني 1936. وقام بوقف 36 فدانًا و21 قيراطًا وربع سهم من قيراط، وذلك بموجب حجة من محكمة الجيزة الشرعية بتاريخ 7 ديسمبر/كانون الأول 1909، وحجة أخرى من المحكمة ذاتها بتاريخ 8 أغسطس/آب 1916، وحجة ثالثة بتاريخ 25 سبتمبر/أيلول 1938 من محكمة مصر الشرعية الكبرى. واشترط أن يتم إنفاق حصة من ريع وقفيته على الخيرات، وقراءة القرآن الكريم وتحفيظه، وخصص لهذه الحصة مبلغًا قدره ألف جنيه في كل سنة هلالية، وأن ينفق جزءًا من الريع على الفقراء والمساكين المترددين على «تربة الواقف».

7. إبراهيم دسوقي أباظة، وقد تولى وزارة الأوقاف من 17 فبراير/شباط 1946 إلى 9 ديسمبر/كانون الأول 1946. ووقف عدة وقفيات هي: قيراطان وما عليهما من بناء المسجد وما يتبع المسجد من منافع وخدمات، و34 فدانًا و14 قيراطًا و20 سهمًا، واقعة بأراضي نواحي الزقازيق بمحافظة الشرقية. وقُدرت قيمتها في سنة وقفها بمبلغ 5192 جنيهًا مصريًا و70 قرشًا. واشترط الإنفاق من ريع الوقف على المسجد وإقامة شعائره على الدوام، وكذلك الإنفاق على أولاده وأولادهم من بعدهم وحدهم؛ أي أنه جعله وقفًا مؤقتًا وفقًا لأحكام قانون الوقف الذي كان قد صدر في ذلك العام برقم 48 لسنة 1946. وجعل أمر النظارة على الوقف لنفسه، ثم لابنه محمد ثروت أباظة (هو الكاتب والأديب المعروف فيما بعد).

8. إسماعيل رمزي باشا، وقد تولى وزارة الأوقاف من 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1950، إلى 27 يناير/كانون الثاني 1952. وقام بوقف مكتبته المنزلية بما تحتويه من كتب وعددها 816 كتابًا، و6 دواليب خشبية، وعدد 9 لوحات مكتوب عليها آيات قرآنية، وأسماء سور هذه الآيات، وذلك بموجب حجة من محكمة مصر الشرعية الكبرى بتاريخ 19 إبريل/نيسان 1931. ونص في شروط الوقفية أن تفتح أبواب المكتبة وهي في منزله مدة حياته لأهل العلم والمستفيدين للقراءة فيها، ونقل ما يريدون نقله من كتبها حسب المتبع في المكتبات العامة، ثم تنتقل المكتبة إلى مكتبة الجامعة المصرية (القاهرة)، فإن تعذر نقلُها لمكتبة الجامعة المصرية، تُنقل إلى مكتبةِ الجامع الأزهر.

أما الوزيران الآخران اللذان توليا وزارة الأوقاف في خلال العهد الخديوي وكانت لهما أوقاف، فهما علي باشا مبارك، وحسين درويش باشا.

9. علي باشا مبارك (1823–1893 م/ 1239–1311 هـ)، وقد تولى وزارة الأوقاف من 28 أغسطس/آب 1878 إلى 23 فبراير/شباط 1879، وقام بوقف 330 فدانًا، حسب البيانات الواردة بكشف حساب وقفيته عن سنة 1946م. وحجة وقفيته مفقودة، ولا يوجد له «ملف تولية» ضمن ملفات التولية بوزارة الأوقاف، ولكن له ملف محاسبة يحتوي على عدة مستندات، منها الكشف المشار إليه وفيه تحديد جملة الأراضي الزراعية التي وقفها علي باشا مبارك من أملاكه الخاصة، وجعل ريعها للإنفاق على فقراء بلدته «برنبال» وقد حددهم بالاسم، وعلى خيرات أخرى ومبرات عمومية وصدقات لعلاج الفقراء وتعليمهم، واشترط تخصيص حصة من الريع للإنفاق على أغراض الجمعية الخيرية الإسلامية التي تأسست في سنة 1892م، أي قبل سنة واحدة من وفاته.

10. حسين درويش باشا، وقد تولى وزارة الأوقاف مرتين إبان أحدث ثورة الشعب في سنة 1919م وتداعياتها: كانت فترته الأولى من 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1919 إلى 21 مايو/أيار 1920، وكانت الثانية من 22 مايو/أيار 1920 إلى 16 مارس/أذار 1921. وقام قبل توليه الوزارة بعام واحد هو وزوجته الست عين الحياة هانم، بوقف 182 فدانًا و20 قيراطًا وسهمين بناحية إيتاي البارود بمحافظة البحيرة حاليًا، وذلك بموجب حجة من محكمة مصر الشرعية بتاريخ 7 مايو/أيار 1918، واشترطا الإنفاق من ريع الوقف عليهما، وعلى أولادهما وذرياتهم، ثم يؤول الريع إلى طلبة العلم الشريف برواق البحاروة بالأزهر الشريف، دون تفرقة بينهم، والعبرة في استحقاقهم «وجودهم بالرواق، والاشتغال بالعلم، ولو كان مبتدئًا في حفظ كتاب الله تعالى».

قد يحتج البعض بأن المقارنة بين وزراء العهد الملكي، ووزراء ما بعد سنة 1952م غير منصفة من جهتين: الأولى هي أن قانون الوقف قد تغير بعد سنة 1952م ونص على إلغاء الوقف الأهلي، بحل ما هو قائم، ومنع أي وقف أهلي جديد ينشأ بعد صدور القانون رقم 180 لسنة 1952م. والثانية هي أن وزراء الأوقاف فيما بعد سنة 1952م من الأزهريين وغير الأزهريين لم يكونوا من الأثرياء أو أصحاب الأملاك كي يقوموا بوقفها أو بوقف شيء منها.

وهاتان الحجتان وجيهتان ظاهريًا، فالقانون قد تغير فعلاً، والملكيات الكبيرة كانت قد تقلصت بحكم قوانين الإصلاح الزراعي التي جرى تطبيقها بعد يوليو 1952م. ولكن إذا كان المرسوم بقانون رقم 180 لسنة 1952 قد حل الوقف الأهلي ومنع إنشاءه من جديد كما تقول الحجة الأولى، فإنه أبقى على الوقف الخيري وأباح إنشاء الجديد منه، ولكن لم يقم أحدهم بوقف أي شيء يملكه. أما بالنسبة للحجة الثانية وهي عدم ثراء وزراء ما بعد يوليو، فهذا يصدق إلى نهاية الستينيات وقبل عصر الانفتاح في عهد الرئيس السادات وما تلاه، حيث تنوعت مصادر الثروة، ولم تعد متركزة في الأراضي الزراعية كما كانت في العهد الملكي. ثم إن الوزيرين الأزهريين قبل يوليو 1952م وهما مصطفى وعلي عبد الرازق، كانا من كبار الملاك، ولم يعرف عن أيهما أنه وقف شيئًا من أملاكه، بينما قام كثيرون من وزراء ذلك العهد ذاته بوقف أملاكهم على ما رأينا من أوقاف ثمانية من وزراء أوقاف العهد الملكي. وتفسير هذه الحالة يحتاج إلى قول آخر، وربما أكثر من قول.