انتهت مشيخة الشيخ محمد كمُّون لرواق المغاربة بعد أن طعن في السن، (على ما حكيناه في المقالة السابقة) وخلفه في المشيخة: الشيخ «أحمد المصمودي داراً ومنشأً، الفاسي إقليمياً، الأزهري وطناً وتعليماً، المالكي مذهباً، ابن الشيخ عبد السلام المصمودي». ونلاحظ في هذا النسب الترابطَ والتكاملَ في تعدد دوائر انتماء الشيخ المصمودي؛ فبلد النشأة هو «مصمودة» وهي تقع في منطقة «تينمل» القريبة من مدينة مراكش المغربية، ومصمودة اسم قبيلة واسم موطنها الذي نشأت فيه دولة الموحدين بقيادة محمد بن تومرت في القرن السادس الهجري (العاشر وبدايات الحادي عشر الميلادي). وتلك المنطقة كلها تقع ضمن أقليم فاس بالمغرب الأقصى.

ولما كان الشيخ أحمد المصمودي قد هاجر إلى القاهرة والتحق بالأزهر وأقام في رواق المغاربة فقد أضاف إلى دوائر انتمائه أنه «أزهري وطناً وتعليماً»، كما أضاف دائرة انتمائه المذهبي فهو «المالكي مذهباً». وتتابع هذه الدوائر وتناغمها فيه ثراء وجداني وإنساني واجتماعي لا نظير له في دعاوى الانتماء الأحادي العنصري أو القومي، وهو ما نبهنا إليه علامة مصر وحسنة العصر الحكيم طارق البشري، يحفظه الله، حيث يؤكد دوماً على أن تلك الدوائر متآلفة وغير متخالفة رغم تعددها وتنوعها، وهي تبرهن على جامعية الانتماء في الاجتماع الإسلامي، وأنه إطار تعاوني ونسق مفتوح، وليس ذريعة للتعصب أو العنصرية أو الانغلاق على الذات. وكان إدراك هذا المعنى يجري بتلقائية ودون افتعال على نحو ما يرد كثيراً في وثائق الأوقاف، ومنها وثائق أوقاف رواق المغاربة وغيرها من الوثائق التي ترجع إلى ما قبل نشأة الدولة القومية الحديثة في القرن التاسع عشر وما تلاه.

تولى الشيخ المصمودي النظارة على أوقاف الغاربة كما جرت العادة مع توليه مشيخة الرواق. وكان من تلك الأوقاف: وقفيات الأسطى محمد الحلاق، الذي عرفنا قصته في مقالات سابقة، وذلك حسبما ورد في حجة شراء ووقف محررة أمام محكمة القسمة العسكرية في 12 شوال 1277هــ/ 22 مايو 1861م. فبموجب تلك الحجة اشترى شيخ الرواق حانوتاَ بخط الأشرفية بمصر، وألحقه بوقف «الأسطى محمد الحلاق» وجعل شرطه كشرطه وحكمه كحكمه. ومن نص هذه الحجة ومن غيرها من حجج أوقاف رواق المغاربة التي كان الشيخ المصمودي طرفاً فيها، يظهر أن علاقاته كانت حسنة ومتميزة مع أغلب المحيطين به من طلاب العلم المجاورين برواق المغاربة على اختلاف بلدانهم، إذ كان منهم: الفاسي، والطرابلسي، والمصراتي، والجزائري، والسلاوي، وكان منهم أصحاب الحرف والصنائع في حي الأشرفية، وفي الأحياء المجاورة على اختلاف حرفهم؛ ومنهم: القباني، والصباغ، والصرماتي، والزيات، والنقاش، والعقاد، وغيرهم.

استمر الشيخ المصمودي شيخاً للرواق لأكثر من عشر سنوات، ثم خلفه في منصبه الشيخ «أحمد عبد السلام المصوري المالكي الأزهري». وفي حجة شراء ووقف محررة في 27 رجب 1291هــ/9 سبتمبر 1874م، أمام محكمة القسمة العربية بمصر، على يد الشيخ محمد البراني كاتب وقف رواق السادة المغاربة، والوكيل الشرعي عن الشيخ أحمد عبد السلام المصوري، ورد أن الموقوف كان عبارة عن: «قاعة مستجدة الإنشاء بحارة اليهود، من إنشاء وتجديد الذمي (يهود)، البايع لأصل ذلك، المشتمل ذلك على قاعة ومساكن علوية وسفلية ومنافع ومرافق وحقوق، والبائع هو الخواجا عويش بيبي العجمي، اليهودي ولد الذمي يهود البيبي العجمي، الخردجي في الأقمشة وغيره، بخط وكالة عفاش، عن نفسه وبطريق وكالته عن والدته: لونا العجمية بنت إبراهيم وأخواته الثلاث هن: استرينا، وجنينة، وكحلة، من رعايا الدولة العلية العثمانية. وقد تم الشراء والوقف لجهة وقف الناصري محمد بن الزيني موسى الجاري في نظارة شيخ رواق المغاربة الشيخ أحمد عبد السلام المصوري».

ويظهر أن الشيخَ أحمد عبد السلام المصوري ظل شيخاً لرواق المغاربة ما يقربُ من ربع قرن -وكان مرتبه 862 رغيفاً كل يومين من جراية الرواق، وهو مرتب كبير للغاية مقارنة بمن سبقوه وبمن لحقوه من شيوخ الرواق- ثم خلفه الشيخ «على صالح الفزاني بن صالح بن رخيص المغربي الطرابلسي». وتشير حجج أوقاف الرواق التي نشأت في الفترة من سنة 1317هــ/1900م إلى سنة 1330هــ/1912م إلى أن الشيخ الفزاني قام بالشراء والوقف عدة مرات لجهة أوقاف المغاربة أثناء مشيخته للرواق ونظارته على أوقافه، وذلك قبل أن يلقى مصرعه كما أسلفنا في مشاجرة مؤسفة وقعت بينه وبين معارضيه من «هيئة إدارة الرواق» في سنة1331هــ/1913م. وقد عثرت في وثائق الرواق على ست حجج وقفية ترجع لتلك الفترة، وكان الشيخ الفزاني طرفاً فيها بصفته شيخاً للرواق، وبصفته واقفاً لوقفيتين منها من ماله الخاص. والحج الست هي:

1. حجة وقف محمد بدر الدين العيَّادي من أعيان التجار بسوق الغورية، وهي محررة بتاريخ 29 شعبان 1317هــ /2 يناير 1900م، وصادرة من محكمة مصر الشرعية الكبرى. وكان هذا الوقف عبارة عن «نصف حانوت معروف ببيت القهوة بقسم الدرب الأحمر بخط الشوايين بشارع الغورية برأس عطفة خوش قدم». وقد جعله الواقف وقفاً على السادة المغاربة المجاورين بالجامع الأزهر، وجعل النظرَ عليه للشيخ على بن صالح الفزاني شيخ رواق المغاربة.

2. حجة وقف صادرة من محكمة مصر الشرعية الكبرى، في 1318هــ/7 يناير 1900م، لجهة وقف الشيخ محمد أبي عناني. وكان الوقف عبارة عن كامل أرض وبناء المنزل المستجد الإنشاء والعمارة بقسم الدرب الأحمر، وقد اشتراه الشيخ علي صالح الفزاني شيخ رواق السادة المغاربة، وضمَّه لوقف الشيخ أبي عناني.

3. حجة شراء ووقف صادرة من محكمة مصر الشرعية الكبرى، في 30 ذي القعدة 1321هــ/ 17 فبراير 1904م، باسم الشيخ على صالح الفزاني شيخ رواق المغاربة، بمالٍ لجهة وقف الشيخ أبي عناني ابن محمد المغربي الكلتومي المغراوي التلمساني (هذه الحجة مفقودة)، ووقف الأمير مراد بيك أمير الحج الشريف المصري سابقاً (حجته غير موجودة)، ووقف مختار التاجوري بن أحمد التاجوري التونسي المعين بحجة من محكمة بني سويف الشرعية في 4 محرم 1296هــ/29 ديسمبر 1878م، ووقف الحرمة رحمونة وشقيقها الشيخ عقيلة المجاور برواق المغاربة، وهما ولدا الشيخ أحمد الناقة المغربي المسراتي المعين وقفها بحجة من محكمة مصر الشرعية الكبرى في 15 محرم 1270هـ/18 أكتوبر 1853م.

4. حجة التبادل الصادرة من محكمة مصر الشرعية الكبرى في 25 ربيع الأول 1325هــ/8 مايو 1907م. وهذا الإبدال تم عن وقف المرحوم الحاج عبد السلام الشرايبي من أعيان تجار سوق الفحامين بمصر، الذي هو وقف خيري وكان مشمولاً بنظر العلامة الشيخ علي صالح الفزاني المغربي الطرابلسي شيخ رواق المغاربة بالجامع الأزهر. وقد استبدل الشيخُ عليٌ من حسين بيك يونس المغربي التونسي «جميع كامل المكانين المعروف كل منهما بالبيت من جملة بيوت الربع المعروف بالربع الجديد بمصر، بالدرب الأحمر، بخط الشوايين، المعروف (وقتها) بخط الغورية، داخل سوق الفحامين». واستعوض منه لذلك الوقف كاتبه حسين بيك يونس «جميع الحصة التي قدرها النصف على الشيوع في كامل بناء الحانوت المعروفة الآن (وقتها) ببيت القهوة بمصر بالدرب الأحمر بخط الشوايين، الجاري أصلها في أوقاف البيمارستان المنصوري، بما على ذلك من الحكر له، وقدرُه في كل شهر خمسة وثلاثون نصف فضة».

وتذكر حجة التبادل تلك أن هذا الإبدال تم لوجود المسوغ الشرعي وهو: «تخرُّب أحد المكانين المبدل بناؤهما، وإزالة غالب مبانيه بأمر مصلحة التنظيم، وقلة غلة المكان الثاني، وكون المستعوض أكثر قيمة وغلة وأحسن صقعاً من المستبدل المذكور، وفي هذا التبادل حظ ومصلحة ومنفعة للوقف المبدل عنه حسب إخبار الناظر والمستبدل وشهادة الشهود».

5. حجة وقف الشيخ علي صالح الفزاني، الصادرة من محكمة مصر الشرعية الكبرى في 15 جمادى الثانية 1325هــ/16 يوليو 1907م. وقد وقف بموجبها وقفاً أهلياً يؤول إلى الخيرات، وكان عبارة عن منزلين وثلاثة دكاكين من أملاكه الخاصة، وجعل الريع مصروفاً على زوجتيه وبعض أقاربه، ثم من بعدهم يكون مصروفاً على رواق السادة المغاربة المجاورين بالأزهر. ومؤَشرٌ على هامش الصفحة الثانية من تلك الحجة: أنه قد صدر إشهاد شرعي على الواقف الفاضل الشيخ علي صالح الفزاني، بتغيير في إنشاء وشروط وقفيته، على الوجه المشروح بحجة التغيير المحررة بمحكمة مصر الشرعية في 19 جمادى الأولى 1331هــ/ 26 أبريل 1913م، والمسجلة بنمرة 17 متتابعة. ومن هذه التأشيرة نعلم أن الشيخ الفزاني كان على قيد الحياة حتى ذلك التاريخ، ولكن لم نتوصل إلى نص حجة التغيير المشار إليها. وقد أورد الدكتور مجاهد الجندي أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر (رحمه الله)، أن الشيخ علي صالح الفزاني قُتل في سنة 1913م، دون أن يوضح في أي يوم حدثت واقعة مقتله، ودون أن يوضح ملابسات تلك الواقعة المؤسفة، وكل الذي أورده هو أن الشيخ لقي مصرعة في مشاجرة بينه وبين أعضاء اللجنة الإدارية لرواق المغاربة. (مجاهد الجندي: «طلاب وشيوخ ليبيا في رواق المغاربة»، منشور ضمن أعمال ندوة الآثاريين العرب: دراسات في آثار الوطن العربي، د.ت، ص 1543).

6. حجة وقفية أخرى للشيخ علي صالح الفزاني، وهي صادرة من محكمة مصر الشرعية الكبرى في 11 ذي الحجة 1330هــ/1 ديسمبر 1912م. وقد كتب هذه الحجة الشيخ بكري الصدفي، أحد أعضاء محكمة مصر الشرعية الكبرى آنذاك، ومفتي الديار المصرية فيما بعد، وبحضور وشهادة كل من: كاتب وقف المغاربة عبد المجيد أفندي مصطفى، والشيخ مسعود عبد الرحمن نقيب رواق المغاربة. وقد تصدق الشيخ الفزاني بكامل أرض وبناء الدكان الكائنة بمصر بقسم الدرب الأحمر بخط مسجد الملكة صفية قريباً من الداودية، وجعل الريع للصرف على السادة القراء (طلبة العلم) بزاوية ومقام السادة المالكية الكائن بقرافة السيدة نفيسة، فإن تعذر الصرف، صرف للفقراء والمساكين من المسلمين أينما كانوا، وحيثما وجدوا، على الدوام والاستمرار، وجعل النظر لنفسه، ثم لمن يكون شيخاً على رواق السادة المغاربة، وعند أيلولته للفقراء والمساكين، يكون النظر لمن يقرره فيه قاضي المسلمين الشرعي حين ذاك. ويلاحظ أن الشيخ الفزاني خصص ريع وقفيته تلك للقراء في زاوية المالكية بالسيدة نفيسة، وليس لرواق المغاربة الذي كان شيخاً له. وقد يكشف هذا التخصيص عن جانب من أسباب الخلاف بينه وبين اللجنة الإدارية التي احتدم خلافه معها إلى أن وقعت المشاجرة بينه وبينها وراح ضحيتها.

بعد مصرع الشيخ الفزاني، تولى الشيخ «محمد عبد الله التاجوري» منصب شيخ رواق السادة المغاربة، بموجب تقرير من محكمة مصر الشرعية الكبرى بتاريخ 28 ربيع الثاني 1332هــ/25 مارس 1914م. ويكشف هذا التقرير المقتضب عن أن شغل منصب شيخ رواق المغاربة كان يجري ــ قبل تلك الواقعة ــ بالاختيار من بين أكثر من مرشح، وكان الفائز يظل في منصبه مدى حياته، أو إلى حين رحيله عن مصر، ثم يخلفه شيخ آخر بالطريقة نفسها. ولكن هذه الطريقة تغيرت عقب مقتل الشيخ الفزاني، فتم تعيين الشيخ التاجوري بقرار من المحكمة، حسماً للنزاع بين أنصار الشيخ الفزاني وخصومه.

ويظهر من الوثائق أن الشيخ التاجوري استمر شيخاً للرواق مدة عشر سنوات تقريباً، وبعده صار الشيخ «أحمد عبد الله البرجيني» شيخاً للرواق وناظراً على أوقافه ومرتباته، وذلك بموجب تقرير من محكمة مصر الشرعية الكبرى بتاريخ 11 صفر 1342هــ/ 23 سبتمبر1923م، واستمر حتى جمادى الثاني 1365هــ/ 26 مايو 1946م. ونسبة هذا الشيخ ليست إلى قرية «البرجاية» بمركز ومدينة المنيا بصعيد مصر، وإليها ينتسب الشيخ عبد العزيز البرجيني قارئ القرآن الكريم المعروف بالإذاعة المصرية الذي ذاع صيته في ثمانينيات وتسعينيات القرن الرابع عشر الهجري (الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين). وإنما قد تكون للشيخ أحمد عبد الله البرجيني صلة نسب بالشيخ الفقيه أبي محمد عبد السلام البرجيني المغربي صاحب الفتاوى المشتهرة، وهو من علماء القرن السادس وأوائل القرن السابع الهجري (الثاني عشر الميلادي).

ومن التصرفات التي جرت على أوقاف المغاربة في عهد الشيخ البرجيني، صدور قرار من محكمة مصر الشرعية الكبرى في 9 يناير 1930م باستبدال جزء من عقار جار في أوقاف الرواق، لزوم نفاذ شارع الأزهر وللمنفعة العامة، وقدرت المحكمة ثمنه بمبلغ 568 جنيهاً و40 مليماً. وحدث تصرف آخر بالإبدال النقدي لجهة الحكومة لمساحة من أوقاف المغاربة قدرها 45 متراً و65 سنتيمتراً، وذلك لزوم المنفعة العامة بمبلغ 913 جنيهاً، وتم ذلك بموجب قرار من محكمة مصر الشرعية في 5 يونيو 1930م. وقد أقيل الشيخ البرجيني من منصبه بحكم من المحكمة بعد أن أمضى فيه ثلاثة وعشرين سنة متواصلة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.