حينما نراقب ما يمكن اعتباره وردًا أسبوعيًا لمحمد صلاح من التألق مع ليفربول، يستدعينا الشجن إلى استشراف المستقبل القريب والبعيد، نتساءل كم من الوقت تبقى لهاتين القدمين على ملعب أنفيلد؟ وحتى أي عمر يستطيع الفرعون المصري أن يبقى في الملاعب؟ ولكن في ذروة التألق الذي بات أمرًا معتادًا كل أسبوع من صلاح في أعلى المستويات، تكون العودة إلى الماضي بشكل مغاير ربما أكثر وقعًا، وأدق تأثيرًا.

ساحات و«أجران» ومراكز شباب ودورات رمضانية وملاعب بلاطية ونجيل طبيعي لم يهذب منذ سنوات و«حجوزات خماسي» مع الأصدقاء داخل نجريج وخارجها، أهلًا بكم في عالم لا تعرفونه عن صلاح.

نجريج 2004

يستعد محمد صلاح لتجميع أصدقائه كي يخوضوا مباراة قوية يحملون فيها لواء نجريج ضد فريق قوي من «قرانشو». يبدأ فتى نجريج السريع في تجميع فرقة الخماسي التي يحبذها، والتي سيكون على رأسها كما المعتاد «شريف العراقي» أسطورة الخماسي في نجريج.

هذه المرة سيتزامل كل من صلاح وعبد الجواد البمبي في فريق واحد على عكس ما يحدث حين يلعبان كلٌ في فريق داخل نجريج، أما في المستوى الدولي أمام قرانشو، فموازين القوى تحتاج أن يجتمعا.

كل الشهادات التي جمعناها من قلب فريق صلاح الخماسي ذاك، تجمع على حقائق واضحة، محمد صلاح كان عنصر السرعة في فريقه الخماسي، وكان إلى جانب ذلك يتسم بهدوئه الشديد أمام المرمى وقدرته على الإنهاء ببراعة، لكنه -وحتى داخل فريقه الخماسي- لم يكن الأكثر مهارة، إذ كان شريف العراقي أسطورة نجريج بلا منازع، وهو الذي يصفه مصدر آخر لنا بأنه كان «يحفظ بلاط الملعب» كناية عن مهارته.

بمناسبة البلاط أيضًا، لابد من ذكر حقيقة هامة: نجريج في زمن صلاح لم يكن فيها إلا ملعبان رئيسيان يضمان معظم مباريات القرية، الأول هو الملعب الخماسي والذي كان من البلاط الرمادي، والثاني هو ملعب قياسي من النجيل الطبيعي، وكان الملعب البلاطي هو الأكثر استقبالاً للمباريات عادة في القرية.

لقاء سابق لصلاح مع قناة «سي بي سي» يتحدث فيه عن صديقه «شريف» في الدقيقة 30، ويظهر الملعب البلاطي المذكور في الدقيقة 31

قال لنا محمد عيد، أحد من لعبوا مع صلاح في تلك الفترة: «صلاح يكبرني بعام فقط، لست من قريته وإنما من بسيون نفسها، لعبت معه مرتين من قبل، كانت ميزته الأهم أنه سريع جدًا ويستطيع الإنهاء بشكل جيد، وشخصيًا كان من النوع المحبب إذ كان هادئا ولا يفضل (الهيصة)، لا يتعصب في الملعب».

مسرح اللعب الذي يتحدث عنه عيد كان الساحات التي تجمع بين قرى هذا الشريط في محافظة الغربية، والتي يقول إن أحمد المحمدي الذي مكث لأكثر من 10 أعوام في الدوري الإنجليزي هو خريجها أيضًا، إضافة إلى أسماء بحجم باسم مرسي ووائل جمعة.

أما سعيد الفار، الذي لعب باستدامة أكبر مع صلاح إذ كان من أهل نجريج، فيتفق مع عيد في أن ميزة صلاح الكبرى صغيرًا كانت السرعة، قال في تصريحات خاصة لـ«إضاءات»: «صلاح كان سريعًا جدًا، لم يكن الأمهر، كان يجيد الإنهاء ولا يلعب عادة بالرأس»، مشيرًا إلى الاسم ذاته (شريف العراقي) على أنه «كان الأهم في فريقه» كما اتفق الفار مع عيد أيضًا على أن «محمد كان طول عمره هادي».

فريق صلاح المفضل

سيعرف الشباب المصري وبالأخص من مواليد الثمانينيات والتسعينيات، وبأخص الأخص من قاطني الأرياف ما سأتحدث عنه الآن. تعذر الوصول الدائم (قبل ثورة الهواتف ومواقع التواصل) إلى أشخاص تمارس معهم كرة القدم من خارج منطقتك/قريتك/محل سكنك بشكل عام، كان يجعل فريق المنطقة أو القرية أو البلدة شيئًا مقدسًا بالنسبة للاعبيها الأفضل، ويجعل المباريات مع فرق المناطق أو القرى المجاورة على درجة كبيرة من الأهمية.

تبلغ الأهمية ذروتها حين نتحدث عن اللاعبين الأهم في القرية، فإذا كنت لاعبًا مشهودًا لك، يكون السؤال التالي مباشرة: «بتلعب في فرقة مين؟» أو «مين فرقتك؟». هنا لا يكون الحديث عن نوادٍ أو مراكز شباب أو أي هيكل نظامي لممارستك كرة القدم، وإنما مباشرة يعني فريقك الذي تلعب به الكرة الخماسية في الشارع باختصار.

وبالنسبة لحالة محمد صلاح، المولود عام 1992 في ريف مصر -أي أنه عايش تلك التجارب كلها بالتأكيد- خصوصًا أنه لم يخرج إلى القاهرة كليًا إلا بعد انتظامه مع المقاولون العرب بعمر 16 عامًا تقريبًا، نستطيع استنتاج خضوعه لهذه النظرية.

اختبرناها عمليًا، وخلصنا من مصادرنا داخل نجريج إلى أن محمد صلاح بالفعل كان عضوًا في فريق خماسي قوي للغاية يتكون إلى جانبه من الأسماء التالية: شريف العراقي (عنصر المهارة وقائد الفريق) – عبد الجواد البمبي (كان عادة ما يلعب في فريق مقابل لصلاح داخل نجريج) – محمود البهنسي (تناوله صلاح في حلقة إعلامية) – عبد الحميد أبو جندي (كان يملك الخيار للعب وأيضًا لحراسة المرمى) – محمد هاشم (الوحيد من تلك الأسماء الذي أكمل مسيرته مع كرة القدم ويلعب حاليًا لصالح اتحاد بسيون).

إلى جانب صلاح كعنصر سرعة وإنهاء مهم للغاية -ولا يفضل عادة أن يحرس المرمى- كما كان هناك عنصران يدخلان أحيانًا في تشكيل هذا الفريق وهما محمد عطا الله وعلي عبد المولى.

يقول مصدر لنا -رفض كشف اسمه- إن ذلك الفريق اشتمل على لاعبين ذهبا مع صلاح إلى فرع المقاولون العرب الذي أنشئ في طنطا وكان من أهم عوامل الحظ لصلاح، إذ استقبل دفعته الأولى في ذلك التوقيت والتي ضمت صلاح إلى جانب اثنين من فريقه الخماسي (البمبي وأبو جندي) والذين اقتنصهم من ملاعب نجريج واحد من كشافي الشوارع القدامى والذي يدعى «رضا الملاح».

قبلها كان صلاح قد ذهب إلى اتحاد بسيون، بالتحديد في 2004، وحينها يقول المصدر ذاته إنه لاحظ بداية تطور صلاح في الملعب نظرًا لاهتمامه بالتمارين ونظامه اليومي، وزاد التطور أكثر بعدما انتقل إلى «مقاولون طنطا».

تحدثنا مع علي عيد، زميل صلاح في اتحاد بسيون، وواحد ممن خاضوا مشوارًا طويلاً في الدوري المصري بعد ذلك، إذ مثل المنصورة والجونة والإنتاج الحربي وبتروجيت وإنبي وحمل قميص منتخب مصر المحلي، فكانت شهادته عن مستوى صلاح في تلك الفترة كالتالي: «لعبت مع صلاح في مدرسة الموهوبين بنادي اتحاد بسيون، كنا قريبين من بعضنا في ذلك الوقت، ذهب إلى المقاولون بينما ذهبت أنا إلى تجربة احترافية في اليمن».

وأضاف: «كان قويًا بالقدم اليسرى، بينما لم يكن يستخدم اليمنى على الإطلاق، ولم يكن بنفس السرعة التي يظهر عليها الآن، السرعة أعتقد أنها نمت مع نمو جسده وبعدما ذهب إلى المقاولون العرب تحديدًا».

يتواءم هذا مع رواية مصادرنا حول مفصلية التطور الذي مر به صلاح بعدما بدأ الخطوات الأولى في المسيرة الاحترافية، وبالتحديد في تجربتي اتحاد بسيون ومقاولون طنطا.

سرعة صلاح

هل كان صلاح يحلم بكل ذلك؟

لدى اقترابنا إلى هذه الدرجة من أصول صلاح الكروية، كان علينا أن نسأل سؤالاً تقليديًا ولكن إجابته من فريقه الخماسي المقرب للغاية لها أصداء مختلفة: «هل كان صلاح يتوقع أن يصل إلى كل ذلك؟».

مصدرنا أكد أن شريف العراقي ذلك هو أول من تنبأ حقًا وفي بدايات صلاح، بأنه سيكون لاعبًا كبيرًا ومحترفًا في المستقبل، حين كان الأمر بعيدًا عن تطلعات هذا الجيل برمته، مضيفًا أن قصة ممارسة كرة القدم بشكل احترافي كانت تشغل محمد صلاح وهو صغير، لكن حدودها كانت الخروج للقاهرة ولعب الكرة بشكل احترافي، ونما معه حلم الاحتراف بعد ذلك.

دور الأب مهم للغاية، وسط جيل فقدت مواهب عديدة فرصتها في ممارسة كرة القدم على مستوى احترافي بسبب إصرار الأهل على أولوية التعليم فوق كرة القدم، أو تضادهما بشكل صارخ، والد محمد صلاح -كما تجمع كل مصادرنا- كان عاملاً فارقًا في ممارسة نجله لكرة القدم احترافيًا، فساعده ودعمه وآمن بحلمه بل وحفزه على الخطوة تلو الخطوة في كرة القدم.

والآن صلاح مدربًا!

ما مدى علاقة صلاح في الوقت الحالي بأعضاء ذلك الفريق الخماسي؟ سؤال طرحناه على كل مصادرنا، الذين أكدوا أنه رغم عدم تردد صلاح على نجريج بنفس المعدل الذي كان في بداية مسيرته، فإنه حين يصل نجريج يكون حريصًا على لقاء أصدقائه واستضافتهم في منزله كلما أمكن رغم مضايقات الصحفيين والإعلاميين بشكل عام، حتى أن أحدهم قال لنا: «احنا في نجريج بنتكعبل في الصحفيين!».

وحينما سألنا أحدهم سؤالاً -خبيثًا- بعض الشيء عما إذا كان صلاح قد لعب معهم في أي وقت من الأوقات بعدما صار معروفًا، أكد لنا أن هذا لم يحدث على الإطلاق، وأن صلاح حقًا ملتزم فيما يتعلق بهذه الناحية، لكنه روى لنا واقعة طريفة عن نجم ليفربول حينما كان لاعبًا لتشيلسي، حول أنه نزل في عطلة فأخبروه أن هناك مباراة في مكان ما، فذهب معهم ولكن في مقعد المدرب لا اللاعب، وأصر على توبيخهم والسخرية منهم مازحًا في أكثر من مناسبة.

من مجرد فتى سريع واعد هادئ الطوية جميل الابتسامة، يحتاج لأن يثبت نفسه في بسيون والمقاولون، إلى لاعب تتغنى الصحف العالمية باسمه مطالبة بمنحه الكرة الذهبية، دائمًا هناك تفاصيل تذهب طيّ النسيان.