هدفٌ يتمتع بقدرات بقاء غير عادية.
شبحٌ لا نعرف حتى شكله الآن كيف يبدو.
نؤكد أنه قُتل في هجوم مباشر بالمروحيات. لا نظن أنه قُتل في الهجوم نؤكد أنه نجا من الموت بأعجوبة.

بهذه الكلمات، وبالكثير مما يشابهها، تتحدث إسرائيل على مدار 30 عامًا عن محمد الضيف. الرجل الذي تجعله أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية على مدار الحكومات المتعاقبة هدفها الأول. وجعلت الحصول على رأسه مسألة وجود بالنسبة لها. لكنه أفعى تجيد الاختباء، كما تصفه التغطية الإسرائيلية. وتردف قائلة إنه رأس الأفعى الكُبرى، حماس.

كذلك تشير إليه إسرائيل بأنه ابن الموت، كناية عن عدد الأرواح الكبيرة التي حصدها من جنود ومستوطني إسرائيل. لكن يبدو أنه ابن الموت فعلًا، فيرفض الموت تسليمه للاحتلال رغم أن إسرائيل حاولت اغتياله بشكل مباشر أكثر من 5 مرات. آخرها في محاولة عام 2014، حيث قام الطيران الإسرائيلي بتوجيه ضربات صاروخية كثيفة ومتتابعة لمنزله في حي الشيخ رضوان.

كثافة القصف قالت، قبل أن تُعلن إسرائيل، إن هناك مطلوبًا مهمًا فيه. أعلنت إسرائيل لاحقًا أن الضيف كان مطلوبها. فقد الرجل في هذا الهجوم زوجته، وابنه الرضيع. كانت تلك هي المحاولة الخامسة لاغتياله، سبقها 4 محاولات في عام 2001 ثم في العام التالي. كانت محاولة الاغتيال في عام 2002 هي الأبرز، لأنه في بدايته سارعت إسرائيل للإعلان عن مقتل الضيف. ثم تراجعت لاحقًا عن هذا القول، لتعترف بمرارة أنه نجا من الموت بأعجوبة.

فكأنما يهزمها الضيف بمجرد بقائه حيًا. ثم في عام 2003 جرت محاولة أخرى، وفي عام 2006 كذلك. وحتى بعد فشل محاولة عام 2014، وقبل أن يُهندس الضيف طوفان الأقصى، فإن إسرائيل لم تهدأ لحظة في محاولة العثور عليه. رغم أنه قد أصيب في إحدى محاولات الاغتيال إصابة بالغة جعلته مقعدًا.

 لكنّه يجيد الاختباء في كل الأحوال. ولا يستخدم أي تكنولوجيا حديثة يمكن لإسرائيل تتبعها. كما لا يظهر في الإعلام إلى الحد الذي جعل العالم حاليًا لا يعرف صورة واحدة حديثة له، مجرد صورة قديمة وحيدة له بوجهه. كما لا يتحدث بشكل مباشر إلا لدائرة شديدة القرب منه، ولا تصدر بياناته إلا في تسجيلات صوتية.

لكن كلما صدر تسجيل له، كلما كان الأمر عظيمًا ومرعبًا لإسرائيل. فقد تحدث 3 مرات فحسب في العشرين عامًا الأخيرة. صورة معتمة وصوت هادئ وواثق. لم يختلف الأمر في أي من التسجيلات الثلاثة، التي تكون إعلانًا عن عملية نوعية تؤرق إسرائيل لسنوات، ولا يفيق منها الاحتلال إلا حين يصدمه الضيف بعملية أكبر وأوسع.

فتسجيله الصوتي الأخير كان إعلانه، بصفته القائد العام لكتائب عز الدين القسام، بداية عملية طوفان الأقصى. كان الإعلان الصوتي قد سبقه تمهيد صاروخي بآلاف الصواريخ التي وُجهت لتل أبيب. أخبر الضيف في تسجيله أن قرابة 5 آلاف صاروخ قد استهدفوا مواقع وتحصينات عسكرية. وأن العملية الفريدة من نوعها جاءت في ظل جرائم الاحتلال المستمرة، وتنكّره لحقوق الفلسطينيين.

كما يتحدث الضيف بصفته قائدًا للمقاومين في كل مكان. ففي تسجيله الأخير خاطب شباب الضفة والقدس وسائر فلسطين أن ينتفضوا ضد الاحتلال الإسرائيلي. ودعا المقاومة في لبنان وسوريا واليمن وإيران والعراق أن يلتحموا مع المقاومة ويخوضوا مع الكتائب معركتها المقدسة ضد الاحتلال الإسرائيلي.

لا يمنح الضيف نفسه بذلك مكانة ليست له، بل قد منحها له شباب القدس أولًا. فقبل عامين، حين خرجت المظاهرات الرافضة لتهجير سكّان الشيخ جراح وإحلال المستوطنين اليهود مكانهم، كان الهتاف الرسمي للمظاهرات هو «حُط السيف قبال السيف… إحنا رجال محمد ضيف.» ليجيب الضيف تلك النداءات بالتهديد أنه إذا لم تنته إسرائيل عن أفعالها فسوف تتحرك الكتائب لنصرة شباب القدس. وهو ما قامت به المقاومة فعلًا.

لم يكن الضيف يومًا أسيرًا للانتماء الفصائلي الضيّق، ولا لفكرة أنه يدافع عن غزة وحدها. ففي أثناء دراسته في الجامعة الإسلامية في غزة كان ناشطًا في العمل الإغاثي بصفة عامة. وتلاقت أفكاره مع أفكار جماعة الإخوان المسلمين فانضم إليها، ومنها عرف طريق كتائب القسام، وبدأ صعود السلّم القيادي فيها.

بالطبع كان لا بد أن يمر بتجربة الاعتقال في السجون الإسرائيلية. فيبدو أن تلك التجربة هي التي تزيد تصميم المجاهدين للاقتصاص من عدوّهم، وتكشف لهم وجهه الحقيقي دون أقنعة حقوق الإنسان أو الخوف من الرأي العام العالمي. اعتقل الضيف عام 1989، قضى سنة كاملة وأربعة أشهر إضافية، دون أن يخضع لأي محاكمة. كانت تهمته هي العمل في الذراع العسكري لحماس.

خرج من الاعتقال ليجد أن الساحة قد اختلفت نسبيًا. فبعد أن كانت كتائب عز الدين القسام مجرد فصيل مسلح مقاوم، باتت الفصيل الأبرز بين المقاومة. لكن الضيف رأى ضرورة أن يكون للكتائب وجود في الضفة الغربية، فانتقل إليها وكوّن ذلك الوجود فيها. ليأتي بعد ذلك عام 1993 حاملًا معه نبأ اغتيال عماد عقل، فبرز اسم محمد الضيف كقائد لكتائب القسام.

كان الضيف من المخططين الأساسيين لأسر الجندي الإسرائيلي نخشون فاكسمان. ويمكن القول إن خطف الجنود كان هو البذرة الأولى التي أدت لتكوين كتائب منفصلة عن حركة حماس، بإيعاز من الضيف وصلاح شحادة، التي مرت بأطوار كثيرة حتى وصلت إلى الهيئة التي نعرفها عنها اليوم. أصبح الضيف رقمًا صعبًا في المعادلة بعد اغتيال يحيى عيّاش.

فقد حمل الضيف على عاتقه أن يُوجع العدو الإسرائيلي لاغتياله مهندس المقاومة. رتّب الرجل لعمليات فدائية متتابعة أسفر عن قتل ما يزيد على الخمسين إسرائيليًا. وتتداول الأوساط الإسرائيلية حديثًا عن أن الضيف كان تلميذًا مباشرًا لعياش، ودرس صناعة القنابل على يديه.

لم يقتصر دور الضيف على القيادة العملياتية فحسب، بل أسهم بشكل مباشر في تطوير أسلحة القسّام. كما أنه يُعتبر المهندس الأساسي لعملية بناء شبكة أنفاق حماس، التي تثبت يومًا بعد الآخر قدرتها على هزيمة الغرور الإسرائيلي والتكنولوجيا الأوروبية.

لذا كان من المنطقي أن تعتقله السلطة الفلسطينية في أوائل عام 2000، لكن استطاع الفرار مع بداية الانتفاضة. شهدت الانتفاضة على أن حماس، وذراعها العسكري، قد وصل إلى مرحلة متقدمة ومعقدة من العمل العسكري.

مع اغتيال رفيقه صلاح شحادة، ظن الاحتلال أنه قد كسب جولة وسوف يعيق قدرات حماس لفترة طويلة. لكن مع تولي الضيف للقيادة بدأ في التخفيف من العمليات الفدائية، والعمل على أن يكون المقاتل الفلسطيني حريصًا على أن يعود سالمًا لقواعده كي يُنفذ عملية أخرى، فيخوض المعركة بقلب من يطلب الموت، لكن بعقلية من يريد الحياة ليقتل المزيد من أعدائه.

تفكير الضيف منذ اللحظة الأولى لتوليه هو أن ينقل المعركة إلى داخل إسرائيل. وبدأ في مخططه، فبات خطرًا دوليًا، لذا وضعته الولايات المتحدة على قوائم الإرهاب عام 2005. لم يبال الضيف بهذه القائمة ولا بغيرها. فالرجل لا يريد سوى حقه الذي سلبته منه إسرائيل، حق العودة لبلدته الأصلية التي هجّره منها الاحتلال، بلدة القبيبة. وأن ينتصر لكل أبناء المخيّمات الذين ينتمي إليهم، فهو ابن مخيم خان يونس في جنوب قطاع غزة.

كان لدى الرجل أحلام عديدة، منها أن ينتشل أسرته من فقرها، فعمل لمساعدة والده. ثم أنشا مزرعة صغيرة لتربية الدجاج. ثم تعلّم قيادة السيارات كي يُساعد في تحسين دخل الأسرة. ومارس كذلك شغفه الفني، فقد كان مولعًا بالمسرح. وأسس فرقة مسرحية أسماها «العائدون»، وكانت أول فرقة فنيّة في فلسطين لمؤسسها محمد إبراهيم دياب المصري، المولود عام 1965، والمعروف عالميًا باسم محمد الضيف.

اكتسب لقب الضيف من تنقله الدائم بين المنازل الفلسطينية ليكون ضيفًا عليهم خشية استهدافه، أو أن تصل الاستخبارات الإسرائيلية له. ويعرفه الفلسطينيون كذلك بكُنيته «أبو خالد»، عُرف بتلك الكُنية من دور تمثيلي أدّاه في أحد المسرحيات التي لعبتها فرقته، مسرحية المهرج، وكان يؤدي فيها دور «أبو خالد»، وهو شخصية تاريخية عاشت في الحقبة الزمنية ما بين العصرين الأموي والعباسي.

وسيظل التاريخ متذكرًا أن الرجل صار كابوسًا في الخيال الإسرائيلي، إلى درجة تصريح حاييم ليفنسون، كاتب في صحيفة هآرتس، أنه حتى لو عثرت إسرائيل على محمد الضيف في مخبئه وقدمته للمحاكمة فلن يكون لذلك أي معنى، إذ اكتملت الخسارة مع الصفعة الأولى في معركة طوفان الأقصى. يُخبرنا ذلك التصريح أن الرجل صار هاجسًا إسرائيليًا لدرجة أن يرون الحصول عليه تعويضًا مقبولًا للهزيمة الكبرى التي تعرضوا لها في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول.