قبل نحو ربع قرن من الزمان، وتحديدًا في 25 ديسمبر/كانون الأول 1991، ذهب الاتحاد السوفيتي أدراج الرياح، وتساقطت أوراق هذه الإمبراطورية العظمى بشكل كامل، تلك الإمبراطورية التي نافست الهيمنة الأمريكية وخاضت صراعًا مع الغرب، لينتقل العالم بعد ذلك إلى حالة من القطبية الأحادية تزداد بها الهيمنة الأمريكية، في مقابل تلاشي النفوذ السوفيتي.

ظلت روسيا الاتحادية هكذا إلى أن جاء القيصر الروسي فلاديمير بوتين، رجل الاستخبارات الغامض، متأثرًا بجرحه الكبير – انهيار الاتحاد وتزايد الهيمنة الغربية – الأمر الذي ولّد لديه رغبة شديدة في إعادة روسيا إلى قوتها مرة أخرى ومحو النظرة الغربية إليها على أنها مجرد كيان غير قادر على التأثير في مجريات الأوضاع العالمية.

مضى بوتين في خطواته في هذا المضمار عبر عدد من الوسائل الدبلوماسية والعسكرية إذا لزم الأمر، وبحنكته السياسيه أدرك أن الشرق الأوسط هو هذه المنطقة التي ستعيد ترتيب أوضاع العالم مرة أخرى، فانطلق إليها مسرعًا، حتى بدأ في ثوثيق علاقات روسيا مع الدول العربية بالمنطقة وجاراتها الإقليمية، وعلى رأسها إيران وتركيا.

وفيما يسير بوتين في طريقه، استطاع دونالد ترامب الفوز برئاسة الولايات المتحدة، واعتمد سياسة تقوم على مزيد من الانخراط بالمنطقة وإعادة توطيد العلاقات مع دولها بعد فترة التراجع في أواخر عهد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، الأمر الذي طرح عددا من التساؤلات حول مدى إمكانية نجاح بوتين في الاستمرار في استراتيجيته للتوسع في الشرق الأوسط، وكيفية توظيفه لسياسات إدارة ترامب لتصب في صالحه؟ وما التحديات التي يمكن أن تواجهه في هذا الإطار؟


القيصر الروسي بين التحديات والطموح

يرى بوتين أن هذه المنطقة من العالم هي التي يمكن أن تعيد لروسيا مكانتها مرة أخرى كقطب من الأقطاب الدولية الكبرى، وأنه على الرغم من عدم سهولة تحقيق هذه المساعي بها نتيجة انتشار الحروب وتزايد السيولة والتدخلات الخارجية، فإنه لا يمكن الانطلاق في أي نظام عالمي بعيدًا عنها، ومن هنا جاءت محاولاته المستمرة لتكريس صورة روسيا كقائد للحوار في مختلف أزمات المنطقة.

فنظرة إلى سياسات روسيا حيال أنقرة ندرك سريعًا كيف استطاعت تجاوز خلافاتها معها عقب إسقاط تركيا لمقاتلتها في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، ووثقت علاقاتها بها، الأمر الذي ظهر جليًا بالأزمة السورية وقيادة الطرفين للأزمة بالتعاون مع طهران.

من خلال الشرق الأوسط أوجدت روسيا لنفسها منطقة نفوذ لتثبت للولايات المتحدة والمعسكر الغربي قدرتها على التأثير في مجريات الأحداث الدولية

كذلك أدى التعاون بين الطرفين إلى تهديد علاقات تركيا مع الغرب حليف الولايات المتحدة كما ظهر خلال الاستفتاء على التعديلات الدستورية، وتبادل الاتهامات بين الجانبين، الأمر الذي يصب في صالح العلاقات مع موسكو، والتي عملت على توثيق التعاون العسكري مع تركيا عبر الاتفاق معها على صفقة صواريخ «400 S» لتقوية أنظمة دفاعها الجوي على الرغم من عضويتها بحلف الناتو، هذا الحلف الذي قام في أحد أهدافه الأساسية على مواجهة النفوذ السوفيتي، الأمر الذي سيؤدي لتوتر كبير في علاقتها مع الحلف في حال إتمام الصفقة.

إلى جانب ذلك هناك تعاونها الوثيق مع إيران، التي لا يكاد يخلو أي حديث من أحاديث ترامب عن الشرق الأوسط من التنديد بالسياسات الإيرانية وضرورة التراجع عن الاتفاق النووي، دون اتخاذ أي خطوات فعلية في هذا الإطار، في حين تستمر روسيا في دعم طهران خاصة في سوريا.

بالانتقال إلى إسرائيل يلاحظ أن العلاقات الإستراتيجية بينها وبين واشنطن لاتزال هي الأقوى دائمًا، لكن ذلك لم يمنع موسكو من محاولة التقارب معها عبر اللعب على الورقة السورية والسماح لها -أو التغاضي- بشن ضربات في سوريا في حال اكتشافها أي محاولات لنقل الأسلحة من دمشق إلى «حزب الله» في لبنان.

وبجولة سريعة إلى المنطقة العربية، نجد أن الدور الروسي بها ظهر بشكل جلي عبر الأزمة السورية سواء من خلال الدعم السياسي أو العسكري لنظام بشار الأسد، فسياسيًا،استخدمت موسكو حق الفيتو ثماني مرات منذ اندلاع الأزمة لحماية الأسد من الإدانات الدولية حول ممارساته، والتي كان آخرها الهجوم الكيماوي على «خان شيخون»، وعسكريًا عمدت لتحويل ميزان القوى على الأرض لصالحه، ضد قوى المعارضة منذ سبتمبر/أيلول 2015، ووجهت بذلك رسالة إلى الولايات المتحدة بأنها تستطيع مد نفوذها وقواتها إلى خارج حدودها وأن لديها قدرة عالية على المناورة.

وقد ظهر هذا من خلال الاحتفاظ بقواتها العسكرية في قاعدتي «حميميم وطرطوس»، وتقوية أنظمة الدفاع الجوي بها عبر نشر منظومة صواريخ «s 300»، و«s 400»، فيما أعلنت مؤخرًا العمل على تعزيز الدفاع الجوي السوري عقب الهجوم الضربة الأمريكية لقاعدة «الشعيرات»، في محاولة أخرى لمواجهة التدخل الأمريكي.

أما عن باقي دول المنطقة، فنجد موسكو قد انتقت منها الدول التي لم تولها إدارة ترامب الاهتمام الكافي، وكانت ليبيا في المقدمة إذ تراجع الدور الأمريكي في الأزمة الليبية، فلم يستجب ترامب للنداءات الدولية لبناء توافق سياسي حول حكومة الوفاق الوطني التي تدعمها الأمم المتحدة، كما لا تزال تصريحاته غامضة لا توضح معالم سياساته تجاهها.

فبينما ينظر ترامب إليها على أنها جزء من استراتيجيته لمكافحة الإرهاب، فإن موسكو تتبع استراتيجية أكثر جدية، تقوم على زيادة دورها بها عبر الدعم السياسي لــ «خليفة حفتر»، الأمر الذي ظهرت دلالاته عبر العديد من الزيارات التي أجراها المسئولون الليبيون إليها، ووصل الأمر إلى حد طلب فايز السراج – رئيس حكومة الوفاق – الوساطة الروسية لحل الأزمة، وعلى الرغم من الحذر الروسي فإن المطالبات بالتدخل دليل على تصاعد هذا الدور.

كذلك انطلقت موسكو إلى الجزائر عبر التعاون في مجال الغاز الطبيعي والصفقات العسكرية، التي من بينها صفقة تتضمن صواريخ «S 300»، تلك الصواريخ التي كانت ترفض روسيا بيعها لسوريا وإيران تحت ضغط من واشنطن نظرًا لأهميتها ودورها في إخلال موازين القوة العسكرية.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل حاولت موسكو كذلك الاستفادة من قرارات ترامب إزاء المنطقة، ففي أبريل/نيسان الجاري حددت الحكومة الروسية قائمة من 18 دولة أغلبها من الشرق يمكن لمواطنيها دخول روسيا دون تأشيرة، وهو الأمر الذي يمكن اعتباره استثمارًا لأخطاء ترامب تجاه رعايا عدة دول عربية ومحاولة منعهم من دخول الولايات المتحدة.

ضمت القائمة الروسية تسع دول عربية، وهي الجزائر والبحرين والكويت والمغرب والإمارات وسلطنة عمان والسعودية وتونس وقطر، بالإضافة إلى إيران وتركيا، وعدد من الدول حيث يطبق على مواطنيها نظام مبسط للحصول على تأشيرات دخول تبقى سارية المفعول لمدة تصل إلى 30 يومًا وتسمح لهم بالبقاء داخل روسيا لمدة ثمانية أيام، الأمر الذي يساعد على استقطاب وجذب السياح والمستثمرين إليها.


الطريق إلى المنطقة مليء بالتحديات

انتقت موسكو الدول الشرق أوسطية التي لم تولها الإدارة الأمريكية الحالية والسابقة اهتمامًا كافيًا، وخلقت لنفسها مساحات جديدة من النفوذ كما في ليبيا وسوريا

على الرغم من كل هذه الجهود التي حاولت بها موسكو إيجاد دور فاعل لها بالمنطقة، فإنها لاتزال حتى الآن غير قادرة على تحقيق أهدافها على النحو الذي تسعى إليه، فلا يزال هناك العديد من التحديات التي تقف حجر عثرة في وجه طموحاتها، منها التالي:

أولًا: إدراك روسيا لحدودها بالمنطقة، فالاستراتيجية الروسية لا تقوم على الصراع مع الولايات المتحدة، ولكن التعاون معها، ولا يرغب بوتين في عودة المنافسة بينهما في شكل حرب باردة جديدة، إذ يعي جيدًا حدود القوة الروسية مقارنة بنظريتها الأمريكية.

ثانيًا: افتقار موسكو للقدرة الكافية لترجمة رغبتها التوسعية والظهور بمظهر القائد، فهي غير قادرة على حسم أزمات المنطقة، الأمر الذي يظهر بشكل واضح في الأزمة السورية، فمازال تفاهمها مع طهران وأنقرة غير قادر على حل الأزمة سياسيًا، ومن المتوقع ألا يتم حلها قريبًا أو بعيدًا في ظل غياب الدور الأمريكي.

ينطبق هذا الأمر كذلك على دورها في الصراع العربي الإسرائيلي، فهي من جانب تؤكد أنها صديقة للجانبين، ومن جانب آخر تظل غير قادرة أو مستعدة للعب دور حقيقي قي عملية السلام. وبرغم محاولاتها لتوثيق علاقاتها بدول التعاون الخليجي، فإن هناك صعوبة أيضًا في هذا المسار نتيجة دعمها لإيران، الأمر الذي سيظل عائقًا أمام تحقيق تطور حقيقي في علاقات الجانبين.

وفي النهاية، يمكن القول إن روسيا بالفعل بذلت ومازالت تبذل جهودًا كبيرة لتوسيع دورها بالمنطقة، لكن ما يمكن أن تقوم به الولايات المتحدة يفوق بمراحل ما يمكن لها القيام به، وفي حين أنها تحاول الاستفادة من الأخطاء أو أوجه القصور الأمريكية، لكن هذا لا يمنع إمكانية وقوعها هي الأخرى في الأخطاء، فيمكن لها أن تلعب دورًا إقليميًا بارزًا إلا أن دول المنطقة – في أغلبها – تفضل العلاقات الإستراتيجية مع واشنطن بغض النظر عن الخلافات والتوترات الحالية.