تشهد العاصمة الفرنسية باريس العديد من التظاهرات التي تضمنت سلسلة من أعمال النهب والشغب. الشرطة الفرنسية استخدمت القوة المفرطة لتفريق المتظاهرين، لكن لا يُفلح ذلك في تفريق أحد. بل تزداد الأعداد، وتشتد حدة الاحتجاجات. الشرارة الظاهرة كانت مقتل شاب فرنسي من أصول جزائرية. لكن يبدو أن تلك الحادثة كانت قمة الجبل الجليدي، وما تخفيه تحتها هو الشرارة الحقيقية والحادثة الأبشع.

يعيش المهاجرون في فرنسا في ظروف شديدة الصعوبة، تفتقر إلى ما يجعلها تُوصف بالآدمية. هؤلاء المهاجرون ليسوا أقلية بمفهومنا عن الأقليات. فقد قُدر عدد المهاجرين في فرنسا عام 2021 بسبعة ملايين مهاجر، ما يُعادل 10.3% من سكان فرنسا. تلك النسبة كانت 6.8% في آخر إحصاءات رسمية، والتي جرت عام 1968. يحمل قرابة 36% من هؤلاء المهاجرين الجنسية الفرنسية، لكن غالبًا ما يكون الحاصل عليها من أصل أوروبي، أو أحد والديه فرنسي.

أما النسبة الكبرى من المهاجرين التي تأتي من أفريقيا، فيعانون قبل الحصول على الجنسية، وقد لا يحصلون عليها في نهاية المطاف. روى بعض المهاجرين أنهم وصلوا إلى فرنسا منذ 23 عامًا، وظلوا طوال تلك الأعوام يحاولون تقنين أوضاعهم، ويسعون خلف أوراق الإقامة، لكن دون فائدة. رغم إحضارهم كافة الوثائق التي طلبتها السلطات الفرنسية.

تجدر الإشارة أن نصف عدد المهاجرين هو من أفريقيا، ففي عام 2021 كان المهاجرون من شمال أفريقيا وحدها قرابة مليونين. أما البقية فمن دول أفريقية مختلفة. تفرقهم الدول التي قدموا منها، لكن توحدهم فرنسا في عناء محاولات النجاة بأنفسهم من جحيم الضواحي الفرنسية. فهناك قرابة 700 ألف مهاجر تتعنت السلطات في منحهم أي أوراق ثبوتية، والبقية منهم تمنحهم تصريحًا للإقامة يحتاج لتجديد كل 3 شهور، ومن يعترض على هذه الأوضاع تخبره السلطات أن يعود لبلاده إذا لم يعجبه الوضع.

أحياء البؤس في باريس

لا تقف المعاناة على مجرد تعنت إداري، أو تضييق في الحصول على الجنسية، بل تمتد إلى أبسط الاحتياجات الأساسية. فبينما يشع النور من برج إيفل معلنًا أنك في باريس عاصمة النور، ينقطع النور عن عدد من العائلات المهاجرة التي لم تجد مكانًا إلا مرأبًا للسيارات تجعله بيتها. هؤلاء المهاجرون معلومون للسلطات المدنية، ويتلقون مساعدات غذائية منهم، لكن الدولة ترفض رؤيتهم، وتتركهم على أرصفة مرأب السيارات حتى يصبح بالنسبة لهم مخيمهم السكني الدائم.

أحيانًا يضم المرأب قرابة 90 خيمة. ويُعلق ساكنوه ملابسهم على أطرافه حتى يجف. ويعتمدون في أكلهم بشكل أساسي على صناديق القمامة المنتشرة حول المكان. ويستخدمون القمامة لغرض التدفئة، ولا يوجد مكان للاستحمام أو حتى دورة مياه ثابتة. وتأتي الشرطة الفرنسية يوميًّا لمثل هذه المخيمات العشوائية، تُحصي عدد الموجودين فيها، ثم تتركهم وترحل.

ومن يضيق بهم المرأب، أو لا يجدون مرأبًا في منطقتهم، ينصبون خيمتهم تحت أنفاق الطرق السريعة. فلا توفر فرنسا مخيّمات نظامية كما تفعل دول مثل ألمانيا أو بريطانيا. أما في فرنسا فالمهاجرون يعيشون في جيتوهات فقيرة، ولا تُعرض أمامهم خيارات كثيرة للخروج من هذا الفقر والمكان غير الآدمي، سوى الاشتغال بتهريب المخدرات أو الدعارة أو حتى الانضمام لجماعات متطرفة تحولهم لجهاديين. ومن يرفض تلك الاختيارات يظل قابعًا في بؤسه حتى يأكله الفقر أو يقتله المرض.

 تلك الظروف تتسبب في انفجار أحداث عنف باستمرار، فالشرطة والمهاجرون محتقنون بعضهم ضد بعض. فليست أحداث عام 2023 بجديدة على المجتمع الفرنسي، فقد جرت أحداث مشابهة عام 2005، وعانت فيها فرنسا من عنف متبادل بين الشرطة والمهاجرين. وتتخوف الشرطة كل عام في نوفمبر/ تشرين الثاني من قيام محتجين بإحياء ذكرى هذا العنف، لكنه تخوف تعالجه فرنسا بالقمع لا بتحسين الأوضاع ومحاولات تخفيف الاحتقان.

فالفقر يؤدي إلى الانفجار دائمًا. وقد أهملت الدولة بشكل متعمد سكان الضواحي، ما أدى سابقًا إلى تظاهرات السترات الصفراء. فالفقر وارتفاع البطالة هما المشكلة الحقيقية التي تلد كل هذه المظاهر الاعتراضية. بالطبع هناك القراءة اليمينية للمشهد التي تركز على الأحداث الراهنة باعتبارها حربًا يخوضها المسلمون ضد المجتمع الفرنسي. وتتحدث الدوريات اليمينية عن ضعف ورفض المهاجرين والمسلمين الاندماج داخل الحضارة الفرنسية.

منهجية أم عنجهية؟

من جهته لا يفعل الرئيس الفرنسي ماكرون الكثير لاحتواء الأزمة الراهنة. فقد ظهر في الأيام الأولى للاحتجاجات في مقطع مصوَّر مع زوجته يرقصان معًا، ما أثار انتقادات لاذعة من الجميع. وحين حاول التدخل استخدم نبرة شديدة مهددًا باعتقال الجميع، وأضاف أنه يحمل المسئولية لأسر الشباب المشاركين في الاحتجاجات. هذه التصريحات خلقت حالة من الشك في أن يكون لدى ماكرون خطة حقيقية للخروج من هذا المأزق.

وأن الرجل سوف يستمر في سياسته المعتادة بفعل ما يريد متحديًا الشعب الفرنسي كله. وهو الشعور الذي أظهرته استطلاعات الرأي بعد أن مرر ماكرون إصلاحاته لقانون التقاعد، فباتت تشير استطلاعات الرأي إلى حقد شعبي كبير عليه. خصوصًا أن ماكرون قاد فرنسا لحافة صعبة. فأفريقيا التي تُعتبر شريان الحياة لفرنسا باتت تضيق بالوجود الفرنسي فيها، وأوروبا لم تعد تهتم كثيرًا بمواقف فرنسا.

لهذا باتت معظم الصراعات التي تنشب في فرنسا بمثابة عراك شخصي مع ماكرون. ويخوض المعركة برهانه المعتاد على انقسام الشعب الفرنسي، وإسكاته للمحتجين بسبب ما يرافق الاحتجاجات من انهيار اقتصادي وتفشٍ للعنف. كما يُطلق يد الشرطة الفرنسية في القمع.

وفي الأحداث الحالية لا تحتاج الشرطة لمزيد من التفويض، فقد كشفت تصريحات اتحاد نقابات الشرطة الفرنسية أنهم يتعاطفون مع اليمين المتطرف في هذه الأحداث، ويتبنون رؤيته بأن المظاهرات سببها رفض المسلمين والمهاجرين الاندماج، وأن المهاجرين يحاولون تدمير فرنسا.

لكن في كل مرة كان يتضح خطأ مأكرون في قراءة المشهد. وأنه كان ينظر للأحداث باستعلائية شديدة. وأن الأحداث تستمر في الاشتعال، حتى لو خفتت حدتها قليلًا بمرور الوقت، إلا أنها تظل جمرًا تحت الرماد، ينتظر أقرب فرصة مواتية ليشتعل من جديد.

هيبة فرنسا سقطت

المختلف هذه المرة أن أحداث الشغب قد تتسع بسبب وجود حاضنة شعبية غاضبة من ماكرون. بسبب تراجع الحقوق والحريات عمومًا في فرنسا، ووجود فشل اقتصادي واجتماعي يشمل كافة الفئات. خاصة أن المظاهرات باتت تطالب باستقالة وزير الداخلية الفرنسي، وانسحاب وزير العدل كذلك. واكتفت بطلب اعتذار رسمي من ماكرون عما حدث. لكن في فورة غليان الأحداث يمكن أن ترتفع المطالبات لتطول ماكرون ذاته، إذا لم يتصرف سريعًا.

خصوصًا أن الرجل لم يضع أي حل لأزمة الضواحي عمومًا. واكتفى بإعلان أن نتائج اجتماعه مع خلية الأزمة هو العمل لاستعادة النظام بأي ثمن. وسوف يكلف 7000 شرطي لهذا الغرض. لا يرى ماكرون أن الشرطة الفرنسية قتلت وحدها 13 شخصًا لأسباب قريبة من العنصرية في السنوات الخمس الأخيرة، بينما قتلت الشرطة البريطانية شخصًا واحدًا فقط منذ 20 عامًا.

هذه الأحداث وغيرها تؤكد أن ماكرون خسر أهم شيء ظل يتحدث عنه طوال السنوات السابقة، هيبة الدولة الفرنسية. وأنه بعدم اكتراثه بالاحتجاجات، ومضيه في خططه، كان يستعيد ما هو أعمق، الهالة الدولية لفرنسا. لكن الواقع يقول العكس. بعدما أثار انتخاب ماكرون حماسة دولية، ودارت العديد من الرهانات الكبيرة عليه. إلا أن خيبة الأمل داخليًّا وخارجيًّا باتت هي المسيطرة حين يتعلق الأمر بفرنسا ماكرون.

فلم ينجح ماكرون مثلًا في مشروعه الخاص باستحداث ميزانية خاصة بمنطقة اليورو. ولم يجبر ترامب على تغيير موقفه من المناخ أو إيران، كما تباهى بذلك ماكرون. ولم يحقق أي إنجازات في ليبيا. فأصبح الحصان الأبيض الذي راهن عليه الجميع في منحدر الخسارة تباعًا، ويتفتت الدعم الشعبي من حوله، داخليًّا وخارجيًّا.

والآن بينما تعصف احتجاجات جديدة بفرنسا، يصر ماكرون على التعامل بنفس منطقه القديم والمعتاد. هذا المنطق قد يتعدى ضرره مجرد عدم حل أزمة الضواحي، أو سقوط المزيد من الضحايا في أعمال العنف. قد يكون ماكرون بذلك يقدم تذكرة مجانية لليمين المتطرف، وزعيمته ماري لوبان، لحكم فرنسا في الانتخابات القادمة، حينها ستتعرض فرنسا ومهاجروها للأزمة الحقيقية.