فن السيرة الذاتية من الفنون الكاشفة، ليس عن طبائع النفوس وكوامنها فحسب، ولكن، وهو الأهم، عن أنماط الاجتماع وصور التدين وتحيزات السياسة وطبيعة المنظومات القيمية ومدى تجذرها، إضافة إلى تفاصيل إنسانية واجتماعية أخرى جد كثيرة. وحقيقة الأمر أني أعتبر السير والتراجم، وكتب الطبقات والرجال، ومعاجم الأعلام هي أهم ما أنتجته الإنسانية طوال تاريخها، أهم من كل السفسطات الفلسفية والجدالات الكلامية والنطاعات الفقهية، وما ذلك إلا لأن السير والتراجم وأخبار القوم هي جُلّ ما يبقى على الحقيقة من جملة اللغو النظري الذي يُنفق بنو الإنسان أعمارهم القصيرة في تشقيقه، هي المرآة الحقيقية العاكسة لمدى إخلاصهم لما ادّعوا، بل ولحجم تناقض الظاهر والباطن، والمجبول والمكتسب.

السير والتراجم وأخبار القوم هي جُلّ ما يبقى على الحقيقة من جملة اللغو النظري الذي يُنفق بنو الإنسان أعمارهم القصيرة في تشقيقه

ولعل السيرة الروائية التي صدرت عن المغربية «مليكة أوفقير»، عام 1999م، هي من السير شديدة الكشف، ربما بغير قصد، وذلك رغم أن صاحبتها لم تدونها بنفسها، وإنما زودَت الكاتبة الروائية «ميشيل فيتوسي» بقصتها وقصة أسرتها؛ لتتولى الأخيرة بناء النص نيابة عنها.

ولا يمكن فهم قصة حياة مليكة أوفقير وأسرتها إلا بوصفها قصة «تغريبة» أسرة فرنسية في المغرب، أسرة حُرمت عائلها الذي كان أقوى رجل في البلاد (أقوى فعليًا من الملك الحسن الثاني نفسه)، واضطُهدت في بلدٍ «غريب»، غريب ليس فقط لأنها تصِفُ نفسها في الصفحة الأخيرة بأنها فرنسية الهوى والثقافة واللغة والتفكير (برغم احتفائها بانتمائها الإثني للمغرب)؛ بل لأن هذا فعلًا ما برهنت عليه طوال سردها لقصتها، ابتداءً من نمط معيشتها قبل السجن، وزمرة أصدقائها المقربين (الممثل «آلان ديلون»، ونجل الملك السعودي فهد، وابن شقيق وزير الدفاع الإسرائيلي «موشيه دايان»)، ومرورًا بالحياة في القصر الملكي طوال أحد عشر عامًا، إذ تبناها محمد الخامس ثم ولده الحسن، وحياتها في قمة الطبقة المخملية بعد رجوعها لأسرتها، واعترافها بأنها تجهل كل شيء عن الشعب المغربي وحياته، وانتهاءً بنوع الكتب والبرامج الإذاعية التي كانت سلواها طوال عشرين عامًا من السجن. ثقافة فرنسية محضة، برغم تعلمها للعربية الفُصحى في البلاط الملكي. ومن ثمّ، لم يكن مستغربًا اعتناقها للكاثوليكية بعد إطلاق سراحها؛ فهي تعرف عنها أكثر بكثير مما تعرف عن الإسلام، وهي في ذلك تشبه الإيرانية «آذر نفيسي» بدرجة كبيرة.

وإذا كنت أعتبر نفسي خبيرًا إلى حد ما بأدب السجون، الذي قرأت فيه ما يربو على المئة كتاب ورواية لجنسياتٍ مُختلفة؛ فإن هذا الكتاب أضعفها على الإطلاق من حيث القدرة على إثارة تعاطفك الإنساني المجرد والشامل، وإن كان لا يفشل في انتزاع قدرٍ من التعاطُف في مواقف محدودة ترثى فيها لأطفال أغرار فقدوا براءتهم، وتشوهت نفوسهم تشوهاتٍ عميقة بيد القهر والعسف والجبروت الملكي، تشوّهاتٍ يصعُب إن لم يستحل علاجها.

ما أنا على ثقة منه أن كارهي الأنظمة الملكية عمومًا، والنظام المغربي خصوصًا، سيزداد احتقارهم وكراهيتهم لتلك الأنظمة بعد قراءة هذه السيرة الروائية

لكن ما أنا على ثقة منه أن كارهي الأنظمة الملكية عمومًا، والنظام المغربي خصوصًا، سيزداد احتقارهم وكراهيتهم لتلك الأنظمة بعد قراءة هذه السيرة الروائية. ولا أظن القارئ قد يتمكن من تشكيل صورة حقيقية للوضع الإنساني المأساوي للمغاربة تحت حكم هؤلاء الطواغيت، الذين تسمّوا بإمارة المؤمنين وتعاونوا مع اليهود وفتحوا البلاد لبعثات التنصير، إلا بقراءة عدة كتب أخرى على التوازي؛ أولها هي الرواية المزعجة: تلك العتمة الباهرة، لـ «الطاهر بن جلون»، والتي تحكي قصة أحد الجنود الذين سجنوا في أقبية تزمامارت بعيد فشل انقلاب الصخيرات. أضِف إلى ذلك كتاب «جيل بيرو»: صديقنا الملك، وهو الكتاب الذي مُنع في المغرب عشية صدوره بعد حرب الخليج الثانية أوائل التسعينيات؛ إذ هاجم وبشكل واضح الملك الذي كان قد نجح لحد ما برأب الصدع بينه وبين شعبه، وبتلميع صورته كراعٍ للبر ولمجالس العلم الحسنية، التي يحجّ لها من يرتزقون بالعلم من كل أنحاء بلاد الإسلام.

فقط من خلال ثلاثية كهذه يمكن للمرء الانطلاق نحو تشكيل صورة ما للوضع المغربي المأساوي، خصوصًا تحت الحسن الثاني عليه من الله ما يستحق. أما كتاب مليكة أوفقير منفردًا، فهو لا يتيح ذلك لكثرة ما به من تناقضاتٍ وعوار، وكذب مفضوحٍ أحيانًا، فهي قد تذكر الحادث، ثم تنكر النمط ذاته فيما بعد، وقد تقرر النمط ثم تنكر رسوخه من خلال تجليه في الحوادث، والأمثلة على ذلك كثيرة وفي متناول القارئ المتوسط الذكاء. فهي مثلًا لا تُفصل في ما تواتر عن خيانات أبيها وأمها لرابطة الزوجية، والتي تسببت في طلاقهما، بل وللشائعات التي أحاطت بأبوة الملك الحسن لبعض أخواتها بسبب الزنا، لئلا تنجرف لحكمٍ قد يؤثر على منطق الكتاب في وعي المتلقي، سواء المغربي أو الغربي. كما أنها لا تتطرق لتفاصيل علاقة أبيها باليهود المغاربة، ودعمه لهجرتهم إلى الكيان الصهيوني بعد هزيمة 1967م؛ إلا في ملاحظة عابرة تنعي فيها على الملك رغبته في نفيها وأسرتها إلى بلدٍ قد يجد فيها عشرات “المتعصبين” آلاف الأسباب لتصفيتها، رغم تمتع أبيها بسمعة ممتازة بين الصهاينة بشهادة صديقهم الملك، ومن ثم فجلي أنها تقصد الفلسطينيين!.

وقد يعجب البعض لأني اعتبرت هذه السيرة الروائية قصة حياة أسرة فرنسية، ولكن ليس في ذلك شيء من العجب لمن عرف المجتمعات المخملية في الشمال الأفريقي، ومدى تبعيتها الثقافية والدينية والسياسية لفرنسا. لكن حالة آل أوفقير هي حالة أكثر تجذّرًا من ذلك، فاﻷب نفسه كان ضابطاً في الجيش الفرنسي، قبل استقالته وصعود نجمه في عهد محمد الخامس وولده. هذا الأب يحيا حياة فرنسية بالكامل؛ فأبناؤه يدرسون في مدارس فرنسية، وزوجته لا تبتاع ملابسها إلا من أكبر بيوت الأزياء الفرنسية، ..إلخ. إنهم يُجسدون الطبقة المتغربة، التي قادت عملية التحديث/العلمنة في الدول العربية والمسلمة، تجسيدًا نموذجيًا مثاليًا؛ تلك الطبقة التي كانت النخب العسكرية هي رأسها منذ منتصف القرن العشرين.

الغرض البادي من الكتاب أنه «لطمية» حقوق إنسان موجهة للقارئ الغربي في المقام الأول، فهو يخاطبه بلغته التي يعرفها

والغرض البادي من الكتاب أنه «لطمية» حقوق إنسان موجهة للقارئ الغربي في المقام الأول، فهو يخاطبه بلغته التي يعرفها: حرمونا كل اللذائذ الحسية، فلم نأكل ما نحب، ولم نلبس ما تخرجه كبرى بيوتات الموضة، ولم نملك حرية ممارسة الجنس حتى انفجرنا نتيجة لذلك الكبت!. أما في المقام الثاني فهو مكتوب للمغاربة؛ لأنسنة قصة أوفقير الذي كان أكثر المغاربة يكرهونه. ومن يقرأ النص من هذا المنظور سيكتشف لمَ كان الكتاب ضحل الإنسانية، باهت الملامح، ومُجدِب العاطفة، رغم قسوة الأحداث التي يسردها، وذلك على عكس رواية الطاهر بن جلّون المبهرة.

لقد ارتضى أوفقير ترك ابنته مليكة أسيرة سيده محمد الخامس، طوال إحدى عشرة سنة، كمرافقة وصديقة طفولة لابنته، فساهم في زيادة أزمتها النفسية والاجتماعية، وتمزقها بين مجتمعين وهويتين مختلفتين. فهل هي تنتمي للملك، أبيها بالتبني وجلادها وقاتل أبيها الحقيقي بذات الوقت، أم تنتمي لأبيها البيولوجي الذي لم تعرفه عن قرب إلا في سن المراهقة؟، وهل تنتمي للقصر الملكي بلغته الفصحى وتقاليده القيمية التي تماثل تقاليد البلاطات الملكية في أوروبا القروسطية، أم تنتمي لأسرة في قمة المجتمع المخملي المغربي، الذي لا يتحدث سوى الفرنسية ولا يفكر أو يحب إلا بالفرنسية؟، هل يسكن قلبها وعقلها في القصر الملكي مع «الإسلام» المشوه الذي يخدم العبودية، كما تربت عليه في كنف الملك، أم مع الكاثوليكية الأقرب لحياة أبويها وثقافتهم؟.


لقد تواتر في الإعلام، قبل فترة قصيرة، خبر عن وزيرة العدل الفرنسية السابقة (من أب مغربي وأم جزائرية): «رشيدة داتي»، والتي كانت تُعاشر ثمانية أشخاص في نفس الوقت قبل حملها بابنتها، وعرضها لنفسها على القضاء الفرنسي لإثبات نسب ابنتها لصاحب مطعم من عشاقها، الذين عدّدت محاميتها ثمانية منهم، من بينهم ناشط تلفزيوني، ووزير، ورجل أعمال، ورئيس وزراء إسباني، ومسؤول قضائي قطري رفيع المستوى، وأحد إخوة «نيكولا ساركوزي»، ووريث شركة كبرى تعمل في مجال الإكسسوارات الفاخرة.

أقول ربما يسهم مثل هذا الخبر في تكوين نموذج يفسر الخلفية الثقافية لذلك الجيل من المغاربة، الذين مسخَهم الاستعمار وشوّه نفوسهم؛ ومنهم آل أوفقير بطبيعة الحال. لقد كانت مليكة مُنسجمة مع ذاتها للنهاية، فقد تزوجت من صديقها الفرنسي بعد هربها إلى باريس؛ ليكتمل النموذج، ويمسي أكثر وضوحًا، بل ويفتح الباب لدراسة ظاهرة الزواج الكثيف للمغربيات من غير المسلمين.

وبرغم الثلاثية التي نصحنا بها عاليه؛ للانطلاق نحو تشكيل تصورٍ عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية للمغرب، فإن الكثير من الحلقات تظل مفقودةً بما أنها دُفنت مع أصحابها في قبورهم، فلا يكفي أن تعرف متانة علاقة النظام المغربي بالصهاينة، وأنه مثلًا هو الذي ساعد السادات وفتح له الباب للتحاور معهم، وأن أول لقاء لموشيه دايان مع مسئول مصري (حسن التهامي) احتضنه الحسن المغربي في عُقر داره، كما لا يكفي معرفة الطريقة المهينة ولا التقاليد الجاهلية النجسة التي يختار بها الملك زوجته ويكون بها حريمه وجواريه، وهي الطريقة التي تواطأ عليها المجتمع المغربي وسكت عنها، ولا يكفي معرفة أن الملك الحالي (محمد السادس) لم يكن يسهر سوى في علب الليل. كل ذلك لا يكفي بطبيعة الحال لسبر أغوار نظام أشبه بالتراكم الجيولوجي تُغطي بعض طبقاته الأخرى. فإذا كان الكثير قد طُمر تحت الطبقات الجديدة، فإن تكسير هذه الطبقات وكشف الميكروبات والحشرات المتحجرة في قلبها ليس له طريق سوى إسقاط ذلك النظام الملكي بكل قذاراته.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.