بدأت الحداثة الغربية وانتهت، بل وأصبح الحديث عن مقوماتها متجاوزًا قيمًا مثل العقلانية، والحرية، والفردانية التي أصبحت من مُسلّمات الحياة ووجودها، والتعامل على أساسها باتَ كأمرٍ واقع لا جدال فيه. إلا أن الوضع في العالم العربي لم يتبلور بعد، يدخل في ذلك الوضع السياسي، والاجتماعي، والديني بالأساس كوننا مجتمعًا يتخذ من هويته الدينية أساس وجوده ووحدته.

لقرونٍ متتالية ترتفع الأصوات لمواجهة أي دعوة حداثية جديدة، مرة لحفظ التراث الإسلامي بغض النظر عن حاجته إلى إعادة النظر، ومرة للدفاع عن مبادئ الممارسة الدينية التي أُسِّست حسب اجتهاداتٍ فردية في أغلبها، وأصبحت قواعد مقدسة بحكم الواقع يُسكَت أي صوت يدعو لمراجعتها، ومرة أخرى بدعوى عدم التبعية العمياء والانقياد وراء الدعوات الغربية بحكم أنها لا تناسب مجتمعاتنا، يُرفع هذا التبرير في كل الحالات تقريبًا، السؤال هنا ما دامت لا تناسبنا الحداثة الغربية، فلماذا لم نخلق نحن حداثةً بمقوماتٍ مناسبة عِوَض البقاء في غياهب القرون الوسطى لا ننادي إلا بعودة حلم الخلافة ووحدة الأمة؟

إن كانت الحداثة في جوهرها تقوم على إعادة النظر في كل ما هو موروث منقول، والعمل على اتباع مسارٍ معتمِد على قوة العقل ومعرفته وإدراكه، وقوة الإرادة في الاختيار والعمل بحرية دون الرضوخ إلى سُلطة التبعية والانقياد، وقوة الفرد في كَونِهِ صاحب السلطة الأول والأخير دون الرضوخ لعائلة أو قبيلة أو تقاليد، لننتقل بعدها إلى حداثة الأسرة ثم الدولة ثم المجتمع بأكمله، فيظهر لنا من واقع الحال أن الحداثة التي قاومناها خلال القرون الماضية ستظل عالقة في سماء أحلام المفكرين ولن يتسنى لها الهبوط لتُمارَس كواقع.

لكن التساؤل هنا، لماذا لم تناسبنا الحداثة؟ ألا يمكن أن نتشبع بمقوماتها؟ أن نُحكِّم العقل والفرد بحرية؟


مقومات الحداثة

في تحكيم مبدأ العقل إيمانٌ بكينونة الإنسان العاقل، وبقدرته على التصرف وفق الواقعية التي يُعمِل بها عقله في تعامله مع الكون ومع الطبيعة، بل ومع المجتمع أيضًا فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية والسياسية، ليكون العقل كما وصفه «هيجل» في كتابه «فينومينولوجيا الروح» بأنه: «ينصب رايته على كل القمم وفي كل الهاويات علامةً على سيادتِه».

وفي فردانية الإنسان امتلاك هُوية خاصة لا يشاركه فيها أحد، هوية متفردة تخصّه وحده، ثم رغبته في الاعتراف بخصوصيته واحترامها، وهذا عكس التصور القديم الذي لم يكن يعترف إلا بالجماعة والقبيلة والانصهار والاندماج داخلها، حيث تغيب الذات والأنا والفرد في مقابل حضور الكل والجوهر والجملة، بالتالي فالفرد لم تكن له قيمة في ذاته بمعنى قيمة شخصية، وإنما قيمته في قومه.

من هنا جاءت دعوة الحداثة إلى الفرد بما هو فرد، يعترف الآخرون بواقعه وقيمته وكرامته على أن يعترف هو أيضًا بفردانية الآخرين وقيمتهم وكرامتهم وحقوقهم كأفراد. لتتجسد بعد ذلك الحرية في إعلائها للإرادة البشرية فردية كانت أو جَمعية، والمجتمع المنفتح الفعّال الذي يتجسد في المجتمع المدني المتحرر من تبعية الدولة.


إشكالية الحداثة العربية والتراث

إننا نؤمن ونقول منذ قرون إن الموروث من ثقافتنا مبنيّ على العقل إطلاقًا، والتساؤل هنا عن أي عقلٍ نتحدث؟ ولو كان الأمر حقًا، فلماذا تخلفنا؟ ألا يخطر ببالنا أن نتساءل وحياتنا اليوم تشهد على ضروبٍ من المعقول لا حدَّ لها، أو لا يكون العقل الموروث، العقل الذي نتصوره ونعتزّ به، هو بالذات أصل الإحباط؟
«عبد الله العروي» من كتاب «مفهوم العقل»

إن كانت الحداثة في أبسط مفاهيمها تعني المُضيّ قُدمًا في إطار كل ما هو حديث مُستجد، دون الحاجة إلى النظر لكل ما هو موروث من الماضي الممتد، سواء أكان موروثًا دينيًا أم اجتماعيًا، وإن كانت الحداثة الغربية إنما بدأت مع التخلي عن سلطة الدين وتحكّمه في الحياة العامة، وهو ما ساعد على الوقوف على مقومات الحداثة الثلاثة مستخدمين العقل المادي في نقد أي فكرة مهما كانت.

فإشكالية الحداثة العربية تتجسد دائمًا في صدامها مع التراث الإسلامي ذو الطابع الديني في شِقِّه الأكبر، الأمر الذي يقف حائلًا عندما يتعلق الأمر بفكرة القطيعة مع الماضي من أجل العمل على المستقبل. إلا أن هذه الفكرة لا تعدو أكثر من فكرة مُجحفة للعقل العربي أولًا، ثم لحمولته التاريخية ومرجعيته الدينية، فالفكرة ببساطة يلخصها «محمد عابد الجابري» بقوله:

بمعنى أنه وإن كانت الحداثة الغربية قامت على القطيعة مع التراث، فهذا لا يعني بالضرورة أن الحداثة العربية لن تقوم إلا بمعزل عن التراث، بل يجب على الحداثة العربية أن تخلق شروطها وفق سياق الحياة والتجربة والظروف السائدة في مجتمعها.

وبالعودة إلى الموروث الديني نجد أنفسنا ببساطة أمام معيارين رئيسين، الأول، يتعلق بمبادئ دينية محضة لا يمكن الخروج عليها أو حتى محاولة النقاش فيها، والثاني، يرتبط بمعايير تأسست على تأويل النصوص الدينية وفق مُعطيات معينة، وبالتالي تم استخراج وتحديد الأحكام بناء على هذا السياق، العنصر الثاني، هو مجال النظر، وهو أساس بناء الحداثة العربية المتصادمة مع التراث الإسلامي.


إعادة النظر للتراث

الحداثة مشروطة بظروفها، تختلف من مكان لآخر، ومن تجربة تاريخية لأخرى.

إعادة النظر إلى بعض المعايير التي نتمسك بها كمعايير دينية محضة، لا تعدو في حقيقتها أكثر من كونها تقاليد جرى العمل بها وفق ظروف التأويل وظروف الحياة، وأصبحت بحكم العادة عُرفًا دينيًا توارثته الأجيال، والأكثر من ذلك أنها أصبحت متجاوزة بحكم التغير الزمني والمادي التكنولوجي الذي تتابع على مدى عقودٍ وقرون. واستمرار الأخذ بها هو بمثابة تطبيق عملي لمقولة «ابن خلدون»:

اتباع التقاليد لا يعني أن الأموات أحياء، بل إن الأحياء أموات.

في حين أننا بمجرد العودة إليها والنظر في سياقها نجد أنها ببساطة فُصِّلَت في سياق واقع متناقض تمامًا مع واقعنا الحالي، بمعنى أنها وقفت عند مسألة التأويل. وهو ما وصفه محمد عابد الجابري في كتابه «الحداثة والتراث»، بضرورة تجاوز الفهم التراثي للتراث، بمعنى:

تجاوز الفهم الذي يأخذ أقوال الأقدمين كما هي، سواء تلك التي يُعبرون فيها عن آرائهم الخاصة، أو التي يرون من خلالها أقوال من سبقوهم.

لا بأس إذن من إعادة تأويل بعض النصوص، واختبار مدى مناسبتها، وعلى هذا الأساس يكون الاختيار، القطيعة معها كموروث والأخذ بتأويلها الجديد، وإلا فالاختيار الآخر هو البقاء حبيسي الفكرة المتجاوزة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.