الفن هو أساس الحياة ورحيقها، حيث ينبع من حياة الإنسان، ولا يعترف بأرض أو عرق أو دين أو ثقافة معينة، فهو يتجاوز كل الحدود. فالفن في مجمله مزيج من الإدراك واللطف والعاطفة الداخلية والوعي لدى البشر، وهي مكونات لا يمكن التعبير عنها أو تفسيرها بلغة أخرى إلا بلغة الفن الخفية والرمزية.

والموسيقى ليست مجرد فن، بل هي أداة للتعبير عن حضارة الشعوب وثقافتها باعتبارها جزءًا مهمًّا من التراث الشفهي، وخاصة الموسيقى المحلية، التي تعد مرآة لعادات المجتمع في كل منطقة. ولهذا فإن الحفاظ على الموسيقى المحلية لأي أمة والحرص على إحيائها يُحافظ على الهوية الثقافية.

من منحدرات بامير إلى ساحة الفن

ذلك الصوت الساحر المُفعم بالحب والبهجة، الذي تردد صداه للمرة الأولى في قرية بازجير النائية بمقاطعة «إشكاشم» التابعة لولاية بدخشان الأفغانية، حيث الطبيعة الخلابة ونهر «آمو» على الحدود الحالية بين أفغانستان وطاجيكستان، والذي استطاع أن يأسر القلوب والآذان فاكتسب شهرة واسعة وتخطت ألحانه الحدود حتى وصلت للعالمية.

«مير مفتون» أو «مهري مفتون» هو موسيقي أفغاني، من مواليد عام 1962، بدأ الغناء وتعلَّم العزف على الآلات الموسيقية الفلكلورية في سن الـ 8، واشتهر عندما كان مراهقًا، فكان يعزف على الدامبورا والغيشاك (وهو عبارة عن عود يُستخدَم في إيران وأفغانستان وباكستان وطاجيكستان، وهو آلة وترية تشبه الكمنجة). وكان مفتون يمزج في ألحانه بين الأساليب الموسيقية من منطقة بدخشان وبين العناصر الموسيقية الفلكلورية بمنطقة آسيا الوسطى الأخرى كذلك.

عندما كان طفلًا تعلَّم مفتون أساسيات الموسيقى من والده «محمد رضا» الذي كان مغنيًا، ورث منه حب الموسيقى، فقد كان مولعًا بقراءة القصائد الرومانسیة من الكتب والمجلات وإنشادها عندما كان طالبًا، حتى نظم أشعاره. لكنه فَقَد والده سريعًا بعد أن غرس فيه حب الموسيقى، وذهبت «موهبته الأبدية»، واستكمل مشواره بدون معلم، فصار مُعلمًا لنفسه، وقد أذهلت موهبته الفريدة وقدراته الفنية في الموسيقى الشعبية، العالم، وتخطت ألحانه الموسيقى الشعبية والأغاني الفلكلورية لمنطقة قطغن شمال أفغانستان.

ويتذكر أن والده كان يقرأ الشعر دائمًا، على الرغم من عدم التحاقه بالمدارس الرسمية. وكان والده ينشد أشعار «ميرزا ​​بيدل الدهلوي» بصوت عالٍ ويبكي على عمق تلك القصائد وجمالها الشعري، ويقول مفتون:

الآن أعرف لماذا أثَّرت قصائد ميرزا ​​بيدل على والدي كثيرًا.

لم يكن طريقه مُعبَّدًا ومفروشًا بالورود حتى يصل لهذه المكانة في قلوب شعبه بين عشية وضحاها، فكان مشواره مليئًا بالعثرات، ولكن مفتون وجد طريقه مبكرًا، فقد اختار طريق الحب والبهجة، ولم يستسلم أبدًا للظروف التي يعانيها الأفغان من حروب وفقر وتهجير ونزوح.

بدأ مشواره الفني صغيرًا، لم يترك فنه بعد التحاقه بالجيش في فيض آباد، ثم سافر إلى قيرغيزستان لحضور دورة تدريبية عسكرية، وعاد إلى بدخشان ليصبح ضابطًا، فكان يضع سلاحه بين فرقته في المعسكر، ويشدو بأغاني الحرب. إلا أنه فضَّل أداة الدمبورا على السلاح. وشيئًا فشيئًا، غنَّى في الأوساط المحلية وعزف على الآلات الموسيقية المحلية، وعرفه الجميع باسم «مير مفتون»، أي «المسئول الذي يغني جيدًا».

بعد وصول «حكومة المجاهدين» إلى السلطة 1992 ترك العسكرية، وعزف الموسيقى فقط، وكما كان يغني وهو بجوار والده، فإن ابنه المراهق الذي سمَّاه على اسم والده (محمد رضا)، كان يغني إلى جانبه في البرامج، ويقول مفتون إن والده كان الابن الوحيد في الأسرة مثله، والآن محمد رضا هو ابنه الوحيد.

من بازجير إلى باريس

تخطت شهرته الحدود عبر نهر آمو إلى طاجيكستان، في عام 2001 نال جائزة الأمير كلاوس الدولية، وهي إحدى أعرق الجوائز الملكية في هولندا، لمهاراته في الموسيقى ودوره الثقافي في نشر الموسيقى الشعبية الأفغانية، التي عُزفت على المسارح العالمية في أوروبا في مدينتي آرنم وباريس.

وكما هو الحال في العصر الحديث على مستوى العالم، ولا سيما أفغانستان، فإن الموسيقى الشعبية والألحان الفلكلورية شهدت تراجعًا ملحوظًا، كذلك العزف على الآلات الموسيقية التقليدية، والتي لم تعد تجذب الشباب، ولكن مع ظهور مفتون كمُحكِّم في برنامج اكتشاف المواهب الأفغاني الشهير «ستاره أفغان» أو (نجم الأفغان) الذي عُرض على قناة «طلوع» التليفزيونية الأفغانية لمدة عامين، استطاع مفتون تقديم موسيقى «بدخشان» الشعبية بكل سماتها للعالم، فكان يقول:

لو لم أحضر إلى كابل، لماتت موسيقى بدخشان المحلية.

ومن ناحية أخرى، صرَّح عدد من المطربين الأفغان بأنهم كانوا يعتقدون أن هذا النوع من الموسيقى مكانه في المناطق الريفية فقط وموطنه ولا يمكنه أن ينتشر خارج حدود البلاد. فقد ساعد ظهوره في العديد من البرامج التلفزيونية في تسليط الضوء على تلك الموسيقى التي هُمِّشت لسنوات، والتي تعد من أركان الثقافة والهوية الأفغانية، ولهذا منحه اتحاد الفنانين بالتعاون مع وزارة الثقافة في إحدى المؤتمرات في كابل لقب «سلطان الموسيقى الشعبية الأفغانية».

مدرسة مفتون

على مدى موسمين من برنامج «نجم الأفغان» شارك طلاب من بدخشان وتخار، والذين اعتبروا أنفسهم من أتباع «مدرسة مفتون»، وقاموا بالعزف على الدمبورا بأسلوب مفتون، وغنَّوا بنفس الطريقة، حتى إنهم قلَّدوا أزياءه، وخاصة قبعته.

وكان من بين المشاركين الذين اشتهروا في هذا البرنامج عام 2016 المطرب (عبد السلام مفتون)، حيث يصف نفسه بأنه «تلميذ مفتون الكبير»، والذي نال شهرة واسعة بعد ظهوره في البرنامج، حيث انتشرت تعليقات على نطاق واسع في وسائل الإعلام المحلية والأجنبية ووسائل التواصل الاجتماعي عن وجود تشابه بينه وبين رئيس الوزراء الكندي «جاستن ترودو»، وحاولت وسائل الإعلام المختلفة إجراء مقابلات معه.

شغف بدخشاني

تشتهر موسيقى بدخشان الشعبية بمزيجها بين آلات الدف والغيشاك والدمبورا، والتي نجح مفتون بتوظيفها في ألحانه بالمزج بين موسيقاها لمدة ثلاثة عقود أو أربعة، وكذلك اعتمد على الأسلوب المعروف هناك باسم (فلك)، وأنتج عشرات الأغاني الرومانسية والاجتماعية والوطنية التي تستحق التقدير.

ويكمن جوهر ألحان مفتون وأغانيه الشجية في الرومانسية الممزوجة بالشجن، كما أنه يتفنَّن في وصف الطبيعة الأفغانية وخاصة بدخشان، والنسيم العليل الذي يهب على حقول القمح التي تأسر قلب المستمع، وأحيانًا يغني مفتون بأغاني المطربين الطاجيك، وذلك لوجود قواسم ثقافية وفنية مشتركة بين أفغانستان وطاجيكستان. وقد لعب مفتون دورًا بارزًا في إثراء الموسيقى الشعبية وثقافة الناس وحسهم الفني بأغانيه المحلية والوطنية.

اشتهرت موسيقى بدخشان في الماضي بالأغاني المعروفة باسم «بازگل بدخشی»، نسبة إلى المطرب والملحن الذي توفي عام 2009 عن عمر يناهز 107 أعوام، لكن مفتون قدَّم هذا النوع من الموسيقى على نطاق أوسع.

وعلى الرغم من إعجابه الشديد بالموسيقى الشعبية، فإنه ينتقد حالة الموسيقى المحلية في أفغانستان، ويقول إن البعض قد شوَّه صورة الموسيقى المحلية، وأساء إليها، ويرى أن بدخشان حافظت على أصالة موسيقاها منذ القدم.

«مفتون» يفتن طالبان

مع وصول طالبان للحكم وسيطرتها على زمام الأمور، حُظرِت الموسيقى والغناء، وغادر غالبية الفنانين والمطربين البلاد، لكن مفتون فضَّل البقاء في البلاد، وقال إن طالبان «تحترمه بشكل خاص» ولا علاقة لها بعمله، حتى تداولت وسائل التواصل الاجتماعي مقطع فيديو يظهر فيه مفتون وهو يعزف ويغني، بجانبه مجموعة من أعضاء طالبان ويغني معه أحدهم.

وكان مفتون قد استُدعي من قِبل أحد قادة طالبان الذي وصفه بـ «فخر بدخشان وعاصمتها»، وعلَّق مفتون بأنه لا علاقة له بأي فصيل سياسي، وأنه حزين على ما آلت إليه بلاده.

إن مير مفتون ليس مجرد مغنٍّ وملحن شعبي، بل هو فنان فريد من نوعه، وحضوره يسحر الكثيرين، فهو لا يغني فحسب، بل يروي القصص، وينشد الشعر، وفي أغانيه يتحدث عن هموم بلده وآلام شعبه، فقد اكتسب مفتون شعبيته بشخصيته النقية واللطيفة المتجذرة من أصوله الريفية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.