في 25 يونيو/ حزيران عام 2022 وقع حادث مليلية. 2000 من المهاجرين الأفارقة حاولوا عبور سياج حدودي فاصل نحو مليلية. المدينة مغربية جغرافيًّا، وبعيدة عن إسبانيا، لكنها تقع تحت السيطرة الإسبانية. فيراها المهاجرون البوابة الوحيدة الموجودة على الحدود الإفريقية نحو الجنة الأوروبية.  

ما ثبت عبر تواتر الروايات الإعلامية أن المهاجرين حاولوا عبور السياج، فوصلت قوات الأمن المشتركة، مغربية وإسبانية، لتفريق الحشد الضخم ومنع مرور المهاجرين. اندلعت معركة عنيفة بين الطرفين استمرت ساعتين كاملتين. يقوم فيها المهاجرون باستخدام العصي والحجارة، وتستخدم قوات الأمن الرصاص الحي.

لهذا كانت حصيلة الاشتباكات في آخر اليوم وفاة قرابة 24 مهاجرًا. بعضهم توفي فورًا في وقت الاشتباكات، وتوفي معظمهم في المستشفيات لاحقًا متأثرين بإصاباتهم من الرصاص، أو من التدافع. كما أُعلن عن إصابة 140 عنصرًا من عناصر الأمن المشترك. لم توصف إصاباتهم بالخطيرة، بل وُصفت إصابات القوات الإسبانية بالطفيفة. في وسط الاشتباكات تمكن قرابة 135 فردًا من عبور السياج والفرار للداخل.

كانت تلك المحاولة هي الأولى للمهاجرين بعد عودة العلاقات بين إسبانيا والمغرب. بعد أن دعمت إسبانيا ملف المغرب بخصوص الصحراء الغربية. فقد كانت مليلية وسبتة من أشهر الجيوب التي يتدفق منها المهاجرون نحو إسبانيا. ربما كانت المغرب تضغط بذلك على إسبانيا كي تحصل منها على اعتراف بحق المغرب في الصحراء الغربية، وبمجرد أن حدث الاعتراف تعهدت المغرب بأن تقلل أعداد المهاجرين لأكبر قدر ممكن.

القتلى هم المذنبون

كان من المفترض أن يجري تحقيق فوري لمعرفة ملابسات ما حدث، وسر التعامل العنيف مع المهاجرين، وتحديد المسئولين عن هذا العنف. لكن في ديسمبر/ كانون الأول من نفس العام، أعلنت النيابة العامة الإسبانية إغلاق التحقيق في مقتل المهاجرين. وأن عدد القتلى هو 23، رغم أن منظمة العفو الدولية تؤكد أن القتلى لن يقلُّوا عن 37 فردًا، كحد أدنى.

النيابة الإسبانية استلهمت بيانات المغرب المُرسلة، وقالت إن القتلى لقوا حتفهم جراء السقوط من السياج المرتفع، وإن البقية أصيبت بالاختناق بسبب الذعر والتدافع. لكن استقرت تحقيقات منظمة العفو الدولية على حقيقة أن البلدين ارتكبا مذبحة، على حد وصف المنظمة. كما انتقدت القتل الجماعي والإخفاء القسري وأعمال التعذيب والتمييز والعنصرية.

في حين أن النيابة الإسبانية اكتفت بالقول إنها لم تجد أي مؤشر يُدين قوات الأمن الإسبانية، أو أنهم ارتكبوا جنحًا أثناء تعاملهم مع المهاجرين. كما قالت إن تصرفات قوات الأمن لم تزد في المخاطرة على حياة المهاجرين، بالتالي لا يمكن حتى اتهامهم بالقتل غير المتعمد. ووصفت النيابة الإسبانية المهاجرين بأنهم هم من كانوا عدائيين وعنيفين.

تعتمد السلطات الإسبانية والمغربية في الدفاع عن تحقيقاتها على شهادات أدلى بها عدد من المهاجرين الذين تم اقتيادهم لمركز احتجاز في مليلية. يقولون إنهم جاءوا بالعصي والحجارة من البداية، وإنهم كانوا ينوون عبور السياج بالعنف لا متسللين. وإنهم كانوا أشبه بالمحاربين وهم يحملون العصي والحجارة. وتوقعوا أن تتراجع قوات الأمن أمامهم، لكنهم تفاجئوا بقوات الأمن ترد بالرصاص.

لا مطالبات رسمية بالسيادة

المهاجرون معظمهم قادمون من السودان. ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي يُقرر فيها المهاجرون النزول من مخيماتهم في الجبال المحيطة بالمنطقة للوصول إلى إسبانيا أو العبور منها إلى أوروبا. لكن بافتراض صحة الرواية الإسبانية بأن المهاجرين جاءوا مسلحين من البداية، فإن ذلك يدعو إلى التساؤل. فعادةً لا يكون المهاجرون عنيفين، فلماذا توقعوا أن تكون قوات الأمن عنيفة معهم؟

الإجابة لأنه بعد المصالحة بين المغرب وإسبانيا، وتعهد المغرب بوقف تدفق المهاجرين، قامت القوات المغربية بفرض حصار حول مخيمات اللاجئين دون أن يغادروها من الأصل. أو أن يصبحوا مصدر تهديد أو مهاجرين. كما رصدت العديد من المنظمات الحقوقية قسوة من قبل قوات الأمن في التعامل مع اللاجئين، فلا بد أن تلك القسوة هي التي ولدت لدى اللاجئين الإدراك بأن التعامل معهم لحظة عبورهم السياج لن يكون دبلوماسيًّا.

فقد كانوا سابقًا يراهنون على العداء بين الدولتين. فقد كان مستغربًا أن تكون في أقصى شمال المغرب وتلمح العلم الإسباني مرفوعًا، لا على سفارة أو قنصلية، بل على قطعة أرض كبيرة. والأهم أن لها بوابة عبور حدودية، وتحتاج إلى تأشيرة شينجن الأوروبية لتدخل إليها. وهذه الأجواء الأوروبية تجعل المدينة، سبتة ومليلية، تعيش على فكرة التهريب. تهريب المواد الاستهلاكية من وإلى أوروبا.

الملحوظ على المستوى الدولي غياب أي مطالبات رسمية مغربية بأحقيتها بهذين الجيبين. وإسبانيا من طرفها تؤكد أنهما من حقها، فهما يتبعان العلم الإسباني منذ القديم، قبل أن يوجد المغرب باعتباره دولة مستقلة ذات سيادة وحدود. بالطبع هناك ردود أهلية مغربية على هذه الأقاويل. ويعتبرها المغاربة مناطق لا تزال محتلة من الإسبان. لكن لا وجود لأي مفاوضات أو مطالبات رسمية.

إسبانيا تقود أوروبا بشأن المهاجرين

بعد مرور ما يزيد عن عام على الحادثة، أو المذبحة كما تصفها منظمة العفو الدولية، لم يصدر أي اتهام رسمي لأي فرد. وأعادت المنظمات الدولية الاتهام للدولتين بالتستر على المجرمين بعد مضي عام على الجريمة. الإدانة للمغرب وإسبانيا أتت ليس لأنهما لم يعلنا مسئوليتهما فحسب، بل لأنهما يمنعان أي جهة أهلية أو إعلامية من التحقيق والتقصي وراء المسألة.

فلم تقدم المغرب ولا إسبانيا قائمة كاملة بأسماء القتلى، ولا بأسباب الوفاة. كذلك لم تقدم كاميرات المراقبة لأي جهة رسمية أو أهلية. رغم أن السياج مليء بكاميرات المراقبة المتطورة، ويمكن لتلك اللقطات أن تحل لغز ما حدث فورًا. تمضي المغرب وإسبانيا بذلك على نفس النسق الذي انتهجته اليونان حاليًّا في تعاملها مع قارب المهاجرين الذي غرق قبالة سواحلها، وتشير أصابع الاتهام إلى تعمد اليونان إغراقه.

المأساة الأخرى التي خلقها عدم تقديم أي أوراق رسمية بالقتلى والمحتجزين أن هناك عائلات بالكامل لا يزالون يبحثون عن أقاربهم غير واثقين من مصيرهم. وقدم العديد شهاداتهم للمنظمات الدولية تفيد بأن ذويهم أخبروهم بأنهم سيعبرون الحدود في يوم المذبحة، ومن بعد ذلك لم يعثروا عليهم، ولم يحدث أي تواصل بينهم.

ولم تسمح المغرب لأي فرد يبحث عن مفقودين بالدخول للمشرحة التي نُقلت إليها الجثث لمعرفة أقاربه. كما لم تُفلح تقنية الحمض النووي في التعريف إلا بفرد واحد فقط، بينما الآخرون لا وجود لأقارب لهم في قاعدة البيانات المغربية. لم تتصرف المغرب إلا بعد أشهر طويلة في مارس/ آذار 2023 حين طلبت من العائلات السودانية تزويدها بعينات حمض نووي لتطابقها مع الجثث، وهو ما أصبح مستحيلًا في ظل النزاع الحالي في السودان.

المفارقة أن إسبانيا سوف تتولى هذا العام الرئاسة الدورية لمجلس الاتحاد الأوروبي، وستكون صاحبة الدور القيادي في توجيه مفاوضات البرلمان الأوروبي لأجل إصلاح نظام الهجرة واللجوء في الاتحاد الأوروبي بالكامل. فبينما ستلقي إسبانيا محاضرتها النظرية عن ضرورة تحسين شروط اللجوء ومعاقبة العنف الحدودي، سيظل المئات من الأهالي يطوفون أرجاء المغرب وإسبانيا بحثًا عن ذويهم المفقودين. وستواصل القوات المغربية الإسبانية عنفها المفرط في صد من يحاول تخطي سياج مليلية.