بعد حياة طويلة لـ«يزيد المصري» -السكندري المهاجر إلى القاهرة عقب الوباء الذي أهلك جميع أفراد عائلته- زاره في منامه الولي الصالح «سيدي نجم الدين» الذي يصلى دائمًا في ضريحه، آمرًا إياه:

شيّد قبرك جنب ضريحي لنتلاقى كما يتلاقى المُحبِّون.

وفقًا للتكوين السردي الذي شيّده نجيب محفوظ داخل روايته «حديث الصباح والمساء»، كانت شخصية يزيد المصري الأبرز داخل البناء الفني، رغم أن ما كُتب عنه لا يتعدى 15 سطرًا فقط.

هذه المساحة الضئيلة، لم ترسم بروازًا متكاملاً للشخصية رغم ما تحظى به من مكانه، كونها الجد المؤسس لهذا النهر البشري المنحدر بشكل فاقد للتراتبية الزمنية، ففي البداية نجد الحفيد وفي الختام نصل إلى الجد «يزيد»، بدا هذا النهر وكأنه يبحث في مدلوله العام عن أصلهم الأول.

بناء مغاير لشكل الرواية

في كتابه «الإسلامية والروحية في أدب نجيب محفوظ»، يرفض الدكتور «محمد حسن عبد الله» وجهات نظر بعض النقاد الذين يقفزون إلى الملامح السريعة المشتركة ليعدونها نتائج، كـ افتقاد الحارة للجبلاوي وعجز أبنائه عن الوصول إليه، وافتقاد صابر للرحيمي وعجزه عن الوصول إليه أيضًا.

ويُعلِّق حسن عبدالله أنه قد يصح أن الجبلاوي هو الرحيمي وقد يصح أنهما الزعبلاوي في قصة قصيرة ضمن مجموعة «دنيا الله»، كل هذا ممكن لكن من الصعب تقبل أن هذا الملمح الأخير هو خلاصة العمل الفني كله. وإذا كانت شخصية «يزيد» تلحق بهذا الملح في تقديري، فإننا نتفق بالطبع أنها ليست خلاصة العمل.

في واقع الحياة جاء «يزيد» إلى القاهرة وتزوج «فرجة السمّاك» وأنجب منها عزيز وداود، ومن ثَمَّ أجيالًا متواصلة، لكن في طريقة سرد الراوية، نجدها تبدأ بالأحفاد والآباء وصولًا إلى الأب الأول، وكأن محفوظ يُظهِر من خلال ذلك البناء المُغايِر لشكل الرواية التقليدية أن ذلك يمثل في عموميته رحلة بحث الإنسان عن الأصل الأول أو العلة الأولى التي تسببت في كل هذا الثراء البشري في تنوعه وتدفقه.

من ناحيتي، أعتقد أن الرمزية التي تمتع بها محفوظ جعلته يعبر بسهولة عن الرحلة التي شَغلت البشر في مجموعهم، وهي البحث عن العدل المطلق والحق والخير أو البحث عن الله، وقد عبر محفوظ عن هذه التجربة الإنسانية في أكثر من عمل إبداعي، كما لفت آنفًا مؤلف «الإسلامية والروحية».

ومن المفارقات الكبرى في أدبنا الحديث أن «مشكلة الله» تكاد تكون غائبة عنه، رغم مكانة الدين في حياة العرب خصوصًا، وذلك بحسب المفكر السوري «جورج طرابيشي» في كتابه «الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية»، معتقدًا أن سطوّة الدين عززت غياب «مشكلة الله» على صعيد الأدب سلبًا أو إيجابًا.

انتصار الشخصيات على الحبكة

اتكأ محفوظ خلال رحلة الوصول إلى «يزيد» على أكثر من نقطة أبرزها: وحدة الخطاب، ووحدة الراوي، والبناء الفني لمسيرة الشخصيات داخل الراوية… ولكن؛ منْ يكون «يزيد»؟ ولماذا تتحرك الشخصيات باتجاهه فيما يشبه عودة النهر باتجاه المنبع؟

إن غموض النشأة والماضي، وارتباط ظهوره بما يُشبه «طوفان نوح»، أسَطرَّ شخصية «يزيد». فالرجل جاء مُهاجرًا من الإسكندرية بعد ما فتك الوباء بأهله، إلى القاهرة، لكنه كان بمثابة فأل سيئ، حيث تزامن مع مجيء الحملة الفرنسية (1798–1801)، ما دفع صديقه عطا المراكيبي للنفور والتشاؤم منه في البداية.

يتزوج يزيد من بائعة سمك في الغورية، ينجب أولادًا كُثرًا لم يعشِ منهم غير عزيز وداود، ويعمرّ طويلاً، وفي إحدى الليالي تجلى ليزيد في منامه الولي الصالح سيدي نجم الدين، الذي دأب على الصلاة في ضريحه يأمره أن يشيد قبره بجواره كي يتلاقيا بعد الموت كما الأحبة.

هذه الأحداث غير المكتملة تدفع القارئ لتتبع أطراف الحكاية وتجميع أجزاء صورة «يزيد»، مُعتمدًا على الشكل التجريبي المستخدم في طريقة السرد والمتمثل في عرض الشخصيات كـ «بروفايلات» متجاورة يحكمها قانون ترتيب «الألف باء»، بينما تفترض الرواية التقليدية وجود مجموعة من الشخصيات تتفاعل دراميًا لإنتاج حدث وحبكة معينة.

ينتصر الترتيب في «حديث الصباح والمساء» للشخصية ساحبًا الأضواء من الحبكة الدرامية، فالترتيب الألف بائي فتّت الحدث والزمن، واحتفى بالفردية والذاتية لكل شخصية، وعن ذلك الشكل يؤكد «محمد حسن عبدالله» في مقال له عن الرواية -نُشر في مجلة إبداع العدد 12 لشهر ديسمبر 1987- أن حديث الصباح والمساء رائعة الوفاء لحتمية الوراثة والتطور الاجتماعي، قدر وفائها لعامل الإرادة والفردية، الذي يعطي لكل شخصية صورة كاملة بشكل مستقل.

وإذا كان ملمح البحث عن الجبلاوي والرحيمي والزعبلاوي وعاشور الناجي ظهر بصورة مباشرة في أعمال أخرى لـ محفوظ، فإن البحث عن «يزيد» لم يكن صريحًا، ولكن يمكن استنتاجه من خلال رحلة سير الشخصيات، حينما تمضي متجهة بدقة لتصل في النهاية إليه، وكأنه الوصول إلى العلة الأولى لوجودهم.. ولكن، ماذا تحقق بعد هذا الوصول وتلك النهاية؟

صناعة التكرار

لقد ساعد الشكل التجريبي للرواية على دعم مثل هذه الدلالات، ولا بد أولًا من تقدير دور التكرار كـ تقنية فنية أوجدها الشكل الأبجدي لترتيب الشخصيات، فيأتي الحفيد في صدر الرواية لأنه يبدأ بحرف الألف، ويتأخر الجد إلي النهاية لأنه يبدأ بحرف الياء. هذه الطريقة التي كسرت ترتيب الأحداث وتسلسل الزمن، أعطت مبررًا يبدو مقنعًا لوجود التكرار، فهذه الشخصيات سوف تتقاطع أحداثها، وعلى القارئ أن يعيد ترتيب الزمن بشكله الفيزيائي مع عودة كل شخصية لفترتها الزمنية لتكتمل الصورة. هذه العملية التي يقوم بها القارئ يعدها «حسن عبدالله» نوعًا من المشاركة في التأليف، وشكلًا من الجهد العقلي الممتع.

تقاسم الأحداث بين الشخصيات لعب دوره في صناعة التكرار، وأصبح أمام محفوظ مجموعة من الأحداث تعامل معها بالاختزال مرة وبالتجاهل أخرى، أو بالاستباق الذي يُستخدَم لذِكر الأحداث المستقبلية وكشفها، حينها تكون عبارة «محفوظ» مُحمَّلة بالتشويق والحفاظ على بكارة الحدث، فلا يكشف تفاصيله للمتلقي، ويكتفي بالإشارة إليه للتشويق وإثارة الذهن لحين فك غموض الحدث كليًا.

إذ اختصر محفوظ شخصية الطفل «قاسم» في هذه العبارة: «ولم يَسلُ عن حزنه حتى تحطّم واقعه وخُلِقَ خلقًا جديدا لم يجر لأحد على بال»؛ بينما لم يُتِح للقارئ أن يعرف حقيقة هذا «الخلق الجديد» الذى تعرّض له الطفل، وفي تعبير آخر يقول: «وجعل يحبها من بعيد حتى انتزعته مأساته الشخصية من هموم الدنيا جميعا»؛ ولم نعرف تلك «المأساة الشخصية» لكنها إشارات محتفظة بغموضها.

في حرف الباء حيث شخصية «بهيجة» وعلاقتها بـ «قاسم» الذي تطلَّع إلى بنات عمه مُحاولًا العبث مع بهيجة، لكنه وفقًا للرواية: «وجد قلبًا مُحبًا وإرادة من فولاذ». ولمّا تركها وغرق في مأساته مدة من الزمن وعاد يطلبها للزواج نلاحظ تبريًرا للموقف: «أهو اليأس؟ أهو الحب القديم؟ أهو الخوف من الوحدة؟». ولمّا أنجب النقشبندي الذي رغب في السفر إلى ألمانيا، قال له أبوه: «الله معك إني أودعك بلا دموع»، ويتكرر الحدث مرة أخرى في حرف القاف عند شخصية «قاسم» ونجد تكرارًا لنفس الكلمات، هكذا: «لكنه وجد قلبًا عذبًا وإرادة صلبة/ قيل إنه اليأس وقيل إنه الحب القديم/ وودعه قلبه بغير دموع».

يقع التكرار في الرواية على مستويين: الأول تكرار على مستوى الحدث. والثاني على مستوى الجملة. وهو في صورته العامة يعطي نتائج أبرزها: استقلالية الشخصية، فلكل شخصية الحق في سرد ما اشتركت فيه من وقائع والتعبير عن رأيها فيه. أيضًا إعطاء شعور للقارئ بوحدة الراوي الذي يقدم له كل هذه الشخصيات في آنٍ واحد، وخلق حالة من الثقة في هذا الراوي لأن مثل هذا التكرار يُضفي شكلًا من الصدق.

مثلًا، الخصام الذي وقع بين الشقيقين «أبناء عطا المراكيبي» عقب مطالبة «أحمد» باسترداد حقه، جاء مفصلًا في حرف الألف عند عرض شخصية «أحمد عطا المراكيبي» هكذا:

ولكن بتقدم الزمن ونمو الأبناء جاءته المتاعب من حيث لم يحتسب. لم يوافق ابنه الأكبر على الوضع الذي اختاره لنفسه تحت وصاية أخيه وخاض نزاعًا طويلًا عنيدًا مع أمه أولًا ثم مع أبيه ثانيًا، ولم يعف أباه من ملاحقته حتى وعد باسترداد حقه الذي نزل عنه بمحض اختياره. ومن تلك الشرارة اندلعت النيران في أركان الأسرة المتحدة، انتهز أحمد فرصة زيارة محمود للقاهرة لبعض شأنه وفاتحه في الموضوع على استحياء… وتلى ذلك مناقشة مع عدنان الابن الأكبر لأحمد اعتبرها محمود قحة تستحق الزجر. وكان أن خاطب الشاب عمه بشيء من العنف اعتده الرجل جريمة. وسرت النار من فرد إلى فرد. تخاصم الشقيقان.

ويتأخر أخوه محمود إلى حرف الميم ليتكرر الحدث بعبارات أقل:

غير أن ثورة من نوع آخر اندلعت في الأسرة وكان قائدها عدنان ابن أخيه وانشقت الأسرة نصفين متخاصمين.

حلم الوصول إلى الحقيقة

إن محفوظ منح كل شخصية حقها في عرض نفس الحدث، لكنه عند «أحمد» أخذ حوالي صفحة ونصف، فهو يراعي أن الشرارة الأولى بدأت على يد ابنه عدنان الذي ناقش الأم أولًا، ثم ناقش الأب وألّح عليهما، ثم محاولة الأب والابن مطالبة العم بالحق، ثم يأتي ذكر الحدث مرة أخرى عند الأخ «محمود» فيختزله في عبارات قليلة، فهو لا يحتاج إلى ذكر ما دار في أسرة أحمد، وبذلك يؤكد استقلال وفردية كل شخصية.

وفي كلا الموقفين ترد مفردات تقترب من العبارات التي قدّم بها الحدث أولًا، ليخلق شعورًا عامًا بوحدة الخطاب، ووحدة القاموس الذي يغترف منه الراوي، أيضًا ربما للتأكيد على صدق الواقعة، فلم يقع تناقض أو اختلاف عند ذكرها مرة أخرى، ويتأكد القارئ أنه أمام ناقل صادق، يعرض نهره البشري المتدفق صوب المنبع، عكس ما قد نعرفه عن جريان الأنهار باتجاه المصب بالأساس.

ويتساءل حسن عبدالله عن دور الكاتب عندما يسرد تاريخًا بشريًا ممتدًا من قرون التاريخ الضاربة في المجهول، والذي يمضي بنا متضمنًا إيانًا ومستمرًا إلى غدٍ مفتوح لكافة احتمالات التطور. هذا التطور في أي إطار وضعه الكاتب وبأي لون حدد ملامحه؟

من ناحيتي، لقد حدد محفوظ ملامح هذا التدفق البشري بالسعي تجاه الأب المؤسس في «حديث الصباح والمساء»، جاعلًا إيّاه تعبيرًا عن الرحلة البشرية في البحث عن الجبلاوي وعاشور الناجي والرحيمي وزعبلاوي ويزيد المصري، وقد يكون ذلك هو الشكل الرمزي والفني لتجسيد حلم الوصول إلى الحقيقة أو الضمير، أو العدل المطلق، أو الله.

وإن تلونت بعض رحلات البشر في أدب محفوظ بالفشل، أو العثور على نتيجة غير مرضية، من حيث عدم القبض على الشخصية بشكل يقيني، فالأمر في «حديث الصباح والمساء» يعد مختلفًا، لأنه تجاوز نقطة الوصول، فالقارئ وصل فعلًا لـ«يزيد»، لكن هذا النهم الذي وصل به القارئ ليقبض على حقيقة الشخصية سرعان ما تبدد وأصبح سرابًا، لأن القارئ لم يحصل على معلومة جديدة بشأن «يزيد»، فيبدو وكأنه تجسيد لخيبة المسعى الحثيث وراء مثل هذه الشخصية، هذه الخيبة التي تلحق بالخبرة البشرية والميراث الإنساني في مثل هذه الرحلة اللاهثة خلف العدل المطلق المهدور حتى الآن.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.