محتوى مترجم
المصدر
Aeon
التاريخ
2017/7/21
الكاتب
Kate Raworth

من منّا لا يعرف لعبة مونوبولي؟ ومن منّا لم يجلس ساعات طويلة مع العائلة أو الأصدقاء محاولًا وضع الخطط والإستراتيجيات لإنماء ثروته وممتلكاته على هذا اللوح الصغير في حربٍ رأسماليةٍ شرسة (قبل أن نُصاب بالملل ونترك كل شيء على حاله). ترتكز فكرة لعبة مونوبولي على مبادئ الرأسمالية من تكويم الثروات وزيادة الربح على حساب اللاعبين الآخرين. ولكن مما قد لا يعرفه الكثيرون أن فكرة اللعبة في أصلها كانت فكرة اشتراكية للتحذير من شرور الرأسمالية. تسرد لنا هذه المقالة قصة فكرة اللعبة، التي تختزل إحدى المفارقات التاريخية المثيرة للسخرية: كيف تحوّلت فكرةٌ اشتراكيةٌ كان الهدف منها التحذير من شيطان الرأسمالية إلى أنجح لعبة ألواح تعليمية على الإطلاق، يفوز فيها حرفيًا الأكثر الإجادةً لمبادئ الرأسمالية؟

اشترِ ما استطعت من الأراضي، فقد أوقفوا تصنيعهم.

هكذا قال مارك توين ساخرًا، ولكن هذا القول الشهير هو نصيحةٌ قيّمةٌ بكل تأكيد لمن يلعب لعبة مونوبولي، أنجح لعبة ألواح على الإطلاق، التي علّمت أجيالًا من الأطفال أن يشتروا العقارات، ويبنوا عليها الفنادق، ومن ثَمَّ المطالبة بإيجاراتٍ جنونية من اللاعبين الآخرين الذين يتآمر عليهم حظهم السيئ ليقعوا فريسةً -بفعل الحظ دون أي خطأٍ منهم- لجشع اللاعبين الآخرين.

على خلاف لعبة مونوبولي، لا يعرف الكثيرون قصة مُبتكِرة اللعبة «إليزابيث ماجي»، التي كانت بلا شكّ ستجري مُهرِعةً إلى أقرب سجنٍ تجده إذا أدركت مدى الشعبية الجارفة للنسخة المشوّهة من فكرة لعبتها، ولماذا ذلك؟ لأن اللعبة تحثّ اللاعبين على تمجيد القيم المضادة تمامًا للقيم التي كانت هي تسعى للتسويق والتنظير لها.

وُلِدَت ماجي عام 1886، ورفعت راية التمرد في وجه قيم وسياسات زمنها. فلم تتزوّج حتى أربعيناتها، وكانت تفتخر وتتباهى باستقلاليتها. وأقدمت في أحد الأيام على حيلةٍ دعائيةٍ لتعلن لمجتمعها ما تؤمن به، فقامت باستخدام مساحة إعلانية في الصحيفة وقدّمت فيها نفسها على أنها «جارية أمريكية شابة للبيع لمن يدفع أكثر». وكان هدفها من ذلك، كما أخبرت القرّاء المصدومين مما رأوه، أن تُبِرَز رسوخ موقف نساء المجتمع، فـ «نحن لسنا آلات» كما قالت، «بل لنا نحن النساء أيضًا عقولٌ وأمنياتٌ وآمالٌ وطموحات».

كرّست ماجي نفسها إلى قضيةٍ أخرى غير السياسات الجنسانية، حيث قرّرت نقض نظام ملكية الأراضي الذي يرتكز على مبادئ الرأسمالية، وكانت حيلتها هذه المرة، بعيدًا عن الإعلان في الصحيفة، أن تصنع لعبة ألواح. استلهمت ماجي فكرة اللعبة من كتابٍ أهداها له والدها جيمس ماجي، السياسي الذي عُرِفَ عنه مناهضته للاحتكار. فبين صفحات كتاب «هنري جورج» الكلاسيكي Progress and Poverty (1879)، عثرت ماجي على أحد معتقداته – «حقّ الناس في استعمال الأرض متأصّلٌ تمامًا كما هو حقهم في التنفس. إنه حقٌّ ينصّ عليه وجودهم».

ولم يكن من المستغرب أن يتوصّل جورج إلى هذه الأفكار، فقد سافر جورج في مختلف أنحاء أمريكا في سبعينيات القرن التاسع عشر، ورأى بعينيه مرارة الفقر المنتشر في الوقت نفسه الذي كان فيه آخرون ينعمون بثرواتهم المكنوزة، وآمن جورج أن أكبر أسباب ذلك هو الظلم الحاصل في ملكية الأراضي، وهو ما جمع هذين العنصرين معًا – الفقر والتقدم.

خالف جورج كلمات توين الذي حثّ مواطني بلده على شراء الأراضي، وطالب الدولة بفرض ضريبةٍ على الأراضي. واستند جورج في مطالبه هذه على أن الجزء الأكبر من قيمة الأرض لا يتوقّف على ما يُبنى عليها، وإنما على ما تحويه من خيرات الطبيعة كالماء والمعادن التي قد تكون موجودةً في باطنها، أو من قيمة موقعها نفسه، كقربها من الطرق ومحطات القطار، أو وجودها بالقرب من مجتمعٍ مزدهرٍ وحيٍّ ينعم بالأمان ومدارس ومستشفياتٍ محليةٍ ممتازة، ورأى جورج أن جامعي هذه الضرائب عليهم مسئولية استخدامها للاستثمار بما فيه مصلحة الجميع.

عقدت ماجي العزم على إثبات صحة مطالب جورج، فقامت بابتكار وتسجيل لعبة أسمتها Landlord’s Game (لعبة المالك)، عام 1904. وصمّمت ماجي لوح اللعبة على شكل دارة (التي كانت في ذاك الوقت اختراعًا جديدًا ونادرًا)، وملأت لوح لعبتها بشوارع ومعالم للبيع. روح إبداع اللعبة كان يكمن في نظامها الذي قام على سبيلين اثنين يُطلَب من اللاعب اختيار أحدهما.

ففي سبيل «الازدهار»، يكسب جميع اللاعبين في كل مرةٍ يشتري فيها أحدهم عقارًا جديدًا (بحيث يعكس ذلك سياسة جورج بفرض ضريبةٍ على قيمة الأرض)، والجميع يفوز بذلك! فإذا بدأت اللعبة وكنت أنت أفقر اللاعبين، فسينتهي بك الحال وقد ضاعفت ثروتك. أما سبيل «المحتكر»، في المقابل، فيحاول فيه اللاعب أن يسبق جميع اللاعبين الآخرين بالاستحواذ على الأراضي وجباية الإيجارات من الآخرين الذين يُوقِعُهم حظهم السيئ على أرض هذا اللاعب، والفائز الوحيد هو من يستطيع إفلاس اللاعبين الآخرين (تبدو مثل لعبةٍ نعرفها كلنا؟)

تمثّلت الغاية من مبدأ السبيلين، كما قالت ماجي، في دعوة اللاعبين لرؤية مثالٍ «عملي» على نظام استحواذ الأراضي الحالي وعواقبه وإلى أين سيؤدّي بنا، وكيف أن أنظمة ملكية العقارات المختلفة يمكن لها أن تقودنا إلى مآلاتٍ اجتماعيةٍ مختلفةٍ تمامًا، مضيفةً بأنك «تستطيع أن تسميّها لعبة الحياة. فتحوي اللعبة جميع عناصر النجاح والفشل المستمدة من العالم الحقيقي، والهدف من اللعبة هو ذات الهدف الذي يسعى له بنو آدم، بصورة عامة، وهو تكويم الثروة».

سرعان ما اكتسبت اللعبة شعبية واسعة بين مفكّري اليسار، وفي الجامعات مثل جامعة «وارتون» و«هارفارد» و«كولومبيا»، وأيضًا بين أعضاء طائفة الكويكر، حيث قام بعضهم بتعديل القواعد وإعادة رسم اللوح لتغيير أسماء الشوارع إلى شوارع موجودة في مدينة أتلانتيك. وكان هناك رجلٌ عاطلٌ عن العمل اسمه «تشارلز دارو»، وكان دارو ممن لعبوا النسخة المعدّلة التي ابتكرها أعضاء طائفة الكويكر. نالت اللعبة إعجاب دارو، ليقوم ببيع هذه النسخة المعدّلة إلى شركة الألعاب «باركر برذرز» مُدّعيًا بأنها من ابتكاره.

ولكن قامت الشركة لاحقًا بشراء براءة الاختراع من ماجي بعد اكتشافها للقصة الحقيقية وراء اللعبة، ومن ثَمَّ أعادت إطلاق اللعبة تحت اسم «مونوبولي»، وأعفت الناس من كل تلك القواعد، طالبةً منهم الالتزام بقاعدةٍ واحدةٍ بسيطة: أن الفائز هو من يستطيع أن يدوس بحذاء الملكية الفردية على أعناق جميع اللاعبين الآخرين. وما هو أسوأ من ذلك كان أن الشركة سوّقت للعبة على أساس أنها من ابتكار دارو، فقالوا إن فكرة اللعبة خطرت له في الثلاثينيات قبل أن يبيعها لشركة باركر بروذرز ليصبح مليونيرًا ناسجين من العدم قصةً «ملهمةً» أخرى لإنسانٍ ثريٍّ بدأ من الصفر، ولكن المثير للسخرية هو أن هذه القصة المفبركة اختزلت القيمة المبطنة في لعبة مونوبولي: الهث وراء الثورة وحطّم خصومك، إذا كنت تريد الوصول إلى القمة. لذلك عندما يدعوك أحد أصدقائك للعبة مونوبولي، ما رأيك بهذه الفكرة: عندما تضع بطاقات «الفرصة» و«صندوق الجماعة»، أضف مجموعةً ثالثةً من البطاقات تحت اسم «ضريبة قيمة الأرض» التي يجب أن يساهم كل مالك أراضٍ في دفعها كل مرة يجنون مالًا من الإيجارات. ولكن، كم يجب أن تبلغ قيمة هذه الضريبة؟ وكيف سيتم توزيع هذه الضريبة؟ لا شك أن هذه الأسئلة ستقود إلى نقاشاتٍ حادةٍ على رحاب مائدة مونوبولي. ولكن في النهاية هذا ما أرادت مبتكرة اللعبة ماجي أن يكون.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.