19 عامًا قضاها ماو تسي تونج، قائد الحزب الشيوعي الصيني، في القتال ضد الحكومة الوطنية، المدعومة من الغرب، خلال حرب أهلية لم تتوقف إلا قليلًا أثناء غزو الجيش الياباني الذي ما إن انهزم عام 1945 في نهاية الحرب العالمية الثانية على يد معسكر الحلفاء، حتى تجدد القتال بين الشيوعيين والحكومة الوطنية بشكل أكثر ضراوة وعنفًا، إذ استعملت فيه الأسلحة الحديثة التي قدّمها الحلفاء، وانتهت الحرب بانتصار الشيوعيين وفرار قادة البلاد في نهاية عام 1949.

وبعد سيطرته على مقاليد الأمور في بكين انطلق ماو ليكمل تحقيق حلم الصين الكبرى استنادًا إلى نظريات قرأها وتأثر بها تقول بضرورة ضم كل بلد سبق أن حكمه الصينيون في أي فترة عبر التاريخ، ومعبأ بمزيج من مشاعر التفوق العرقي ومرارة ما سمي بـ «قرن الإذلال» حين خضعت بلاده للبرابرة، وهو الوصف الذي كان يوسم به كل أجنبي خارج البلاد التي أطلق عليها أبناؤها «المملكة الوسطى»، أي مركز الكون وأقدم حضاراته.

وانطلق الجيش الأحمر غربًا لغزو دولة تركستان الشرقية، معقل عرقية الإيجور المسلمة، وهي التي كانت قد نالت استقلالها عام 1944 باسم جمهورية تركستان الشرقية. وبعد عدة معارك عنيفة، استمر بعضها لأكثر من عشرين يومًا من القتال، سقطت تركستان الشرقية في أكتوبر/تشرين الثاني من عام 1949، وقام الشيوعيون بمجازر واسعة لا توجد إحصاءات دقيقة لأعداد ضحاياها، وإن قدرها البعض بقرابة مليون قتيل. أطلق الصينيون على الإقليم «شينجيانج»، وهي التسمية التي أطلقتها عليه مملكة المانشو الصينية بعد احتلاله عام 1760.


السيطرة على سقف العالم

في أكتوبر عام 1950 استدار الجيش الأحمر جنوبًا إلى دولة التبت ذات الأغلبية البوذية – تعرّضت في السابق لاحتلال مملكة المانشو الصينية – فأوقع بجيشها هزيمة ساحقة في موقعة «تشامدو»، وأُطلق على الغزو اسم «عملية التحرير السلمي للتبت على يد جمهورية الصين الشعبية»، وأجبر الصينيون الدالاي لاما، الزعيم الروحي والسياسي للتبت، على الموافقة على معاهدة مذلة تخضع بلاده بموجبها لسلطة بكين في مقابل عدم المساس بالحياة الدينية والاجتماعية للسكان، وبذلك أحكم الصينيون سيطرتهم على كامل الهضبة التي يطلق عليها «سقف العالم»، بسبب ارتفاعها الشاهق.

لكن الحكومة الشيوعية لم تحافظ على الاتفاق. ففي عام 1958 بدأ الزعيم الصيني ماو ما أطلق عليه «القفزة الكبرى إلى الأمام The Great Leap Forward»، وهو مشروع قومي استهدف فرض نمط صارم من الشيوعية على المواطنين، فصادر الأراضي وفرض نظام التعاونيات الزراعية، وتسببت تلك الإجراءات في موت عشرات الملايين من الجوع في أنحاء البلاد، فانتفض سكان التبت ضد الحكم الصيني عام 1959، إلا أن الجيش قمع المحتجين بمنتهى العنف وقتل الآلاف، فهرب الدالاي لاما إلى الهند وبصحبته عدد كبير من أتباعه، وألغى اعترافه بالمعاهدة التي أقرّها تحت الإكراه، وقاد المقاومة التبتية من مدينة دارامسالا في شمال الهند على الحدود مع بلاده.

وفي أكتوبر/تشرين الأول 1962، أي بعد 3 سنوات من هروب الدالاي لاما، اجتاحت القوات الصينية الحدود، لتسيطر على مساحات واسعة من مناطق الشمال الهندي. وبعد شهر، انسحبت فجأة بعد تدخل الولايات المتحدة وإرسالها أسلحة متطورة إلى نيودلهي، وعاد التبتيون ليقودوا المقاومة من دارامسالا.


جمهورية الهان

تأسّست جمهورية الصين الحديثة على دعامتين أساسيتين: عرقية الهان، والولاء للنظام الشيوعي. فالهان يمثلون الأغلبية الساحقة بنسبة 92% من مجموع السكان، وعلى الأقليات العرقية الأخرى أن تذوب في وسط هذا المحيط البشري الهائل كي تتجنب التمييز العنصري، فحتى الصينيون من ذوي الأصول الكورية يعانون من هذا التمييز، رغم أن ملامحهم تكاد تتطابق مع الهان بشكل يجعل من الصعب على الغرباء التمييز بينهم.

كما أن على الجميع الخضوع للحكومة الشيوعية التي تعادي جميع الأديان والأيديولوجيات الأخرى، وقد مارس ماو خلال حكمه الذي امتد لسبعة وعشرين عامًا أشكالًا مختلفة من الدمج القسري للأقليات من أجل أن ينصهر الجميع في سبيكة واحدة، وبلغت هذه السياسة مداها خلال فترة «الثورة الثقافية» الممتدة من عام 1966 إلى 1976. فخلال هذا العقد تعرّض المتدينون في جميع أنحاء البلاد للتنكيل، حتى أتباع الكونفوشيوسية التي يعتنقها القطاع الأكبر من السكان، وتسبّبت موجات العنف في مئات الآلاف من الضحايا، وتدمير جزء مهم من تراث البلاد الثقافي الذي لا يتوافق مع الشيوعية.

وفي التبت دُمرت آلاف المعابد، واعتـُقل الرهبان وعذبوا بتهمة العمالة للغرب، كما تعرضت مساجد المسلمين للتدمير، ومُنعوا من ممارسة أي نوع من الشعائر الدينية، وسادت موجات الفوضى جميع أنحاء البلاد، وامتد الصراع ليشمل المجموعات الشيوعية المسلحة التي زايدت على بعضها في الولاء لماو، ومزّقتها النزاعات الدموية.


سياسة الصيننة

على الرغم من موت ماو عام 1976، وانطلاق التحديث الاقتصادي بقيادة دينج شيبينج، استمرت سياسة «الصيننة» في منحنى تصاعدي بشكل أكثر تخطيطًا من ذي قبل؛ فأصبح تعلُّم اللغة الصينية ملزمًا للأقليات لإثبات ولائهم الوطني، وتم التركيز على شعبي التبت وتركستان بالذات؛ فكلاهما يشغل الدين حيزًا كبيرًا في حياتهما، ولكل منهما هويته وثقافته الخاصة، بالإضافة إلى نزعة الاستقلال لديهما، وهو ما يشكل قلقًا كبيرًا لدى بكين.

كما أعطى الموقع الاستراتيجي لكل من الإقليمين أهمية كبيرة لهما لدى النظام الصيني، مما جعل الصين تعتمد سياسة تهدف لسحق أي معارضة في المنطقتين اللتين تقترب مساحتهما من ثلث مساحة البلاد، وتحتويان على احتياطيات هائلة من النفط والغاز والثروات المعدنية، في وقت تزداد فيه شراهة التنين الأصفر للوقود والمواد الخام لتلبية حاجات النمو الصناعي المتصاعد.

وتحتوي تركستان الشرقية وحدها على 138 نوعًا من المعادن، تشمل نحو 81.14% من إجمالي أنواع المعادن الموجودة في الصين. أما التبت فيُطلق عليها «برج آسيا المائي»، لاحتوائها على أنهار جليدية عملاقة ومخزون مائي كبير، بينما تعاني معظم الأقاليم الصينية من أزمة شح المياه.


صيننة الأديان

ومضت بكين جاهدة في سياسة التذويب القسري لكلا الشعبين. ففي التبت تولّى مراقبون من الحزب الشيوعي إدارة الشئون الدينية في جميع دور العبادة البوذية، بل إن الصين أصدرت قانونًا عام 2007 يعطي الحكومة حق اختيار الدالاي لاما القادم بعد وفاة تينزو غياتسو، الدالاي لاما الحالي الذي يبلغ من العمر 83 عامًا؛ وهي المفارقة الكبرى أن يحتكر الموظفون الملحدون طقوس اختيار شخصية مقدسة لدى إحدى الديانات. بل إن أحد مسئولي الحزب أعلن أن الرئيس شي جينبينج حصل على لقب «ملهم بوذي حي»، وأن التبتيين باتوا يعدونه «لها»، وذلك بالتزامن تقريبًا مع حصول جينبينج على حق البقاء مدى الحياة في السلطة داخل الحزب الشيوعي الصيني.

ورغم أن الدالاي لاما تخلى عن فكرة الاستقلال التام منذ عام 1987، وبات يطالب فقط بنوع من الحكم الذاتي لبوذيي التبت طبقًا للاتفاق القديم، ووقف توطين عرقية الهان في الإقليم، فإن الصين تعتبر ذلك مخططًا انفصاليًا تقوده «عصابة الأربعة عشر»، وهو الوصف الذي تطلقه على أعضاء مكتب الدالاي لاما. فالنظام الشيوعي يتبع خطة للتغيير الديموغرافي، تهدف لتحويل سكان الإقليم إلى أقلية ضعيفة وسط مهاجري الهان، وهو نفس ما يفعله في تركستان الشرقية، وذلك وفقًا لتصريح الرئيس شي عام 2014، حينما قال:

وعلى مدى العقود الماضية مارس النظام الصيني سياسة تطهير عرقي تهدف لإبادة سكان تركستان الشرقية، مستخدمًا كل الوسائل المتاحة، كالتعقيم الإجباري للسيدات، وعمليات الإجهاض القسرية التي مات فيها كثير من المسلمات الحوامل، بل وصل الأمر لإجراء عشرات التجارب النووية في وجود السكان المحليين، ومات بسببها مئات الآلاف منهم، بالإضافة لانتشار الأمراض الناجمة عن التعرض للإشعاع.


فوائد قوم عند قوم مصائب

وعلى عكس نظرائهم في تركستان الغربية التي تشمل جمهوريات كازاخستان وأوزبكستان وتركمانستان وطاجيكستان وقيرغيزستان، فإن انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 أدى إلى زيادة وطأة القمع على التركستانيين الشرقيين، خوفًا من انتقال عدوى التحرر إليهم من الدول الخمس التي نالت حريتها حديثًا، خاصة أن تلك الدول تشبههم في الدين والعرق واللغة.

ومنذ ذلك التاريخ وقعت عدة مجازر راح ضحيتها الآلاف، كان معظمها بسبب تأدية المسلمين لصلاة الجماعة؛ كمجزرة «غولجا» عام 1997، ومجزرة «يلكيكي» عام 2013، ومجزرتي «أقسو» و«خوتن ناحية» عام 2014، ووصل القمع ذروته بانتشار «معسكرات التثقيف السياسي»، وهي معتقلات ضخمة، يتم فيها إجبار المساجين على اعتناق الشيوعية وتقديس الرئيس شي، والتخلي عن المعتقدات الدينية، وتعلم اللغة الصينية، ويخضع المعتقلون فيها لرقابة صارمة حتى أثناء قضاء الحاجة.

أما الأهالي خارج المعتقلات، فتزرع في بيوتهم كاميرات مراقبة للتأكد من عدم ممارستهم لشعائرهم الدينية، وحددت السلطات قائمة من 75 علامة «لرصد التطرف الديني»، ومنها الامتناع عن شرب الخمر أو ضبط سجادة صلاة في المنزل، كما يتعرض كثير من الأطفال للفصل عن والديهم لفترات طويلة، ويتم إلحاقهم بمدارس داخلية تابعة للحزب الشيوعي.


الذوبان أو الموت

إن النهج المتبع في التبت وشينجيانج هو نفسه، والأهداف هي نفسها.

وارتفع مستوى القمع في تركستان الشرقية بشكل كبير بعد أن انتقل إلى إدارتها تشن كوانغو، أمين الحزب الشيوعي، أواخر عام 2016 بعد أن كان يدير منطقة التبت، وبدأ تطبيق سياسته بنفس الصرامة التي مارسها في التبت.

وأظهر تقرير للأمم المتحدة صدر في نهاية الشهر الماضي أن النظام الشيوعي يحتجز أعدادًا هائلة داخل معسكرات إعادة التثقيف، قد يصل عددهم إلى مليون من أصل 13 مليون إيجوري مسلم يعيشون بالإقليم، ووجه عدد من البرلمانيين الأمريكيين حملة لحث بلادهم على توقيع عقوبات على الصين عقابًا لها على الانتهاكات البشعة التي تمارس بحق الإيجور، في حين نفت بكين ارتكابها لأي انتهاكات بهذا الخصوص.

وفي الوقت الذي لا يحصل فيه الإيجور والتبتيون على حقوقهم كمواطنين، ولو من الدرجة الثانية، فهم يُحرمون أيضًا من حقهم في الفرار، وتطارد السلطات الهاربين منهم لإعادتهم إلى البلاد، فليس الهدف هو طردهم وتهجيرهم، بل إبادتهم، ولو ثقافيًا على الأقل، لقطع الطريق على أي فرصة في المستقبل لإعادة إحياء القضية.