عندما أبلغه صديقنا المُشترك «يوسف ناصف»، أن هذا الفتى موهوب –نوعًا ما- ومُفلِس حتى النخاع، وبحاجة إلى عمل، وإلا عاد من القاهرة إلى دمياط مشيًا، تلقّيت منه تكليفًا هاتفيًا بكتابة مقالٍ عن رواية «هيبتا» للروائي «محمد صادق»، وحينها كانت حديث الجميع بعد إزاحتها أعمال «أحمد مراد» من على عرش الأعلى مبيعًا لأول مرة منذ سنوات.

المهم، كتبتُ المقال وأرسلته له… بعدها حُدِّد لي موعد للقائه.

قبل دقائق من الموعد المحدد، قطعتُ دروب حي «روض الفرج»، الأنيق متلمّسًا الطريق إلى تلك المقابلة التي ستغيّر حياتي للأبد. فبعد عِدة سنوات كئيبة من العمل مُحاسبًا في إحدى الشركات طلّقتُ ألاعيب الأرقام ركضًا وراء حلمي الأزلي بِامتهان الكتابة.

لم يتوقّف قلبي عن الخفقان مع كل خطوة، وأنا أتوقّع لقاءً عاصفًا أُعصر فيه عصرًا وسينتهي –في أغلب الأحوال- بطردي خارج المكتب ركلًا بالأحذية، مع صيحة غاضبة: «كيف يجرؤ هذا الفسل معدوم الخبرات على طلب العمل معي؟!».

في «اليوم الجديد»

أمام باب شقة صغيرة في عمارة أنيقة بحيِّ روض الفرج القاهري، وقفت هنيهة أمام الباب قبل أن أطرقه، نازعتني نفسي على الركض وليكن ما يكون، لكن أصابعي لم تفعل، طرقت الباب ففُتح معي لأنه لم يكن مغلقًا جيدًا، لتظهر أمامي صالة تأوي مُولِدًا من البشر.

  • من هؤلاء؟! وماذا يفعلون؟!

لا وقت لهذه الأسئلة، فقط نظرة سريعة تتابع هؤلاء السادة المنهمكين في العمل على أجهزة الكمبيوتر وبأيديهم أوراق مطبوعة لا يكفّون عن إجراء التعديلات عليها بأقلامٍ حمراء.

الفوضى تعمُّ المكان؛ صيحات من وقتٍ للتاني «غيَّر صفحة سبعا يا أحمااااااااااد»… «صورة صفحة الفن غلط يا جماعة»… «المُصحِّح اللغوي وصل ولاّ لسه؟!»… «هوا فين أستاذ عبيه؟!».

كان هذا هو السؤال الوحيد الذي فهمته، أين الأستاذ عبيه؟

سألتُ أحدهم فأجاب «هناك. بس هو مشغول جدًا النهاردة، دا يوم التقفيل».

لم أسأل طبعًا عن كِنة هذا التقفيل، فلا وقت لهذه الأسئلة الآن، لا يشغلني حاليًا إلا سؤالٍ واحد وإجابة واحدة. ذهبتُ إلى حيث أشار فرأيتُ 3 أو 4 أفراد متحلّقين حول ورقة عملاقة الحجم –سأعرف لاحقًا أنها نسخة أوّلية من التصور المبدئي لصفحات الجريدة وتُسمّى بلغة أهل المهنة «السبعينة»- يتبادلون الرأي في العناوين التي سيكتبونها، وسطهم عرفته فورًا من صورته التي رأيتها سابقًا على صفحة «فيسبوك» أو ظهر أغلفة كتبه.

ناديتُ عليه فترك ما بيده وهلَّ عليّ، عرفته بنفسي بعبارات موجزة مرتبكة فأجابني مازحًا «عارفك يا حمادة»!

  • حمادة! بُشرة خير، شكله حبوب ولطيف… استُر يارب.

قلتها لنفسي في صمت، بعدها سألني: اشتغلت صحافة قبل كدا؟ أجبته كاذبًا: طبعًا، أنا كتبت كتير في مجلات الكلية.

قضيتُ الليل بأسره لإعداد تلك الإجابة الساذجة –حسبتُها متقنة جدًا وقتها- فدراستي الجامعية كانت في كلية التجارة جامعة المنصورة، وهي كلية نظرية لم يكن فيها أي نشاط صحفي من أي نوع. لكن لا بأس من «الكذب الأبيض» أحيانًا، لعله يُجدي.

  • مقالتك حلوة، وهتشتغل معانا… معلش لازم أمشي دلوقت عشان بقفّل الجورنال، يومين تلاتة وهنكلمك عشان نبدأ الشغل، احنا بنعمل موقع اسمه «اليوم الجديد»، وأنتَ هتبقى ضمن فريق «الديسك» بتاعه.

هل كنتُ سعيدًا؟ خائفًا؟ غير قادر على هضم هذا «اليوم المُربك»؟ متوتر من ذلك المكان المليء بالبشر كعربة مترو في محطة العتبة؟

لا أدري، فلم أجد ما أقوله غير «تمام ياريّس، هنتظر مكالمتك… همشي بعد إذنك».

وما إن غادرتُ الشقة حتى باغتني سؤال مهم جدًا: ما هو هذا «الديسك»؟ وماذا سأفعل فيه؟

لا، لا يهم، هذا ليس وقت تلك الأسئلة، المهم هو أن المقابلة انتهت بنجاح، وباتت «وظيفة الأحلام» –أو هكذا ظننتُ- على الأبواب… والليلة هنا وسرور.

مُحرِّر الديسك الأول

أيامي الأولى في العمل كانت أكثر من كارثية، حسبتُ أنني سأتلقّى تدريبًا ما من أحدهم على أي شيء قبل أن يُلقى بي في أتون العمل اليوم، وهو ما لم يحدث أبدًا.

في يومي الأول بالعمل، بعدما تبادلتُ مع الزملاء تحية باردة تحمل حذر البدايات، أُخبرت بعدها أن الشيفت بدأ و«اتفضّل اقعد دسّك».

  • «أيوة، اللي بيدسّكوا دول بيعملوا إيه؟!»

سؤال تردّد في ذهني بشدة ولم أستطع أن أصرّح به علنًا وإلا قالوا عني «حمار معدوم الخبرات».

المهم، فتحتُ الكمبيوتر وبدأت في محاولات تحسّس ملامح تلك المهمة المجهولة الموكلة إليّ؛ لأجد حشدًا من ملفات الوورد المكتوبة بشكل سيئ للغاية مطلوب إعادة صياغتها ومراجعتها نحويًا تمهيدًا لنشرها لجمهور الموقع الوليد.

قلت في عقلي «سهلة يا واد يا متاريك، الكورة جت في ملعبك، وأنتَ حريف صياغة ومش بطّال في النحو، دوس يا نجم».

بالفعل، «داس النجم»، وتعاملتً مع أحد الملفات وأنهيت صياغته بشكلٍ حسبته جيدًا، ثم أرسلته إلى مدير التحرير لمراجعته حاسبًا أن الانبهار سيملؤه من قمة رأسه إلى أخمص قدميه وربما يصرف لي يومين مكافأة بسبب عبقريتي الفذّة و…

«يا متارييييك، إيه اللي انتَ عامله دا؟ هو فيه حد بيحطّ نقطة (.) في العنوان؟»

  • والله؟ هي لازم تتشال؟
  • وإيه العنوان دا أصلاً؟! وإيه الصياغة دي؟! أنتَ أول مرة في حياتك تشتغل صحافة؟

لم أدرِ وقتها إن كان تكرار كذبة مجلات الحائط ستُجدي نفعًا في مواقف كهذه، فاكتفيت بالصمت، وبادر هو أمامي -مشكورًا- بتحرير كامل للخبر منهيًا كل صياغاتي الجهنمية عليه التي تحمل حسًّا روائيًّا وبلاغيًّا تنفر منه قوالب الصحافة التقليدية بشكل فوري، حسبما سأتعلّم بعدها.

رغم جهوده المشكورة فإنها لم تُجدِ نفعًا في الخبر التالي ولا في الذي بعده فصياغات الأخبار المُصدَّرة منّي كلها غُمرت برائحة أديب الروايات الذي كنته قبل أن أفد على قاهرة الحُسن والجمال… والديسك! وهكذا لم يتوقف الزملاء عن مناداتي تقريبًا مع كل خبر أمرّره، و«كان يوم منيّل بنيلة» لم أرتح فيه على مقعدي دقيقة واحدة.

هذا الأداء المخزي استمرّ معي عدة أيام لاحقة وأصبحتُ عبئًا حقيقيًّا على المكان، خاصةً بعدما وفد على قسم الديسك زملاء أكثر خبرة وتمرسًا لا يضعون نقطة في العنوان ولا يحوّلون الأخبار إلى قصص قصيرة. فيما بعد علمتُ أن أحدهم –وللأمانة كان على حق- اقترح على الأستاذ عبيه التخلُّص منّي ومن تطلعاتي البلاغية، فرفض واكتفى بـ «هو كويس، هييجي منه، اصبروا عليه شوية».

لاحقًا حينما تعمّقت تجربتي في الجريدة حتى تقلّدت منصب رئيس قسم الديسك بها وأصبحت الملفات القديمة في قبضة يدي، طالعتُ تقريرًا رقابيًا عن هذه الفترة قال بالنصّ «أحمد متاريك ملتزم في مواعيده مجتهد في عمله، لكنه صحفي سيئ جدًا، في الحقيقة هو أسوأ صحفي ديسك رأيته في حياتي»، ومنحني كاتب التقرير أقل درجة تقييمية وسط بقية زملائي مع توصية –لا أدرى للمرة الكم- بإنهاء وجودي فورًا.

كيف تغيّر كل هذا إذن؟ وكيف نجوت من هذه المقصلة؟

لأيامٍ متلاحقة، وعقب نهاية كل شيفت كنت أتلقّى مكالمة طويلة من أستاذ عبيه أو «الريّس» كما اعتدتُ تسميته يشرح فيها باستفاضة حجم الأخطاء التي وقعتُ بها وكيفية تصحيحها، وفي بعض الأيام –حال وجوده بالجريدة- كان يُحرّر الخبر أمامي بنفسه كي أتعلّم من أين تؤكل الكتف.

 كان هذا دورًا مشكورًا بكل تأكيد لكن الأهم من ذلك –بالنسبة لي- هو جملة قالها في بداية حديثه «مش عاوزك تقلق، أنتَ بعيد عن الشغلانة وطبيعي يبقى فيه أخطاء كتير، كل دا هيروح بالوقت… وأنا معاك لو احتجت حاجة».

تزامَنت هذه المساعي الحميدة مع مجهوداتي الذاتية في المنزل عقب انتهاء ساعات العمل لتطوير مستواي والتحاقي بدورتين تدريبيتين متتاليتين لتعليم فنون الكتابة الصحفية والديسك، إحداهما كنت تحت إشراف العملاق «حسام مصطفى إبراهيم».

وفي غضون فترة قصيرة تراكمتْ لديّ خبرات كبيرة بدأتُ أشعر بها خلال عملي الذي أصبحتُ فيه أكثر سلاسة وقُدرة على صياغة الأخبار بأريحية، وهو ما تُرجم في أخطاء أقل خلال دورة العمل، وكفَّ الزملاء عن المناداة عليّ وتعديل مواضيعي من الألف إلى الياء حتى تُوِّجت تلك الجهود برسالة مُطمئنة وصلتني من أستاذ عبيه في أحد الأيام من كلمة واحدة هي «عفارم، ميتخافش عليك».

أتذكّر أنني حينها كنت في ختام «الشيفت»، فابتسمت وتراجعت برأسي إلى الخلف محلِّقًا في السقف، واعتبرت أن هذا هو يومي الأول بالصحافة، وإمعانًا في مكافأة نفسي عزمتها على نصف كيلو فراخ مشوية.

في نقض نقد رئيس التحرير

بدأت المياه تجري في مجاريها، ومستواي في العمل يتحسّن كثيرًا يومًا بعد يوم، وهو ما أدين بالفضل فيه لمساعدة زملائي لي ونصائح أستاذ عبيه التي لم تنتهِ.

بشكلٍ عام –وبعيدًا عن سابقة وضع نقطة في العنوان- أنا امرؤ يعشق العربية منذ صغره ويُبجّل كل مَن يمتلك نواصيها ويُجيد التلاعب بالكلِم هنا وهناك حتى يُخرج لنا مقالات مبهرة من غير سوء. أحسبُ أنه أمر مهم جدًا في الوظائف –الإبداعية على الأقل- أن يكون على رأس دورة العمل موهوب يملأ عين مرؤوسيه ويُجبرهم على طاعته بدون مجهود، فيكفيهم أنه قال هذا ليقتنعوا أنه على صواب.

وفي هذا المجال كان الريّس ناجحًا بامتياز مع مرتبة الشرف، أتذكّر أنني مع زميلي أحمد عبد السميع (رئيس الشيفت اليومي ومدير التحرير لاحقًا) كنّا ندخل مكتبه لمعرفة رأيه في فكرة وبعد 10 دقائق من نقاش ثري يحوّلها إلى غابة من الأفكار تكفينا أسبوعًا، يُطلقها عُبيه ببساطة وهو يشرب الشاي وكأنّه أعدَّ لها الأمر مُسبقًا، فأخرج من اللقاء وأحمد يقول لي هامسًا «مش قولتلك، دمااااااااااااغ».

لاحقًا فيما بيني وبين أحمد سنقتنص من عادات العرب القديمة في استعمال أفعل التفضيل للمبالغة فقالوا «أثقل من رضوى… أجود من حاتم الطائي… إلخ إلخ»، فاعتبرنا الريّس مقياسًا لما تكون عليه الجودة الصحفية، وحينما كنا نتحدث عن صحفي مميز كنا نسأل تلقائيًا «أشطر من عبيه يعني؟!».

وهو ما جعلني حريصًا على قراءة مقاله الأسبوعي جيدًا لأتشرّب كيف تُختزل عَظمة الكتابة في 500 كلمة، وفي يوم من الأيام قرأت مقاله فلم يُعجبني! بالطبع كان مُصاغًا كأفضل ما يكون، لكنّي استشعرتُ في نفسي رفضًا لمحاوره الرئيسية ومنطقه العام فقررتُ الرد عليه بمقالٍ آخر.

وأنا أقدّم رجلاً وأؤخر الثانية راسلته «صباح الخير ياريّس، أنا كنت عاوز أكتب مقالة ناقدة لمقال حضرتك الأسبوعي، ممكن؟»، لثوانٍ بعدها راح قلبي يخفق مترقبًا رد فِعله، هل سيسمح لمحرٍّر تحت رايته بمعارضته علنًا في جريدته؟ هل ستُغضبه هذه الخطوة؟

سريعًا جاءني الردّ المطمئن «وماله يا حمادة… انبسط»!

وهكذا تحمّست وكتبت مقالاً أحسبه من أفضل ما كتبت أعطيته عنوانًا عميقًا لم تنسه ذاكرته أبدًا «في نقض نقد رئيس التحرير»، ما إن نُشر حتى أثار زوبعة في الأوساط المحيطة بي. أمر متوقّع بالطبع، فقبلها لم أسمع من قبل عن محرر ينتقد رئيس تحرير جريدة في جريدته! لا أعرف لها مثيلاً –في حدود علمي- لكنها إن كانت حدثت سابقًا فلا ريب أنه أمرٌ نادرٌ في الصحافة المصرية.

المفارقة أن أغلب الإشادة التي ارتبطتْ بالمقال لم تتعلّق بجودة كلماتي ولا سلامة منطقي ولكن إشادة برئيس التحرير ذي الأفق العريض الذي سمح بنشرها من الأساس، ولم يستكبر أن يُعارضه محرر صغير لا يزال يتحسس خطاه في المهنة.

فيما بعد علمتُ أن هذا المقال أثار غضب بعض أعضاء مجلس الإدارة حتى أنهم اقترحوا عقابي بسببه لكن عبيه رفض قائلاً «سيبوه… أنا اللي قايلّه».

كلكم مراهقون إلا عبيه

بمرور الوقت، زادت معارفي الصحفية وزادت معارفي بعبيه وما يفعله عبيه، بعضها أسرار لا يصحُّ قولها، لكن كم من صحفي صغير احتاج لمساعدة وأعانه، وكم متدرِّب شكر الدنيا التي أوقعته حظوظه وبدأ المهنة على يديه ولم يقع تحت رحمة آخرين من الجلاّدين الكفيلين بقفل أبواب الدنيا بالضبّة والمفتاح أمامك.

لم أقابل أحدًا مرَّ بتجربة الدستور أو التحرير وأخبرته أنني أعمل مع الأستاذ عبيه إلا هشَّ وبشَّ وردّد العبارة التي سمعتها آلاف المرات «بختك من السما، اللي مشتغلش مع عبيه ميعرفش يعني إيه صحافة».

حين تشاجرتُ يومًا في جريدة «اليوم الجديد» مع أحد الزملاء فانفعلت وغادرتُ المكان رغم أن الشيفت لم ينتهِ بعد، لاحقني بمكالمة لطيفة كالقطيفة «متزعلش، أنا بعتذرلك عن اللي حصل… بس تاني مرّة مفيش حاجة تسيب شغلك وتمشي، إحنا مش عيال في فصل، ارجع شيفتك تاني».

فرجعت ومن يومها تعلّمت درسًا لا يُنسى في الانضباط المهني. تشاجرتُ بعدها كثيرًا لكنّي لم أتخلَّ عن عملي أبدًا.

ذات يوم، تشاجرتْ زميلة –رحمها الله، كانت تُراسلنا عن بُعد- معنا بسبب خلاف مهني، أحسب أننا كنّا فيه على صواب، اللطيف في الأمر أنها بعد أن وصل بها الغضب ذروته سبّتنا جميعًا «يا شوية مراهقين… كلكم مراهقين وفشلة»، صمتت بعدها قليلاً ثم استشعرتْ خطأها فاستدركت مُصحِّحة «إلا عبيه طبعًا».

بعدها يحين موعد زفافي، أحدّده يوم الجمعة ليكون مناسبًا للأقارب والأحباب إلا الزملاء في الجريدة، لأنه يوم «تقفيل الجورنال»، وهو اليوم الذي بدأت فيه علاقتي الأولى بالصحافة وحدّثتكم عنه بالأعلى.

يوم التقفيل هو اليوم الذي ننتهي فيه من كتابة الجريدة ونستدعي مُصمّمي الجرافيك لتحويل تلك النصوص إلى تصميمات جميلة تجذب انتباه القارئ، وهو عادةً ما يكون يومًا صعبًا مثقلاً بالعمل الذي يجب أن ينتهي –بأي ثمن- في يومٍ واحد حتى تلحق الجريدة بالمطبعة وإلا تأخّر طرح الجريدة في الأسواق، وهي طامة كبرى بكل تأكيد.

لذا كان الالتزام بحضور هذا اليوم مقدسًا، كان أستاذ إبراهيم موسى –مدير التحرير حينها- يقول لنا «لو هتموت يوم التقفيل، ابعت حد من الورثة مكانك، إنما لازم الشغل يمشي».

هنا جاءت المفاجأة غير السارة؛ لن يتمكن أحد من زملائي بالجريدة –وعلى رأسهم عبيه- من حضور فرحي… اللعنة على «التقفيل»!

دخلتُ مكتبه غاضبًا حاولتُ إقناعه غاضبًا بالحضور بكل الطُرُق:

  • مش هينفع يا حمادة، حد قالّك تعمله يوم جمعة؟
  • معقولة يا ريّس مش هتحضر فرحي يعني؟!
  • عاوز آجي والله، بس مش هقدر.

وقبل أن أغادر مكتبه، أخرج من جيبه ظرفًا متخمًا بمبلغ مالي محترم دسّه في يدي على سبيل «النقوط»، قائلاً «أكيد أنتَ على الأبيض دلوقت».

بالفعل «كنت على الأبيض» كأي شاب مصري يستعدّ لزفافه، وجاء تدخُّل عبيه في وقته كالعادة، لكنّي حينها كنت على استعداد للتنازل عن الظرف بمحتواه المُغري حتى يحضر الفرح، وهو ما لم يتم للأسف.

بعدها يرحل أستاذ عبيه عن الجريدة وتستمرُّ تجربتي بها لكن لا تنقطع علاقتي به أبدًا؛ مُرشدًا ومُوجِّهًا، فلا أتوقّف عن استطلاع رأيه بِاستمرار بشأن مقالٍ كتبته أو فكرة أنتوي تحويلها إلى تحقيق، ولا عن التواصل معه من آنٍ لآخر لمجرّد الاستطلاع الإنساني الذي يبدأ عادة بجملة «وأنتَ آخر أخبارك إيه يا حمادة؟»

القطن المصري

كلما بحثتُ عن تشبيه مناسب لشخصية «محمد عبيه»، لا يحتلُّ رأسي إلا مشهد لحقل قطن مصري مزدان برؤس بيضاء تسرُّ الناظرين. تشبيه عجيب والحق يُقال، ربما يأتيني من وحي كتابات أستاذي -وأستاذه- دكتور أحمد خالد توفيق رحمه الله، الذي كان يُشبِّه الشخص السعيد بـ «خنزير في بركة من الوحل» أو «دودة في مقبرة جماعية» وغيرها من التشبيهات العجائبية التي ازدانت بها كتاباته.

القطن المصري ناصع البياض –داخليًا وخارجيًا-، طويل التيلة، ينضح بالخير على كل مَن يتعامل معه، لا يكاد يختلف أحد على جودته وأصالته، كما أنه ابن أصيل ووفي للأرض التي خرج منها.

وهو ما ينطبق على عبيه بالحرف، باستثناء شيءٍ واحد، وهو أن مجد عبيه –بعكس القطن- لن يزول أبدًا، فلا شيء في هذه الدنيا يبقى أكثر من السيرة الطيّبة، وفي هذا الأمر فإن الكثير الذي يملكه يكفي أن تصدح السماء باسمه إلى يوم البعث.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.