هناك نوعان من الجمعيات الخيريّة. الأولى تكون مقتصرة على العمل الخيري، معتزلةً العمل السياسي، وذاك نوع يحبه الجميع. الثانية أن تخلط بين العمل الخيري والعمل السياسي. هذا النوع إما أن يوظف ذلك الخلط لتلميع السلطة، إذا كان تمويله يأتي منها. أو لمعارضة السلطة، إذا كان تابعًا لجماعات المعارضة. لكن جاء «مُحمد بن سلمان» عبر «مسك الخيرية» ليقدم لنا نموذجًا جديدًا ومغايرًا لما تعوّدناه.من المُجحف اختزال مهمة «مسك» بالدعاية لعهد «ابن سلمان». لكن يمكننا القول بأن دورها يتخطى إصلاح الحاضر إلى إعداد المستقبل. وأنها تحمل على عاتقها همًا يفوق هم سياسة الحاضر وتقلباته. إنّما مهمتها أن تخلق جيلًا من الشباب يتقبل انفتاح «ابن سلمان» بسلاسة. ما يُخفف من حدة المعارضة التي يمكن أن تلقاها سياسة الملك الجديد. بل أن يكون الجيل الجديد هو الحجة القوية لـ «ابن سلمان» في هدم التقاليد المتأصلة للمملكة.


«مسك الخيرية»: الفتح «السلماني» لمكة

لتعبيد المستقبل، ونسف موروثات الجد المُؤسس والأعمام السابقين، جاوزت «مسك» الحد المعروف لمهام المنظمات الخيرية. بدأت بإنشاء سلسلة مدارس مسك، وأعادت ترميم مدارس الرياض فكريًا بما يتوافق مع المنهج الأوروبي الحديث في التعليم. تدثرت مدارس مسك بعباءة جامعة هارفارد و «خان أكاديمي». وخرجت عن عباءة هيئة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» التي كانت رقيبًا أبديًا على مناهج التعليم. في مدارس مسك تجد الرسم، المسرح، الأفلام، وحصص تعليم التمثيل، كل ذلك مباح.ويبدو أن الحصانة التي تُحيط بـ «مسك» ألجمت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن انتقاد برنامج «قيادات». البرنامج قدّمته المنظمة لتدريب النساء ليكن قياديّات بارعات في دولتهن. ولتساعدهنّ «مسك» في أن يصبحن فاعلات ومؤثرات في الأماكن التي يعملن فيها. وأن تُيسر «مسك» فرص وصول المرأة إلى المناصب العليا في المؤسسات السعودية. وتلك ليست عادة الهيئة أمام مشاريع كتلك. فلم تكن تكتفي بالانتقاد، بل كانت التهم الفضفاضة تلاحق القائمين على العمل حتى ينتهي الأمر بهم في السجن.كذلك أطلقت «مسك» برنامج «مسك الشرق الأوسط» لتدريب الشباب السعودي في جريدة «الشرق الأوسط» بلندن. وأطلقت برنامج «زمالة» تتيح فيه المؤسسة للشباب السعودي متابعة دراستهم في عدد من الجامعات الأوروبية، وتتكفل هى بنفقات الدراسة. وعقدت شراكة مع «جوجل»، ومع مؤسسة «بلومبيرج»، ومع مؤسسة «سمينز» الألمانية، ومع شركات «جنرال إلكتريتك»، وأخيرًا في مايو/آيار الماضي أودعت أموالًا في صندوق لدعم المرأة ترعاه «إيفانكا ترامب».طغى دور «مسك» حتى جاوز وزارات المملكة أجمع. فالمنظمة الخيرية أقامت مؤتمرًا عن الإرهاب. حضر فيه الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب»، شيخ الأزهر «أحمد الطيب»، وزير خارجية الإمارات «عبدالله بن زايد»، وباركه حضور وزير خارجية السعودية «عادل الجبير». تولت «مسك» المُؤتمر من البداية إلى النهاية. دون الإشارة إلى وزارة سعودية واحدة، أو الإشادة بمسئول سعودي واحد، فقط رئيس مجلس إدارتها وولي العهد «محمد بن سلمان».كذلك أقامت معرض «طريق البخور» في باريس. قامت فيه بعرض الأعمال الفنية لأكثر من 30 فنانًا وفنانة سعودية. في محاولة ضمن محاولات كثيرة من قبل «مسك» لتصدير صورة جديدة إلى العالم الأوروبي. صورة ولي العهد المُثقف المُنفتح، وصورة المملكة التقدّمية، الراغبة أخيرًا في دخول القرن الحادي والعشرين.

إذن، مهمة «مسك الخيرية» تتعدى أعمال الخير المعروفة إلى أعمال السياسة. وتترك عموم أعمال السياسة إلى خاصة العمل السياسيّ الهادف إلى توطيد دعائم دولة «ابن سلمان» بين شباب المملكة، وبين العالم الغربيّ في آن. وإن كانت الأنشطة السابقة لا تُؤكد هذا بشكل قاطع، فإن وجود «بدر العساكر» على رأسها يُؤكد ذلك.


«بدر العساكر» : خازن جنة «ابن سلمان»

بسرية مُلفتة يصل «العساكر» إلى فرنسا. ورغم التباعد «الظاهر» بين المملكة وفرنسا بعد وصول ماكرون إلى السلطة، فإن ماكرون كان في استقباله. رئيس دولة بحجم فرنسا، وبغرور وعنجهية ماكرون، يستقبل رئيس جمعية خيرية، أليس الأمر مثيرًا للتساؤل؟ وما يجعل التساؤل يصل إلى مرتبة الشك أن اللقاء لم يكن مدونًا في أجندة اللقاءات الرسمية للرئيس الفرنسي.حتى وقتٍ قريب لم يكن «العساكر» بدعًا من الشباب السعودي. شابٌ ولد لأسرة ثرية. يتخرج في الجامعة. يتولى إدارة تجارة العائلة. 10 محال للأجهزة الكهربائية. ثم تأتي الترقية؛ فيصير نائب رئيس اتحاد الصالحية للتمور والحلويات. وينجح في الحصول على عضوية العديد من الهيئات، كمجلس الغرف التجارية وغيره. بعد ذلك، يصير الأمين العام لجائزة الملك سلمان لشباب الأعمال. وقبلها، كان مستشارًا للأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير الرياض آنذاك.كل ما سبق يرتبط بشكل أو بآخر بطبيعة عمله التجاري. لذا، لا شيء يلفت الأنظار. لكن عام 2011 يقوم «مُحمد بن سلمان» بإنشاء «مسك الخيرية»، وبعد تأسيسها يأتي تعيين «العساكر» أمينًا عامًا لها. ما علاقة «بدر العساكر» بآل سلمان؟

العلاقة قديمة، تمتد إلى سنوات الدراسة في جامعة الملك سعود بالرياض. هذه الصداقة، والأسرار المُشتركة، هى التي دفعت «العساكر» العام الماضي إلى قيادة حملة على حسابه على «تويتر» يشيد بجهود «زميل دراسته» في إصلاح البلاد تكنولوجيًا. دافع عن انفتاح صديقه على العالم، ورغبته في أن ينقل السعودية إلى العصر الحديث. ولم يتوقف الأمر عند حدود مواقع التواصل الاجتماعي، بل تخطاه إلى صحيفة التلغراف البريطانية في مقالة مميّزة تتحدث عن أهداف الأمير «ابن سلمان» ،لم يكن وليّ العهد آنذاك، من وراء «مسك».

زلزال تعيين «محمد بن سلمان» وليًا للعهد يضرب السعودية. «العساكر» أول من يقدم المساعدة لصديقه عبر إذاعة فيديو مُبايعة وليّ العهد السابق «محمد بن نايف» لـ«ابن سلمان». وبعد شهر واحد يصدر مرسوم ملكيّ في يوليو/تموز 2017 بتعيين «العساكر» مديرًا لمكتب ولي العهد بمرتبة وزير. بإضافة المنصب لما يشغله «العساكر» من مناصب يصبح الرجل الثاني في المملكة. والبئر السحيقة التي تحوي أسرار «ابن سلمان» وأحلامه وخططه.هذه الصلاحيات الواسعة لـ«العساكر»، والأنشطة العديدة والمُتبانية لـ«مسك»، تجعل الهدف المُعلن منهما ليس مقنعًا. وحتى هذه اللحظة، فإنّا لا نحصل منهما على إجابات بقدر ما يشعلان من أسئلة.