في الرابعة عشرة من عمره سافر إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي إلى فيينا عاصمة النمسا، ليُعالَج من رمد صديدي، فقضى بها عامين، ثم انتقل إلى باريس، لكنه لم يُفتَن بجامعاتها ومصانعها، فلم ينضم إلى جامعة، واكتفى من العلم بقسط ضئيل من علوم الهندسة والرياضة والطبيعة، وهو قدر لا يؤهل لتكوين عقلية ناضجة متكاملة. فتنت باريس إسماعيل بشيء آخر، بجمال شوارعها ومبانيها، فأراد أن ينقل باريس إلى القاهرة.[1]

ليس السؤال: لماذا يُمدِّن إسماعيل مصر؟ فمنْ ذا الذي يبغض لوطنه التقدم والرقي لكي يصير متطورًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا وتكنولوجيًّا؟ السؤال الأكثر أهمية: كيف يمكن ترقية البلاد وتحديثها؟ وما الذي نأخذه من أوروبا (ولا أقول: ننقله)؟

خلال 12 عامًا فقط (ما بين 1863 – 1875) حفر الفلاح المصري وبالسخرة 112 ترعة طولها 8400 ميل، ومدَّ 910 خطوط من السكك الحديدية، و900 ميل من الأسلاك التلغرافية، وشيَّد 430 من الجسور والكباري، و64 مصنعًا للسكر، و15 فنارًا، وأصلح ميناء الإسكندرية، وبنى أرصفة ميناء السويس، وشيَّد ونظَّم شوارع القاهرة وغيرها من المدن.[2]

فما هي الخطايا التي اقترفها إسماعيل؟

تحديث بالديون

في سبيل حلمه بجعل مصر قطعة من أوروبا استدان إسماعيل، فلم يكن لرءوس الأموال المصرية نصيب في مشاريع إسماعيل الكبرى[3]، لم يقم إسماعيل بتدوير عوائد القطن والإيرادات، واستسهل في المقابل اللجوء إلى الاقتراض.

تولَّى إسماعيل الحكم، وديون مصر 11 مليون جنيه، فتركها وديونها تقترب من مائة مليون جنيه، وفائدة ديون تبلغ 6 ملايين جنيه[4]، في بلد لم تتعد ميزانيته 10 ملايين ونصف مليون في أقصى سنوات الرواج الاقتصادي.

استدان إسماعيل قروضًا بربا فاحش، وفوائد سمسرة باهظة، ثم أنفقها إمَّا لشراء الأراضي والأطيان، أو بناء القصور الفارهة، أو شراء لقب الخديوي من إسطنبول، وشراء تغيير نظام وراثة العرش ليكون لصالح أكبر أنجاله بدلًا من أكبر رجال عائلة محمد علي، أو الاستحواذ على إعجاب ملوك أوروبا في حفل افتتاح قناة السويس.[5]

يقدم الدكتور «محمد فهمي لهيطة» تحليلًا اقتصاديًّا لديون إسماعيل، ومنه نرى أن عاهل مصر أنفق 16 مليون جنيه في قناة السويس، 40 مليونًا في الأعمال العامة، 22 مليونًا خسارة إصدار القروض، 20 مليونًا غير واضحة الأغراض التي أُنفقت فيها، ليبلغ المجموع الإجمالي 98 مليونًا.

غالبية قروض إسماعيل أُنفقت على أعمال لم تكن ضرورية، كالحصول على فرمانات وإقامة الحفلات وإنشاء القصور، وغيرها من الأعمال التي لا تأتي بأي إيراد مالي يمكن أن يُسدَّد منه فوائد الدين وأقساطها، وضاع جزء كبير من القروض كمصروفات سمسرة، ولم تستفد مصر إلا بأقل من نصف المبالغ المقترضة، وهو ما أُنفق على الأعمال العامة.[6]

وبعد مقارنة بين إيرادات الدولة ومصروفاتها يخلص لهيطة إلى نتيجة مهمة:

لولا القروض وأقساطها وعبء تسديد فوائدها لنهضت مصر نهضة مباركة معتمدة على موارد خزانتها العامة، وهي موارد كانت تكفي للقيام بجميع الإصلاحات لمن يُحسِن تدبير شئونه وشئون حكومته وأمته.[7]

لو لم ينبهر إسماعيل بأوروبا، ولم تأسره الرغبة في تغيير هوية مصر نحو الهوية الأوروبية، ولو اعتمد على أبناء بلده وموارده الذاتية، لنهضت مصر، وأخذت موضعها بين دول القرن التاسع عشر.

الغريب أن إسماعيل رغم الديون استمر في الاقتراض، حتى إنه أنفق على حفل قناة السويس وحده ما يقرب من مليون و400 ألف جنيه[8]، ربما لاعتقاده أن القصور الفارهة، وما يقيمه فيها من حفلات وولائم، هي الوسيلة الأجدى للتأثير على الأوروبيين بأن خزائنه مملوءة لا تنفد، فلا يتوقفون عن إقراضه.

وهكذا عاشت مصر هذه العلاقة الطردية: كلما تزايدت ديون عاهل مصر، تزايد إسرافه وبذخه في إقامة الولائم والحفلات.

أمَّا الغرب، فقد فتح أبواب بنوكه وبيوته المالية لإسماعيل يغترف كيفما شاء، دون اشتراط لأية ضمانات للتحقق من سلامة المشروعات التي يمولها المُقرضون، أو ربط القروض بقدرة مصر على السداد، فمضى إسماعيل في طريق الاستدانة بلا تبصُّر، يُزيِّن له الأجانب مشاريع فرنَجة البلاد، وكلما تمادى إسماعيل في فرنجة مصر وتغريبها، فقدت استقلالها المالي ثم الاقتصادي والسياسي، واحتلها الأجانب من قبل أن تطأها قدم جندي أجنبي.

كلما تمادى إسماعيل في فرنَجة مصر تزايدت الديون، وكلما تزايدت الديون تزايد الضغط على الفلاحين بالضرائب، وكلما تزايد الضغط على الفلاحين تزايدت معدلات هجرة الأراضي الزراعية وفقدان مصر لثروتها الزراعية ومصدر قوتها ودخلها القومي، وبالتالي زاد اعتمادها على الغرب، وهكذا تدور البلاد في دائرة مفرغة.

ومن سوء حظ مصر أن إسماعيل لم ينتبه إلى نيات الدول الأوروبية إلا في أواخر أيام حكمه، وكان الوقت قد انقضى.

حثالة الأجانب

أخطأ إسماعيل للمرة الثانية في تنحية أهل مصر، والاعتماد على الأجانب والشركات الأجنبية في تنفيذ مشروعاته، وهؤلاء لم يكونوا أبدًا من المخلصين، بل ثُلة من اللصوص والأفاقين. الكتابات الأوروبية نفسها تصفهم بأنهم «حثالة أوروبا» التي قذفت بها أمواج شمال البحر المتوسط إلى شاطئ الإسكندرية، وأنهم «من المشبوهين وأرباب السوابق».[9]

من الأمثلة على خسة أولئك الأجانب أنهم قدَّروا تكاليف الإنشاءات بأضعاف تكلفتها الفعلية. أخذ منْ تعهَّدوا لإسماعيل بإنشاء مرفأ الإسكندرية 80% فوق ما يستحقون، وأخذ منْ كانوا يمدون السكك الحديدية أكثر من أربعة أمثال ما يستحقه العمل، وكذلك فعل منْ أقاموا معامل السكر وآلات جلب المياه وغيرها.[10]

وبعد 12 عامًا من حكم إسماعيل بلغت ديون مصر نحو 100 مليون جنيه، استفادت من 40 مليون جنيه فقط في الأعمال العامة، وذهب 20 مليونًا للدائنين ووكلائهم على هيئة سمسرة، وتكاليف أخرى ما أنزل الله بها من سلطان.[11]

الأوبرا والفلاح

أخطأ إسماعيل حينما تملَّك فؤاده شغف بزخرف الحياة الأوروبية، ففي محاولته لتحديث مصر اهتم بالقشرة الخارجية، دون أن يوجِّه نفس القدر إلى «تمدين الشعب».

أراد إسماعيل أن يجعل «مصر قطعة من أوروبا». لم تكن مصر التي يريدها إلا القاهرة، ولم تكن القاهرة إلا منطقتي الجزيرة وحي الأزبكية. منح إسماعيل الأراضي بالمجان لمن يلتزم ببناء منزل لا تقل تكلفته عن 30 ألف فرنك، وهو ما يعني بالضرورة منحها للأثرياء، فاختفت حواري الفقراء والشوارع الضيقة، وحلَّت محلها قصور الأثرياء على الطراز الأوروبي والحدائق والشوارع العريضة.[12]

بنى دارًا للأوبرا في حي الأزبكية على الطراز الفرنسي. وصارت المياه المعدنية في حمامات حلوان وصفة أوروبية لعلاج الأرستقراطيين من التخمة، فمدَّ لها خطًّا حديديًّا يربطها بالقاهرة.[13]

نازع القاهرة الخديوية عملية التحديث على النمط الأوروبي مدينتا الإسماعيلية والإسكندرية، وتحديدًا «حي الرمل»، ضاحية تُزيِّنها الحدائق الغناء، مؤهلة لسكنى رجال القطن الأوروبيين الأثرياء.[14]

هذه هي مصر التي تنشر صورها صفحات التواصل الاجتماعي وتتغنى بجمالها أيام زمان؛ أحياء يسكنها المترفون من النخبة الحاكمة والأجانب.

وفيما الأثرياء يعانون من التخمة ويلتمسون علاجًا لها في حمامات حلوان، عانى فلاحو مصر من الفاقة والضرائب وسوء الخدمات والسخرة[15]، القاهرة الخديوية تتلألأ بزخارف فرنسية على ضفاف النيل، والنيل يبكي وينتحب في القرى والنجوع.

كل قصر عامر وبستان غنَّاء وكوبري يُشيَّد في المدينة كان يُخصَم من ميزانية الريف، فانقسم المجتمع إلى: طبقة موسرة ومتوسطة في المدن، تعيش في القصور والدور، وتتعلم تعليمًا أوروبيًّا، وطبقة العمال والفلاحين المعدمين، وهم غالبية السكان. صار الريف لدى الأثرياء شكلًا «فلكوريًّا»، السفر إليه عبارة عن رحلة بآلة الزمن لمشاهدة العصور الوسطى الأوروبية.

اقتصاد تابع

في أبريل/نيسان 1861 اشتعلت الحرب الأهلية في الولايات المتحدة الأمريكية، بين ولايات الجنوب الزراعية وولايات الشمال الصناعية. جنَّدت 11 ولاية جنوبية كل رجل بين الرابعة العشرة والخامسة والخمسين، فلم تزرع من القطن إلا قليلًا، وحتى هذا القليل منع الأسطول البحري للولايات الشمالية وصوله إلى أسواق أوروبا، فاشتدت الحاجة إلى القطن في الغرب، وبدأت «حمى القطن» في مصر، لم يعد للناس من حديث إلا عن الذهب الأبيض، الذي ارتفع ثمنه من جنيهين إلى 9 جنيهات.

رغم الرواج، لم يستفد إسماعيل وكبار الملاك من عوائده المالية، فالمشروعات التي عرفتها مصر آنذاك استهدفت مصالح أوروبا. تنمية تابعة لا تنمية مستقلة. فالترع التي حُفرت لري الأراضي المزروعة بالقطن، والمحالج لكي تهيئ المحصول للتصدير، والسكك الحديدية لنقله من مناطق زراعته إلى موانئ التصدير، والخطوط التلغرافية لربط البلاد بأوروبا.[16]

لم نرَ في مشاريع الخديوي مشروعًا واحدًا لإنشاء اقتصاد صناعي قوي. لم يحاول، والمحاولة هي أضعف الإيمان، تقليد تجربة بريطانيا في مجال صناعة الغزل والنسيج مثلما قلَّد أوروبا في تخطيط الشوارع وتشييد القصور الفخمة.

خلقت أوروبا نخبة رسمية وطبقة كبار ملاك لخدمة مصالحها، وها هي تؤدي دورها خير أداء، قانعة بمركز التبعية، غير طامحة إلى إقامة تنمية ذاتية.

مهَّدت سياسة إسماعيل الأرض للاحتلال الاقتصادي والثقافي قبل أن تطأ أقدام الجنود البريطانيين أراضيها عام 1882.

المراجع
  1. عبد الرحمن الرافعي، عصر إسماعيل، الجزء الأول، الطبعة الثانية، 1948، مكتبة النهضة المصرية، ص 69 “نشأة إسماعيل”.
  2. أحمد رشدي صالح، دراسات في تاريخ مصر الاجتماعي، سلسلة تاريخ المصريين، ص 6، 20. محمد فهمي لهيطه، تاريخ مصر الاقتصادي في العصور الحديثة، ص 318، وهو يري أن هذه الإنشاءات هي الوحيدة التي استفادت منها البلاد من الديون التي غرق فيها إسماعيل.
  3. لهيطه، تاريخ مصر الاقتصادي…، ص 282.
  4. لهيطة، ص 323.
  5. الرافعي، عصر إسماعيل، ج 2، دار المعارف، الطبعة الرابعة، ص 33: 54. تميم البرغوثي، الوطنية الأليفة: الوفد وبناء الدولة الوطنية في ظل الاستعمار، دار الكتب والوثائق القومية، الطبعة الثانية، 2012، ص 38.
  6. لهيطة، ص 320، 321.
  7. لهيطه، ص 339.
  8. صالح رمضان، الحياة الاجتماعية في مصر في عصر إسماعيل من 1863-1879، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1977، ص 90.
  9. ديفيد لاندز، بنوك وباشوات، ترجمة عبد العظيم أنيس، كتاب الأهالي، ص 81. جون مارلو، تاريخ النهب الاستعماري لمصر، ترجمة عبد العظيم رمضان، الهيئة العامة للكتاب، 1976، ص 125، 151.
  10. تاريخ المسألة المصرية، ترجمة عبد الحميد العبادي ومحمد بدران، لجنة التأليف والترجمة والنشر، الطبعة الثانية، 1936، ص 40، 42.
  11. لهيطة، تاريخ مصر الاقتصادي، ص 319.
  12. السربوني، الإمبراطورية المصرية في عهد سماعيل، ج 1، مكتبة الأسرة، 2012، ص 199، 200.
  13. جون مارلو، تاريخ النهب الاستعماري لمصر، ص 152.
  14. صالح رمضان، الحياة الاجتماعية في مصر في عصر إسماعيل، ص 18: 22.
  15. نفس المعاناة موجودة إلى اليوم، قوم محتارون، أيشترون فيلا بجنينة واحدة أم بثلاث جنائن؟! وقوم يبحثون عن عرض ترويجي لسلعة يوفر لهم قروش!
  16. فوزي جرجس، دراسات في تاريخ مصر السياسي منذ العصر المملوكي، العربي للنشر والتوزيع، ص 71، 72. عليّ بركات، تطور الملكية الزراعية في مصر وأثره على الحركة السياسية 1813-1914، دار الثقافة الجديدة، ص 274. عمر الإسكندراني وسليم حسن، تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر، مكتبة مدبولي، الطبعة الثانية، 1996، ص 286.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.