يُحكى أن رجلًا حدّق في عين الموت طويلًا. تربص به الموت لشهور طويلة، فأحال جسده شبه الممتلئ لشمعةٍ شاحبة. رأى محمد في عين الموت المصير الحتمي، ورأى الموت في عين أبو الغيط القبول به. فتهادنا على أن يتعلم الموتُ شيئًا من محمد، وفي المقابل سيرحل محمد هادئًا. جلس الموت بجواره فعلّمه محمد الكتابة الرصينة، والتنقل بين المواضيع دون أن تفقد الخيط الجامع لكل هذه المواضيع المتناثرة. ربما رتبّا سويًا مصير مكتبته، ومكان دفنه، وسمح محمد لنفسه بالانطلاق.

عرفه الجمهور صحفيًا مثابرًا، استقصائيًا صبورًا، لكن يبدو أن الموت عرفه أكثر من الجميع. عرفه أديبًا فذًا، وإنسانًا مرهف الروح. فأعاد الموت خلقه، وأعاد محمد تعريف نفسه في عين جمهوره. فوقف على حافة الموت ينقل لمن لم يُكشف عنهم حجاب الواقع معنى الوقوف على حافة بصحبة الموت. كلما خطف نظرة للمصير المحتوم زادت نظرته عمقًا وأدبه شفافية وعاد إلينا يحكي عن نهايته التي تنتظره. فكأنما تصادق مع الموت، وصارت نهايته في ظننا بداية جديدة له، وإغلاق عينه الأبدي فتح لها على ما هو أبعد وأدق. يمارس بذلك صحافته المفضلة، الاستقصائية، حتى في أصعب الأمور، الموت والحياة.

بدأ رحلة الاستقصاء مبكرًا، استقصاء عن هدفه من الدنيا، وسر وجوده فيها. وُلد عام 1988 في محافظة أسيوط، في صعيد مصر. تفوّق بين أقرانه والتحق بكلية الطب، ثم منها للعمل في أحد مستشفيات العاصمة. في تلك المرحلة رأى في نفسه موهبة الكتابة. يقول في أحد الحوارات الصحفية بعد أن حصل على المركز الثالث عام 2010 لمسابقة القصة القصيرة في مكتبة الإسكندرية. فعلم أنه جيد في الكتابة الأدبية وقرر أن يعطيها جانبًا كبيرًا من وقته.

جعلته تلك المسابقة يرى نفسه في طفولته حين كان يُلقبه زملاؤه في الفصل بلقب، الولد بتاع ميكي، يشيرون بذلك إلى مجلة ميكي الشهيرة التي كان يحملها دائمًا في حقيبته. لم تكن مجلة واحدة بل عديد منها، كان يعيرها لزملائه ليقرأوها ثم يستبدلوها بأخرى وهكذا. كبر الولد، وترك ميكي لزملائه، وكبرت قراءاته معه. دخل إلى مكتبة أبيه حيث تقيم الكتب التراثية. كتاب بعد آخر لم يجد شيئًا يسلب عقله في مكتبة أبيه وجدّه.

في مكتبة خاله قادته الصدفة إلى كتب أصغر حجمًا وأسهل لغة، كتب رجل المستحيل أعجبته لكنها لم تأسره. ما وجده بعدها هو ما غيّر كل شيء، سلسلة ما وراء الطبيعة لأحمد خالد توفيق. سحرته عوالم أحمد خالد ببساطتها وواقعيتها الممزوجة بخيال محسوب وجدّية تناسب الناشئة. في تلك اللحظة بدأ تشكل محمد أبو الغيط الذي سيعرفه العالم لاحقًا.

لكن بعد ثورة يناير/ كانون الثاني 2011 اتجه أبو الغيط للكتابة الصحافية السياسية. كانت تدوينته الأولى، الفقراء أولًا، هي من فتحت له باب الدخول المبهر للكتابة الإخبارية السياسية. واستطاع بأسلوبه الأدبي السلس أن يذيب الفارق بين الخبر والقصة، والسياسة والإنسان، فبزغ نجمه سريعًا في الوسط السياسي والصحافي. حين أدرك هو تلك الملكة التي حازها، قرر أن يتعامل مع الكتابة بشكل أكثر احترافية.

فعمل صحفيًا في جريدة الشروق حتى عام 2014. لم تكن رحلته قاصرة على جريدة واحدة. بل عمل في مؤسسات مختلفة منها شبكة تلفزيون أون. ثم بعدها في قناة الحرة الأمريكية. وبعد انتقاله للندن، بسبب طبيعية كتاباته التي لا تتوافق مع صانع القرار المصري، عمل في التلفزيون العربي. كذلك عمل مع مؤسسة أريج للصحافة الاستقصائية.

تلك الرحلة كُللت بعديد من الجوائز منها جائزة مصطفى الحسيني عام 2013. وجائزة سمير قصير لحرية الصحافة التي يمنحها الاتحاد الأوروبي عام 2014. كذلك حصل على الميدالية الذهبية في جائزة ريكاردو أورتيجا للصحافة المرئية والمسموعة عن فيلمه المستخدم الأخير عام 2019. كما حصل على جائزة فستوف عن إسهامه البارز في إحلال السلام، وتحديدًا عمله حول الشبكة المالية السرية لقوات الدعم السريع في السودان عام 2020.

قام بعديد من التحقيقات الاستقصائية من أبرزها المشاركة مع قرابة 170 صحافيًا حول العالم في تحقيقات سويس ليكس، التي كشفت عديدًا من الحسابات السرية لشخصيات عالمية بارزة، على رأسهم ملوك ورؤساء في عديد من الدول. كما حصل على جائزة هيكل في سبتمبر/ أيلول 2021 عن أعماله في ما يتعلق باليمن وسوريا.

كذلك رُشح لجائزتين من جوائز إيمي للصحافة التلفزيونية العالمية، عن فئة أفضل قصة إخبارية، وفئة أفضل تحقيق استقصائي، وذلك عن عمله كمنتج لتحقيق استقصائي لشبكة «سي إن إن» الأمريكية عن الأسلحة الأمريكية باليمن. عمله حول الأسلحة باليمن أوصله أيضًا للقائمة النهائية لجائزة ترو ستوري.

أعلن هو إصابته بسرطان المعدة، وأن اكتشافه جاء في مرحلة متأخرة. قبل الاكتشاف أخبرنا عن أحلام ظلت تراوده في منامه قبل أن يعرف التشخيص الطبي لحالته. كان يرى أشواكًا تخنقه من فمه، كانت طويلة إلى درجة أنها تصل إلى جوفه. كلما انتزع واحدة منها شعر بألم فظيع، ويستيقظ وفي فمه ألم حقيقي مما وجده في منامه. أخبرنا لاحقًا أن الكابوس الأخير اختلف فيه شيء واحد، أنه قرر التوقف عن انتزاع تلك الأشواك وابتلاعها بدلًا من ذلك. وحين فعل ذلك اختفت كلها.

لكنه رغم الأشواك التي ظل يبتلعها والعلاج الكيماوي الذي تجرّعه لما يقارب 7 أشهر لم يتوقف عن الكتابة، وعن مشاركة الجميع لمحاوراته مع المرض، وسجاله مع الموت. وكان آخر ظهور مُصور له في منتدى مصر للإعلام الذي كرّمه في ختام دورته الأولى. وكانت آخر أمنياته، وآخر أعماله المُعلن عنها، كتاب بعنوان «أنا قادم أيها الضوء».

ذهب محمد للضوء قبل أن يخرج الكتاب للنور. رحل عن 34 عامًا ملأ فيها مكانة متميزة في الصحافة العربية. يصعب تكرار مدرسته مرة أخرى، ويقترب من الاستحالة أن يسد أحد الفراغ الذي تركه محمد. فلم يرحل كاتبًا قويًا فحسب، بل رحل صديقًا مخلصًا وإنسانًا نقيًا، ومن الصعب أن يقدر أحد على الجمع بين تلك الصفات كلها. حتى لو لم تكن تعرفه شخصيًا، فقد جعل من نفسه بتدويناته صديقًا للجميع، ودليلًا لهم في استكشاف ما لم يعرفوا كيف يصفونه رغم أنهم يشعرون به.

أعاد أبو الغيط تعريفنا للسيرة الذاتية، وُلد ومات، تخرّج في الجامعة ثم عمل في جريدة. حصل على شهادات وجوائز. لكن لم يكن أيًا من ذلك هو السيرة الحقيقة للرجل. كلماتُه هي أهراماته. كما وصفها هو في مقدمة كتابه المنتظر، في فصل نُشر مقدمًا. يخبرنا أبو الغيط أنه يكتب لأن الكتابة أثرى من الحياة، الكتابة أهراماته الخاصة. السؤال الذي شغله كان إلى متى ستظل تلك الأهرامات قائمة بعده. ثم يعود ليخبرنا أن الكتابة هي وسيلته في مغالبة الزمن والموت، وسيلته ليبقى اسمه فترة أطول من عدد سنوات عمره.

يواسي محمد نفسه، ويواسينا معه، فيخبرنا أن حياته والعالم كله كذرة غبار لا تُرى على شاطئ الكون الفسيح. لكن الكتابة هي أداته كي تكون ذرتّه ألمع من باقي الذرات. إنها صيحته كي يعلم الكون أن محمد أبو الغيط مرّ من هنا. ونحن إذ نكتب عنه لا نُعرّف القارئ بشخص مجهول، ولا نُعدد إنجازات أو نكتب رثاء، بل نلقي شعاعًا بسيطًا على الذرةّ التي خلّفها أبو الغيط علّنا نسهم في لمعانها أكثر، ونضع وردة بيضاء على الهرم الذي بناه علّه يتحول إلى منارة تهدي الحائرين في تيه الواقع، وترشد الكُتّاب إلى النموذج الذي يكون عليه الكاتب.