مثّل صدور فيلم Monsieur Verdoux عام 1947، نقطة تحول في مسيرة وسيرة شارلي شابلن، حيث تحوّل من أهم ممثلي الكوميديا في العالم وأكثر النجوم شعبية على الإطلاق، إلى عدو الشعب وهدف لهجوم لا نهاية له. فقد تجرّأ على عبور الجسر من المتشرد سيئ الحظ صاحب المواقف الكوميدية، إلى الوحش القاتل المختبئ خلف ستارة فساد المجتمع ونفاقه، وبالطبع كان لذلك المجتمع ما يقوله عن ذلك.

عندما قرر المخرج الأسطوري «أورسن ويلز»، تقديم فيلم عن قصة القاتل المتسلسل الفرنسي «هنري لاندرو»، كان شارلي شابلن خياره الأول للقيام بدور البطولة، وبالفعل وافق شابلن على المشروع، لكن الخلافات وجدت طريقها بينهما، ليقوم شابلن بعدها بشراء القصة، على أن يحوّلها لفيلم كوميديا سوداء من تأليفه وإخراجه وبطولته، ليُعيد اكتشاف نفسه به بعيدًا عن دوره المعهود في الأفلام السابقة، لكنه لم يكن يدرك أن النتيجة سوف تكون كارثية.

تعاطفًا مع الشيطان

انظروا إليه، هذا الرجل العبقري، لو كان شخصًا سويًا لبحث عن كسب قوته بشكل شرعي، لكنه فضّل سرقة وقتل النساء، لقد حوّل جريمته إلى مشروع تجاري.

«هنري فيردو» موظف في أحد البنوك، قضى الـ 30 عامًا الماضية بتفانٍ، لكن الأزمة الاقتصادية أطاحت به من عمله بجانب أعداد كبيرة من الناس، لكن البطالة ليست خيارًا بالنسبة إليه، كونه العائل الوحيد لأسرته المكوّنة من زوجة قعيدة وطفل صغير، فكان لزامًا عليه البحث عن مصدر دخل آخر.

فتحوّل في ليلة وضحاها إلى قاتل متسلسل، يعمل على إغواء الأرامل المتقدمين في السن، والزواج منهم على أن يحصل على أموالهم بالتدريج، قبل أن يقتلهم ويخفي الجثث، ليقوم باستثمار الأموال في البورصة، رغم ذلك يحنو على قط في الشارع، ويُطعمه في الطريق قبل أن ينشغل في مغامراته، ويعيش حياة هادئة مع عائلته الأصلية في الريف، على أن يتوقف عن تلك الأفعال، بعد جمعه مبلغ معين من المال، يمكنه من العيش بسلام مع عائلته.

وبعد قتل أحد ضحاياه، بعد الزواج منها بفترة قصيرة، تبدأ عائلتها في الشك، خاصةً بعد سحب أموالها من البنوك، ليقوموا بالإبلاغ عنه باستخدام صورة واحدة له، لكنهم يفقدونها، وحيث إنه لا أحد يعلم هويته أو شكله، يستمر في غزل خيوط جرائمه بحرية، متسلحًا بمبرراته وعداوته مع المجتمع، مؤمنا بأن «تلك أيام صعبة… ملايين عاطلون ويعانون من الجوع… ليس سهلًا لرجل في مثل سني أن يكسب قوت يومه».

لكن في وسط مغامراته يقابل فتاة في ظروف مشابهة له، يتبادل معها رؤيته الفلسفية، قبل أن يعزف عن قتلها خلال تجربة لأسلوب قتل جديد، لتعرض له الوجه الآخر للعالم، بعيدًا عن القتل والفقر والجوع، لكنه يستمر في خطته حتى السقوط إلى الهاوية.

من بطل الشعب إلى عدوه

يرى الكثيرون أن شارلي شابلن لم يكن موفقًا في تقديم هذا الفيلم، بسبب موعد صدوره وقضاياه الشائكة، وكونه كان متورّطًا في عواصف مستمرة من الجدل في الولايات المتحدة منذ صدور فيلمه The Great Dictator، عام 1940، والذي انتقد فيه وسخر من الزعيم النازي «أدولف هتلر»، قبل دخول أمريكا الحرب العالمية الثانية.

وقع شابلن ضحية بُعد نظره ورفضه للحرب، كما خرجت تساؤلات عن وطنيته تجاه أمريكا، التي عاش فيها لسنوات طويلة، رغم رفضه التنازل عن الجنسية البريطانية، كما تم اتهامه بالشيوعية والتعاطف مع الاتحاد السوفييتي، بسبب آرائه المختلفة ونقد الرأسمالية والحرب، بالإضافة لمشاكل شخصية عديدة.

صدر فيلم Monsieur Verdoux عام 1947، أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بفترة قصيرة، حيث ما زال الجمهور لم يتعافى بعد من الكارثة، وفقدان الأحبة والخراب، ولم يكونوا على استعداد لتقبل رؤية فلسفية مُظلمة، وقاتل متسلسل يُبرِّر أفعاله ويتهم المجتمع بفعل المثل، مُتهكمًا على الحرب ومُنتقدًا لها، بالرغم من حالة النشوة التي عاشها الأمريكيون بعد الانتصار العظيم في الحرب الكبيرة، الذي يُعد أهم إنجاز عسكري في تاريخ أمريكا.

ففي ذلك الوقت، كانت هوليوود تحاول أن تواسي الشعب بأفلام كوميدية خفيفة، أو أفلام تتعامل مع خسارة الأقارب، والتمسك بالأمل والعزيمة في مواجهة الصعاب، أو أفلام حربية تُعظِّم وتُقدِّر دور المحاربين، وتعرض بطولاتهم وتؤكد على أن تضحياتهم لم تكن بلا مقابل.

فمن غير المنطقي أن يتقبّل الناس فيلمًا آخر ضد التيار تمامًا، يحاول إعادة الناس إلى الواقع الأليم، ومواجهة خسارتهم التي تتحمّلها الحكومة في رأيه، وبالطبع واجه الفيلم فشلًا كبيرًا مع خروجه للنور، وعزف الجمهور عن مشاهدته وطالته انتقادات لاذعة.

وتعرّض شابلن لمعاملة عدائية بشكل غير عادي من الصحافة، مع افتتاح الفيلم في صالات السينما، وخرجت دعوات للمقاطعة ومنعه من العرض، كما خرجت بعض جمعيات المحاربين في احتجاجات، تدعو إلى طرد شابلن من البلاد، وبعض المدن منعت الفيلم بالفعل، حتى أنه في أحد المؤتمرات الصحفية الخاصة بالفيلم، طلب شابلن من الصحفيين قبل بداية الأسئلة قائلًا:

هلموا بسفك الدماء.

بالرغم من ذلك فقد لاقى استقبالًا مختلفًا من النقّاد، الذين امتدحوا الفيلم ورؤيته الفنية، كما أشادوا بشجاعة الفيلم وشارلي شابلن، وترشّح لجائزة أوسكار أفضل سيناريو، وفاز بأفضل فيلم طبقًا للنقّاد، وجائزة أفضل فيلم أمريكي، وحقق نجاحًا هائلًا في فرنسا.

وفي عام 1964، عند إعادة عرض الفيلم في أمريكا، بعد سنوات من رفض شابلن بسبب إحساسه بالإهانة، لأنه حقق أرباحًا ضئيلة جدًا، وكان أفشل أفلامه على الإطلاق، تلقّى الجمهور Monsieur Verdoux بحماس ورهبة، مع حضور أعداد كبيرة لمشاهدته.

ما هي الخطيئة؟

لقد أثنى عليّ الادعاء بأن قال إن لي عقلاً يعمل، ولهذا أنا ممتن، ولـ 35 عامًا استخدمت عقلي بأمانة وعدل، بعدها لم يعد أحد يحتاج ذلك، لذا أُجبرت على إيجاد عملي الخاص.

في مشهد يجب أن يكون ضمن قائمة أفضل المحاكمات في تاريخ السينما، يواجه شارلي شابلن العالم، وينتقد حاله مُحمِّلًا إياه مسئولية ما يعاني منه الناس، كذلك نفاق الشعوب والحكومات عند التعامل مع القتل، فهو يرى أن «اقتل واحدًا تصبح شريرًا، مليونًا تصبح بطلاً، الأعداد تُشرِّع الخطأ يا صديقي.»

أمّا أهم ما صدم الجمهور، هو مقارنة جرائمه كقاتل متسلسل، بما تفعله الحرب، بمنطق أن الحروب تقوم بذلك بالضبط، ويتهم العالم بقتل الأطفال والملايين بلا سبب إلا النفاق والكبرياء:

أمّا بالنسبة لتهمة القتل الجماعي، ألا يُشجِّع العالم ذلك؟ ألا يقوم ببناء أسلحة دمار شامل لغرض القتل بالتحديد؟ ألم تُستخدم في قتل النساء والأطفال الآمنين، وبشكل علمي متطور؟

لكنه يجد بالطبع الوقت للسخرية، ويدّعي أنه يحاول ألّا يفقد أعصابه، لأنه على وشك فقد رأسه.

وفي النهاية يرفض مساعي القس في التوبة، رافضًا وصف ما فعله بالخطيئة، فكل شيء كان مجرد عمل بالنسبة إليه، مثل كل الحروب والصراعات، لماذا هو الوحيد الذي يُحاكم؟ ويختم بقوله:

منْ يعرف ماهية الخطيئة؟! فقد خرجت من الجنة مع الملاك الساقط من كنف الإله. منْ يعلم أي هدف وُجدت من أجله؟!

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.